حرية – (11/3/2024)
راغدة درغام
يدخل العالم الانتخابات الرئاسية الأميركية بين المرشحين المفترضين، الديموقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب، بكثير من الاستهجان لهذين الخيارين لقيادة أميركا، وبقدر كبير من القلق منهما وعليهما. انتخابات قد تكون مفصلية نظراً إلى شخصيتي وعمر الرجلين اللذين يمثّلان الانقسام الأميركي الشعبي، وسط وضوح مأزق كل من الحزبين الحاكمين الجمهوري والديموقراطي، إذا طرأ حادث صحي على أحد المرشحين أو إذا تعرّض أحدهما لاغتيال من نوعٍ أو آخر. أين السياسات الخارجية للولايات المتحدة في الحملات الرئاسية؟ وكيف قد يتأثر كل من المرشحين المفترضين بالأحداث العالمية من الآن حتى موعد الانتخابات في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)؟
القضايا العالمية والسياسة الخارجية مسائل تأخذ المقعد الخلفي في هذه المرحلة، لأن الموضوع الأساسي لكل من حملتي بايدن وترامب داخلي وليس خارجياً، بما في ذلك مسألة الهجرة التي تأخذ حيّزاً كبيراً من الاهتمام.
مطواعية المواقف من المسائل الدولية تشكّل قاسماً مشتركاً بين الحملتين، لأن كلاً من بايدن وترامب لا يريد أن تقيّده القضايا العالمية ويفضل الاحتفاظ بسلاسة القيادة في الملفات لاحقاً. لا حاجة ولا مصلحة للرجلين في الزج بنفسيهما في سياسات خارجية تقيّدهما على المدى البعيد وتسلبهما مساحة المناورة.
لذلك يمكن القول إن السياسات والإجراءات الانتقالية والموقتة ستميّز السياستين الديموقراطية والجمهورية، وإن الرجلين سيتجنبان الوعود القاطعة والبرامج السياسية الثابتة، لا سيما أن المرحلة الراهنة من الأوضاع الدولية عائمة. والكلام ليس فقط عن حرب إسرائيل على غزة أو حرب روسيا في أوكرانيا، لأن هناك أيضاً روزنامة سياسية في محافل دولية ستفرض نفسها بصورة غير مباشرة على الانتخابات الرئاسية الأميركية.
مؤتمر الحزب الجمهوري سيُعقد منتصف تموز (يوليو) المقبل، ومؤتمر الحزب الديموقراطي سيعقد في الأسبوع الأخير من شهر آب (أغسطس). من الآن وحتى تلك المواعيد، يفضل القائمون على مصير الحزبين تجنب التورط في المسائل الخارجية وإبعاد تلك التي تفرض نفسها رغماً عن الأنف الأميركي مثل مسألة إسرائيل، والتي هي عملياً مسألة داخلية في المشهد الأميركي الانتخابي.
العبء في هذا الملف يقع على أكتاف الرئيس بايدن وفريقه، لأنه هو المضطر لأن يتعامل معه، بينما في وسع الرئيس السابق ترامب أن يتجنبه لأنه ليس في السلطة وليس مضطراً لاتخاذ المواقف الجدلية وتبني القرارات الصعبة. كلاهما واضح في دعمه المطلق لإسرائيل ولعزمها على القضاء على حركة “حماس”، ليس بالضرورة فرداً فرداً، بل كبنية تحتية عسكرية. كلاهما سيزايد على الآخر في تقديم الدعم العسكري والمالي لإسرائيل لأنها في حال حرب، ما يعتبرانه تهديداً إرهابياً وجودياً لها.
كل منهما يعتبر أن مصيره الانتخابي يتوقف على دعمه لإسرائيل، لكنّ كلاً منهما يدرك الآن أن عنصر المفاجأة قد يكون في بعض أصوات العرب والمسلمين والسود والشباب الذين يعارضون الانتقام الإسرائيلي الهمجي من المدنيين الفلسطينيين. لذلك هما يوليان الانتباه لولايات مثل ميشيغن، لأن المعركة الانتخابية قد تحسم نتيجة نسبة 2 في المئة من الأصوات.
جو بايدن قد يدفع ثمناً أكبر لأنه هو الرئيس في البيت الأبيض الذي يسرّب فريقه عنه أنه غاضب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يستهين بأميركا ورئيسها الحارد عليه، فيما يتلقى نتنياهو مليارات الدولارات وأسلحة أميركية متطوّرة من بايدن بصفته الرئاسية الاستثنائية وليس عن طريق الكونغرس.
ما كشفته صحيفة “واشنطن بوست” عن إغداق الولايات المتحدة، بالذات إدارة بايدن، على إسرائيل الأسلحة منذ بدء حرب غزة فيما كان الرئيس الأميركي يتذمّر من أداء القادة العسكريين الإسرائيليين نحو المدنيين الفلسطينيين، إنما هو مثال للازدواجية الخبيثة التي سرّبتها، والمتعمّدة تضليل الرأي العام عبر تجنب موافقة الكونغرس العلنية.
