حرية – (11/3/2024)
إسطنبول مدينة مهمة في التاريخ، ليس فقط للأتراك، بل لتاريخ العالم ككل، ذلك لأنها استضافت حضارات لا تعد ولا تحصى، ومرت عليها ديانات وأعراق كثيرة ومختلفة، حيث إن هذه المدينة ذات التاريخ القصير الحافل بكثير من الأفراح والأتراح، الآلام والكوارث، تتمتع بسحر يكشف عن نفسه وفقاً لقلب المرء الذي يسكن هذه المدينة المتناقضة.
إذا نظرت إلى المدينة بعيون شريرة فسوف تجدها عبارة عن غابة فيها أرواح شريرة وأرواح غاضبة وأشباح تجوب الشوارع. في المقابل إذا فتحت قلبك لها، وبحثت عن الخير فيها ستجد إسطنبول عبارة عن معجزة تجعل من شوارعها وأحجارها تتكلم ولا تجد فيها إلا كثيراً من المتعة. بعبارة أخرى فإن هذه المدينة تجمع كلاً من مصاصي الدماء وآخرين قلوبهم كقلوب الأنبياء، لذلك خاضت إسطنبول على مر تاريخها حرباً بين الخير والشر، وتركت لنا الخيار.
صاحبة المنظر المجيد المزين بالمآسي والكتلة الحية النائمة كأنها ميت في حضن مرمرة
يقول أحد الأدباء من بلاد فارس في وصف إسطنبول، “هذه المدينة تجسد نفسها بحسب تفضيلاتنا، هناك من لا يستطيع الاكتفاء من جمالها، وهناك العكس، إن إسطنبول مدينة لا يمكن مقارنتها بأخرى في العالم، لن تجد في إيران كلها ما يشبه إسطنبول، أستطيع القول إن الشمس وحدها هي التي تزن إسطنبول، فهي لؤلؤة واحدة بين بحرين”.
الكاتب التركي الشهير توفيق فكرت، يرجح الجانب القاسي للمدينة على رغم جمالها فيخاطبها بالقول، “يا مرحلة الفظائع، يا مدينة الغرور، يا قبر العز والعجب، يا حاكم المشرق، يا حضن الفسق الميمون الذي لا يصدر سوى من العواطف الدموية والكراهية، يا من تنامين في أعماق مرمرة كالميت السليم المعافى، أيتها البيزنطية العتيقة، أيتها الوحيدة العظيمة المقهورة، أيتها العذراء المتخلفة عن ألف زوج، لا يزال في جمالك سحر النضارة، ولا تزال العيون ترتعش عند النظر إليك، يا مشهد القسوة المتباهي، يا صاحبة المنظر المجيد المزين بالمآسي، يا من ترضعين الحب الدامي في حضنك، أيتها المتعطشة للذة، أيتها الكتلة الحية النائمة الغائبة كأنها ميت في حضن مرمرة الأزرق”.
الأقرب إلى الحقيقة
بعيداً من الوصف الذي لا ينتهي لمدينة إسطنبول، فإن لكل حي من أحيائها قصة لوحده، وأسماء أحياء ومناطق إسطنبول تستحق دراسة منفصلة، وذلك لأن معظم ما نعرفه عن سبب تسمية هذه الأحياء بهذه الأسماء هو خطأ، لكنه الخطأ المشهور والمعتمد لدى كثيرين من سكان إسطنبول وزوارها تصديقاً للمثل القائل، “الخطأ المشهور خير من القاموس الفصيح”، لذلك قد تبدو القصص الخطأ عن سبب تسمية هذه المناطق أكثر معقولية من القصص الحقيقية.
على سبيل المثال هناك الآلاف من القصص الرومانسية التي يتم سردها عن “برج الفتاة” و”برج غلطة” الشهيرين، لكن حقيقة الأمر أن البرج الأول كان عبارة عن مركز للشرطة البحرية “خفر السواحل”، أما الثاني فلم يكن سوى برج مراقبة يتم استخدامه لأغراض عسكرية، وهناك كثير من الأماكن التي أُلفت حولها قصص كثيرة لا علاقة لها بالحقيقة التاريخية.
