حرية – (9/3/2024)
فارس الغنامي
توالت هفوات رئيس أميركا الحالي جو بايدن وسقطاته في الآونة الأخيرة، حتى باتت الزَّلات التي تجري على لسانه مثار حرج له وللإدارة الأميركيَّة نفسها، وقد زادت عن الحدّ الذي يُمكن قبوله لمسؤول بحجم رئيس دولة عُظمى تتسيَّد العالم، فالخطأ في دوائر الحُكم الكبرى هذه يُكلِّف الكثير، خاصةً إذا ما تعلَّق الأمر بحروب أو بمصير دول وشعوب، فبالقطع سوف تتحمَّل تبعاته أجيالٌ تعقبها أجيال.
بايدن الذي يتجاوز الثمانين عامًا من العُمر، انعكست سِنَّه على حالته البدنيَّة والذهنيَّة؛ إذ طغت على ملامحه آثارُ الشيخوخةِ المتأخِّرة، وبات مشتَّت النَّظر، فاقد التركيز، يتلعْثم في الحديثِ، ناهيك بأوصاله التي ترتعد وخطواته التي ترتجف، فقد وثَّقت الكاميرات سقوطه أرضًا خلال رحلة له بالدرّاجات الهوائيَّة، وفي أخرى أنقذه طاقم حراسته الخاص من السقوطِ أثناء نزوله من على سُلّم الطائرة.
وإذا ما نظرنا إلى الحالة العقليَّة لبايدن، فافتح القوس واسعًا وقل ما شئت، كونها لم تعد خافيةً على أحد، فالجميع يُدرك ما آلَ إليه حال ساكن البيت الأبيض، الذي أصبح يخلطُ بين الحيّ والميت، والبريء والمُدان، في خطاباته وكلماته، ولا يدري مَنْ قابله اليوم أو التقاه منذ شهور، وقد كانت آخر محطات توهانه عندما ذكر في إحدى كلماته، بمعرض حديثه عن حرب غزَّة «الرئيس المكسيكي عبد الفتاح السيسي»، قاصدًا الرئيس المصري.
لو استعرضنا هفوات بايدن وديمومة سقوطه في فلك الأخطاء الكارثيَّة لوجدناها كثيرةً ومُتعدِّدة، لعلَّ أبرزها حينما كان يُلقي كلمةً أمام جماهيره الغفيرة، واستعاد بذاكرته الضعيفة لقاءً سابقًا جمعه، عام 2021، مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فذكر «ألمانيا» بدلًا من «فرنسا»، قبل أن يُدرك الخطأ ويَعْدل عنه، لكنه سرعان ما وقع في آخر بذكر الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران عِوضًا عن ماكرون.
خلال مأدبة عشاء للحزبِ الديموقراطيّ، وصف بايدن، في خطاب له، سلفه دونالد ترامب بالرئيس الحالي، رغم كونه الرئيس الذي يجلس على كرسي العرش، كما وقع أيضًا في مرمى سُخرية رواد مواقع التواصل بعدما خلطَ بين وزراء في حكومته في خطاب آخر، أما الفضيحة المدوّية فكانت في حفل لجمع التبرعات بنيويورك، قال فيه نصًا إنه “تحدَّث في عام 2021 مع المستشار الألماني هيلموت كول» الذي توفي عام 2017، قاصدًا المستشارة الألمانيَّة السابقة أنجيلا ميركل.
أكثر ما أثار ضجَّة من سقطات الكهل الطامح في ولاية جديدة؛ أنه خلال إحدى زياراته لكندا، وجَّه التحيةَ إلى الصين بدلًا من كندا، ولم يكن هذا هو الموقف الوحيد له مع بكين، فقد سبق ذات مرَّة أن وصف نظيره الصيني بالديكتاتور، وذلك بعد ساعاتٍ من قمَّة جمعتهما سوية، ما أغضب بكين واعتبرتها تصريحات استفزازيَّة.
مثل هذه الأخطاء غير المحسوبة قد تكون سببًا في انهيار علاقات بين دول، وقطيعة تصل إلى حدِّ سحب السُّفراء، لا سيما أنه لا يَشفع لرئيس دولة ما تقدُّمه في السِّنِ أو عدم قصده واعتياده الخطأ، فكلها اعتبارات لا يُعْتد بها في عالم الدبلوماسيَّة والبروتوكولات الرسميَّة بين البلدان، فما بالنا إذا ما كان المُخطئ رئيس الدولة التي تتغنّى بها وتدَّعي الريادةَ فيها.
ووفقًا لهذه المُعطيات، فإن الرئيس العجوز لم يعد قادرًا على قيادة دفّة الحُكم في بلد يُعدُّ القوة العسكريَّة الأولى بالعالم، وصاحب أكبر اقتصاد فيه، والمُتحكِّم الأوّل في أوراق اللعبة السياسيَّة فيه، فالدور الأميركي بلا منازع عابرٌ للقارات؛ يُسقط دولًا وحُكامًا، ويُقيم الثورات، ويُشعل فتيل الأزمات هنا وهناك، ويأتي بمنْ يُحقِّق مصالحه ورغباته.