هذا لا يعني أن الكونغرس كان سيوقف الإغداقات الأميركية على إسرائيل أو أن الإعلام الأميركي كان سيحرّض الرأي العام ضد بايدن. ففي نهاية المطاف، إن الكونغرس والإعلام الأميركي لن ينقلبا على إسرائيل تعاطفاً مع الفلسطينيين. وهذا سيكون أكثر وضوحاً مع بدء المعركة الانتخابية الرئاسية.
على الذين يراهنون على التحوّل في الرأي العام الأميركي والعالمي نحو إسرائيل أن يدققوا في العلاقة العضوية الأميركية – الإسرائيلية، وأن يترقبوا استثمارات ضخمة في الإعلانات الانتخابية تبيّن إسرائيل “الضحية” أمام “إرهاب” فلسطيني، إعلانات تصوّر حل الدولتين بأنه يشكل خطراً وجودياً على الحليف الإسرائيلي.
الانقسام داخل الحزب الديموقراطي أدّى ببايدن إلى التبعثر في أدائه الإنساني وهو يحاول أن يبدو إنسانياً، وأن يتخذ مواقف تحمي المدنيين الفلسطينيين في وجه التعنّت الإسرائيلي الرافض إيصال المساعدات الإنسانية.
جاء أولاً ببدعة إنزال المعونات الأميركية الإنسانية، ثم ببدعة فتح مرفأ في غزة للمعونات الإنسانية لا تديره قوات أميركية. قد يُقال، من جهة، إن الرجل يحاول. لكن من جهة أخرى، هذا رئيس الولايات المتحدة الأميركية الذي يقف عاجزاً أمام حكومة حرب إسرائيلية متطرفة تضرب بالرئاسة الأميركية وهيبتها عرض الحائط، ما يصوّر جو بايدن عاجزاً وضعيفاً. هذا يفيد دونالد ترامب الذي ليس مضطراً أن يتخذ مواقف مُستهجنة وخبيثة كتلك التي تبناها جو بايدن لأنه ليس اليوم في البيت الأبيض.
يحاول جو بايدن الإبحار بين شقّي الحزب الديموقراطي بمرونة ليقول للجناحين إنه من جهة يحاول التوصل إلى وقف نار وهدنة بين إسرائيل و”حماس”، ومن جهة أنه متماسك في رفض قرارات تفرض على إسرائيل وقف النار الذي يعارضه جناح مهم داخل الحزب الديموقراطي. يلعب بايدن الورقة الإنسانية للفلسطينيين وورقة المساعدات العسكرية لإسرائيل، ويحاول هو وفريقه إبرام الصفقات الانتقالية مع تأجيل للتسويات الدائمة التي تبدو اليوم مستحيلة بسبب رفض إسرائيل لشروطها.
لذلك إن جو بايدن يتجنب، الأمس واليوم وغداً، اتخاذ الخطوات الملموسة الحاسمة والوعود الجدية. فهذه سنة انتخابية، والمطاطية ضرورية بل إنها ذخيرة انتخابية حيث العنوان الأساسي هو: الإجراءات الموقتة والانتقالية، تبنّي سياسة الترقيع وليس سياسة إعادة الخياطة من جديد، وإبداء القدرة على المرونة لاستيعاب احتياجات الحزب الديموقراطي العازم على البقاء في البيت الأبيض ومواقفه.
دونالد ترامب ليس مضطراً من وجهة نظره لإقناع الحزب الجمهوري به لأنه أساساً في معركة معه، ولكن. لكن ترامب يفهم اللغة الانتخابية والتي يرى أن مصلحته فيها تقتضي التأكيد على العناوين الكبرى التي ترضي الحزب الجمهوري، وإسرائيل عنوان كبير فيها. هكذا فعل باختصار متجنباً الخوض في مستنقع التفاصيل التي يغرق خصمه بايدن فيه، لأنه في السلطة.
فدونالد ترامب أيضاً في حاجة للمطاطية والمرونة شأنه شأن جو بايدن. كلاهما سيحاول التملص من الوعود القاطعة لأن العالم في منتصف مشاكله الممتدة من أوروبا إلى الشرق الأوسط إلى آسيا، ولأن الدول تبحث بدورها عن موقع لها في مشهد ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
من الآن وحتى مؤتمر الحزبين، سيحاول ترامب التركيز على ضعف شخصية بايدن وعجزه بسبب كبر سنه. المناظرة ضرورية لترامب لأنها تفتح أمامه المجال لإظهار حيويته ونشاطه. لكن هذه معركة حول شخصية رجلين يعاني كل منهما خللاً فيها. كثير من الأميركيين يعتبرها معركة بين رجلين مُسنين، أحدهما مستفز بغضبه والآخر بمسكنته.