أسماء المناطق في إسطنبول تأتي إما من العصر البيزنطي (أو حتى قبل ذلك)، أو من اسم قصر شهير أو مسجد كبير، أو مؤسسة مهمة سميت المنطقة على اسمها، وفي بعض الأحيان يسمى الحي على اسم شخص نبيل دُفن فيه.
عندما يتم تسمية منطقة باسم شخص ما لا يتم ذلك من أجل الشخص نفسه، وإنما بسبب حدث يخص هذا الشخص أو صرح مهم بناه في تلك المنطقة. فعلى سبيل المثال، لم يتم تسمية حي الفاتح باسم السلطان محمد الفاتح، وإنما سُمي بهذا الاسم لأنه يحتوي على مسجد الفاتح الذي بناه محمد الفاتح، وقبره موجود بجوار هذا المسجد، لذلك نرى أن اسم المنطقة هو “حي الفاتح” وليس “حي السلطان محمد الفاتح”.
هناك إشاعة أخرى منتشرة حول منطقة “جيهان غير” تقول إن السلطان سليمان القانوني كان لديه ابن اسمه “جيهان غير” توفي في سن مبكرة، لذلك بنى السلطان مسجداً يحمل اسم ابنه كما حملت المنطقة أيضاً اسم ابن السلطان، لكن الحقيقة ليست هكذا تماماً، فقد بنى القانوني مسجداً اسمه “جيهان غير”، وسميت المنطقة على اسم المسجد، لكن لا علاقة لولد السلطان الراحل بالقضية، والقصة ذاتها منتشرة أيضاً عن سبب تسمية حي “السعادية” بهذا الاسم، وهناك كثير من الأمثلة التي لا علاقة لها بالحقيقة.
من أصل بيزنطي
في إسطنبول هناك أسماء لأحياء مثل “بنديك” و”سماتيا” و”إستيني” و”بورغازاداسي”، وهي من أصل بيزنطي وقد تركها الأتراك كما هي مع بعض التغييرات الصوتية فقط، ففي حين أن الاسم الأصلي لـ”بنديك” في اليونانية هو “بانتيخيون”، فإن حي “إستيني” يُلفظ في اليونانية “ساسثينيون”.
وهناك مناطق أخرى أخذت أسماءها من المجموعات المهاجرة، ومنها على سبيل المثال حي “تشارشامبا” في منطقة الفاتح، وسمي على اسم مجموعة مهاجرة من سامسون. أما منطقة “يني بوسنا” فكان اسمها “ويران شهير” نسبة إلى مجموعة مهاجرة جاءت من أوروفا، وبعد حرب البوسنة والهرسك عام 1993 تركز اللاجئون البوسنيون في هذا الحي وسمي على اسمهم “يني بوسنا”، التي تعني “البوسنة الجديدة”.
معظم ما نعرفه عن سبب تسمية هذه الأحياء هو خطأ، لكنه الخطأ المشهور والمعتمد
هناك أيضا ربط خطأ لأسماء عدد من أحياء إسطنبول، فعلى سبيل المثال منطقة “بستانجي” لم تسمّ بهذا الاسم نسبة إلى الخضار أو الحدائق، وإنما كان لدى محل “بستانجي أوجاغ” فرع في هذه المنطقة وسميت على اسمه.
وأيضاً “سوق النساء” في منطقة الفاتح، لم يسم بهذا الاسم لأنه كان مكاناً لبيع الإماء أيام العثمانيين، وإنما لأنه أُنشئ كسوق خاصة بالنساء. أما حي “بي أوغلو” فيربطه البعض بأليكسيوس أمير إمبراطورية طرابزون اليونانية، لكن لا يمكننا تأكيد ذلك أو نفيه.
وبينما يعزو البعض اسم منطقة “بشيكتاش” إلى “حاجي بكتاش”، يقول آخرون إن الأهالي أطلقوا عليها هذا الاسم لأنها تشبه المهد، و”بشيكتاش” تعني “الحجر الممهود”. والأساطير كثيرة.
كيف ولدت الأسماء؟
في هذه القائمة مجموعة لطيفة مختارة من بعض المناطق والأحياء التي نعتقد أن مصدر أسمائها مؤكد.