ورغم أن البيت الأبيض صوَّب لرئيسه كثيرًا من السقطات والتصريحات، مُوضِّحًا مغزاه منها لاحقًا، فإن الكلمة التي تخرج تكون كالرصاصة متى أصابت الهدف لا مردَّ لبقاء أثرها، لذا فإن الأميركيين ساخطون بلا شك من تلك الهفوات المُتكرّرة لزعيمهم، ويرون أنهم أمام مُعضلة الحفاظ على هيبة المنصب، والصورة المرسومة سلفًا لشكل واشنطن الخارجي وسياستها تجاه العالم.
ما زال جو بايدن يطمح الىولاية جديدة، ويسعى لتكرار فوزه على منافسه الأوفر حظًا حتى اللحظة دونالد ترامب، المدعوم بقوة من الحزب الجمهوري، ليُعيد سيناريو الانتخابات الماضية، وهو ما يُثير مخاوف الديموقراطيين الذين لا يثقون بقوى رئيسهم العقليَّة، وقد أكَّد استطلاعٌ للرأي أجراه مركز «نورك» الأميركي لأبحاث الشؤون العامة، أخيرًا، ازدياد عدد الشباب البالغين في أميركا لنحو 60%، والذين يشكُّون في قدرة بايدن العقليَّة على العمل بفعالية كرئيس لبلادهم، إضافةً إلى عدم تمتُّعه بالذاكرة والفطنة اللازمتين لهذا المنصب.
ومن الطريف أن هذا الكهل يحمل بين يديه حقيبةً نوويةً تحمل أسرار ما يقارب الـ5.4 آلاف رأس، تحوي الرموز والمفاتيح التي يحتاجها رئيس الدولة، فماذا إذا ما أجبرته الظروف وقرَّر توجيه ضربة نووية في ظل توترات عالمية وحروب أحد أطرافها يُناصب بلاده العداء كروسيا التي تورطت في حرب مع أوكرانيا ولم تتوقَّف نيرانها إلى اليوم بعدما دفعتها إليها بلاده مع حليفتها أوروبا، أو كشَّرت الصين عن أنيابها لتُوحِّد أراضيها بضم تايوان التي تعبث فيها واشنطن من دون توقف، خلافًا لكوريا الشمالية وإيران اللتين تقفان بالمرصاد لكل تحركاتها وتضعانها تحت المجهر؟
قطعًا لن ينسى عَالمُنا تجربته المريرة والمُؤلمة في الحرب العالمية الثانية وما عانته اليابان من ويلات تلك الأسلحة الفتّاكة وما أحدثته من خراب ودمار فيها، ويبقى السؤالُ الذي يطرح نفسه على الجميع بقوة هذه الأيام؛ وهو هل تثق مؤسسات الولايات المُتَّحدة وإدارة بلادها في بايدن ويتم إطلاعه على المعلومات والوثائق السريَّة في ظل حالة «التوهان» التي يُعانيها حتى تطمئن إليه البقية الباقية من سكان الكرة الأرضية؟!
من المعلوم أن نظام الحكم في أميركا فيدراليّ، وطبقًا لدستورها الذي ينص على أن السلطة التنفيذيَّة في يد الرئيس، إلا أن الأمر في حقيقته شديد التعقيد، فبايدن ليس كما يتصوَّر البعض الآمر الناهي فيها، فهو شبه منزوع الصلاحيات على أرض الواقع لمصلحة هيئته الاستشاريَّة ومؤسساته الأمنيَّة الكبرى، ولن يُسمح له باتخاذ قرار حاسم مثل الحرب – على سبيل المثال – من دون استشارتها، وإن كان الظاهر أنه صاحب الحق الحصريّ في اتخاذ القرار، وفي حال عدم استجابته لذلك؛ فقد يلقى مصير أندرو جونسون، قبل 156 عامًا، الذي كان على وشك العزل من منصبه بعدما تعرَّض لسحب الثقة عبر تصويت في مجلس النواب الأميركي وأنقذه صوتٌ وحيد حينئذ، وأيضًا بيل كلينتون الذي كان على شفا حُفرة من المصير ذاته.
ختامًا؛ لا يُنكر أحدٌ حِنكة بايدن وخبرته السياسيَّة التي دخل دهاليزها مُبكِّرًا عندما أصبح أصغر عضو في مجلس الشيوخ، عام 1973، وكان الأقرب إلى تمثيل الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسيَّة مرتين قبل آخرها 2008، ولكنها لم تتم حينها، واختاره أوباما نائبًا له لترجيح كفته في تلك الانتخابات؛ في مُحاولة لسد ثغراته في مجال السياستين الأمنيَّة والخارجيَّة، ولكن تقدم سن بايدن يجعله غير صالحٍ لحُكم أميركا لولاية جديدة وممارسة سلطاته كاملةً في الواقع.