العالم يخشى ارتجالية ترامب العبثية، لكنه أيضاً تعرّف إلى ازدواجية بايدن الخطيرة التي كشفها أداؤه في حرب إسرائيل على غزة. قلة من قادة الدول تراهن على أحد المرشحين، بل إن هناك من يعتقد أن المعركة الانتخابية قد لا تقع حقاً بين هذين الرجلين.
عام 2024 بأشهره المقبلة سيكون مفصلياً، ليس فقط في الانتخابات الرئاسية الأميركية بل بسبب الأحداث العالمية التي جزء منها متوقع وآخر قد يأتي بسبب قرارات قادة تريد الاستفادة من التخبط الأميركي أثناء الانتخابات. وهنا أمثلة:
التوتر يزداد بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (ناتو) وقد يصل الذروة نهاية حزيران (يونيو) لدى تسليم الناتو طائرات F-16 إلى أوكرانيا. عندئذٍ، يقول المسؤولون الروس إن استخدام السلاح النووي التكتيكي سيكون خياراً مطروحاً بجدية. الرئيس فلاديمير بوتين تحدّث باللغة الثورية بنفسه وليس عن طريق الرئيس الأسبق ميدفيديف كالعادة، وكان هذا هو الجديد في خطابه الأخير. ثم إن العلاقة بين روسيا وتركيا (عضو الناتو) تتدهور لأسباب عديدة، وقد تكون أنابيب النفط الروسية – التركية معرّضة لمفاجآت، إذا لم يتم حل الخلافات، بحسب مصادر روسية.
قمة حلف الناتو ستعقد في واشنطن في 9-11 تموز (يوليو) وستفرض نفسها على المرشحين للرئاسة الأميركية. دونالد ترامب لا يخفي انزعاجه من أعضاء الحلف وهو سيستقبل رئيس وزراء هنغاريا المحافظ الذي يشكل شوكة في خاصرة الناتو، فيكتور أوربان، وليس بايدن. فالشعبوية الأوروبية مهمة لترامب، وأوربان يريد أن يمثل المحافظين الأوروبيين.
الانتخابات البرلمانية الأوروبية في حزيران مهمة جداً وهي تفرض أسئلة كبيرة على الانتخابات الأميركية، لا سيما أن جو بايدن يفتخر بإنجازات إدارته في حشد التماسك بين دول حلف الناتو وتوسيع عضوية الحلف متحدياً روسيا ومصراً على دعم أوكرانيا في حربها مع روسيا بالأسلحة والمال، لكن ليس بالقوات الأميركية.
قمة “البريكس” ستعقد في تشرين الأول (أكتوبر)، والكلام اليوم ليس فقط حول عدم توسيع العضوية في هذا التجمّع المعروف بأنه تحت قيادة صينية، وكان سابقاً تحت قيادة صينية – روسية. الكلام يصب في خانة إمكان تجميد البرازيل عضويتها في البريكس، وكذلك جنوب أفريقيا، بعدما بدا واضحاً أن الأرجنتين لن تنضم، كل هذا نتيجة الانتخابات في هذه الدول والتي تفرز قيادات هي أقرب إلى مواقف ترامب من بايدن. أما الهند فإنها دائماً فضلت ترامب على بايدن بسبب العلاقات التجارية والاستراتيجية في عهده.
الصين تبدو هادئة تتجنب المشادة مع الولايات المتحدة، إذا قادها رئيس جمهوري أو ديموقراطي. إنها المنافس الحاضر والعدو المفترض لاحقاً. الآن، اإها تريد الهدوء.
إيران تريد ألّا تستدرج حرباً أميركية أو أوروبية عليها بصورة أو بأخرى. لذلك، وعلى ذمة مصادر مطّلِعة على القرارات الإيرانية الاستراتيجية، لن تسلّم إيران إلى الحوثي في اليمن صواريخ جديدة خوفاً من اكتشاف الغرب لها، وبالتالي تدفع الثمن، وأيضاً لأن طهران ليست واثقة بمدى فعالية الحرب الحوثية. الحوثيون سيستمرون في هجماتهم على الملاحة الغربية في البحر الأحمر إلى حين استنفاد الصواريخ التي لديهم بذريعة دعم الفلسطينيين في غزة. ثم لا نعرف ماذا في حساباتهم إذا قيّدت إيران قدراتهم الصاروخية.
كل هذه الأمور ستستبعد الحملات الانتخابية الأميركية التعاطي المباشر معها لأن الأولوية رئاسية. هذا لا يعني أن الحروب ستتوقف أو لن تتوسع، إن كان في أوروبا أو الشرق الأوسط. لكن مصير المرشحين للرئاسة الأميركية يبقى مهماً لدى صنّاع القرار في عواصم العالم. لذلك، وكما قال أحدهم، استوقفه كثيراً قول أحد الأميركيين له إن القلق ليس فقط من سن بايدن بل من أن يلتقط ترامب لحظة “دالاس” الشهيرة!