حي بيرم باشا: أخذ اسمه من قصر الصدر الأعظم “بيرم باشا”، الذي خدم في الدولة العثمانية في فترة حكم السلطان مراد الرابع.
تشاغال أوغلو: هذا الحي أخذ اسمه من عبد مسيحي كان اسمه “ألفونسو سيغالو”، وكان هذا الخادم يعمل في قصر الضابط العثماني سنان باشا، وأثناء فترة خدمته أسلم، وترقى في المراتب بالدولة حتى حصل على رتبة “باشا”، وأصبح “تشاغال أوغلو” وسمي هذا الحي على اسمه.
حي حيدر باشا: تمت تسميته نسبة إلى الضابط في القوات العثمانية، الذي كان لديه قصر يحمل اسمه في هذا الحي، وقتل حيدر باشا أثناء الحملة على بوخارست، وبعد قيام الجمهورية سميت أيضاً محطة “حيدر باشا” للحافلات باسمه.
أسماء المناطق عادة تأتي إما من العصر البيزنطي أو من اسم قصر شهير أو مسجد كبير (اندبندنت تركية)
منطقة قاسم باشا: أخذت اسمها من مطابخ الحساء التي بناها الوزير قاسم باشا لكل من السلطان سليمان القانوني والسلطان يافوز سليم.
حي محمود باشا: نسبة إلى أحد الوزراء البارزين في عهد السلطان محمد الفاتح، الذي بنى مجمعاً كبيراً حمل اسمه، وبعد ذلك أطلق اسم محمود باشا على كامل الحي.
منطقة بومونتي: تحمل هذا الاسم نسبة إلى مصنع إنتاج البيرة الشهير “بومونتي براذرز”، لكن خلافاً للاعتقاد السائد بأن عائلة بومونتي حصلت على ثروتها من إنتاج وبيع البيرة، فإن الحقيقة ليست كذلك، بل حصلوا على أموالهم من خلال تجارة الثلج في إسطنبول.
كادي كوي: هو حي ساحلي شهير في إسطنبول، أخذ اسمه من القاضي خضر جبلي، وكان أول قاضٍ في هذه القرية. و”كادي كوي” في التركية تعني “قرية القاضي”.
حي فيفا (الحرف الأول V): نسبة إلى “مجمع الشيخ فيفا” الاجتماعي الموجود بالحي.
على خطى الراحلين
هور هور: كثيراً ما يستخدم الأتراك في حياتهم اليومية مصطلح “هور” للاستهزاء، وكلمة “هور” تعني الشديد أو القوي، واسم هذا الحي منسوب إلى “مياه الهور” أو “المياه القوية” الموجودة في هذه المنطقة.
منطقة إيجادية: كلمة إيجادية مأخوذة من كلمة “إيجاد” باللغة العربية، ومن هنا أطلق الناس اسم “إيجادية” على هذا الحي لأنه كان حياً جديداً أثناء تسميته، وتم فيه افتتاح معامل ومصانع جديدة.
حي “بي أوغلو” يربطه البعض بأليكسيوس أمير إمبراطورية طرابزون اليونانية
جمبرلي تاش: كلمة تاش تعني “حجر”، وعندما تم بناء دائرة حجرية حول العمود البيزنطي الموجود في هذا الحي لمنعه من الانكسار أطلق الناس عليه اسم “جمبرلي تاش”، والمقصود “حجر العمود”.
والقائمة طويلة جداً، لكن مساحتنا محدودة، ولسوء الحظ فإن معظم ما نعرفه عن أسماء مناطق إسطنبول هو خطأ، وعندما أعطى العثمانيون اسماً لمكان ما كانوا ينظرون إلى ما إذا كان “الراحل” المسمى على اسمه المكان قد ترك أثراً أم لا. إضافة إلى ذلك تم الحفاظ على الأسماء التي استخدمتها الحضارات السابقة في الغالب ولم تجر تعديلات عليها، وهذا أحد أسباب عظمة إسطنبول التي ظلت إحدى قلاع السلام والهدوء القوية لقرون عدة.