حرية – (16/3/2024)
في الجزء الأَول من هذه الثُلاثية عرضتُ كيف لم يعُد برج بابل مجرد رمزٍ لِلَّغْطِ في اختلاط اللغات وتعدُّدها، وفي التعبير عن سوء التفاهم بين أَفرقاء لا يتفاهمون ولا يبلُغون نقطة اتفاق. وهو برمزيته دخَل مع الوقت إِلى عالم الأَدب والفن فظهَر في مؤَلفات عدَّة عبر أَنواع مختلفة من الكتابات، كما في الجزء الثاني من هذه الثلاثية وفيه لوحتان لبيتر بروغْل وقصة قصيرة من خورخي لويس بورخيس.
فماذا عن اللوحتين وعن القصة القصيرة؟
بيتر بروغْل: “البُرجان”
لعلَّ بيتر بروغْل الأَب (1530-1569) من أَكثر الرسَّامين الذين تأَثَّروا بأُسطورة “برج بابل”. وهو من أَبرز فناني عصر النهضة الأَلمانية والفلمنكية. اشتهر برسمه المناظر الطبيعية ومشاهد الفلاحين.
وكان من تأَثُّره أَنْ لم يرسُم للـ”برج” لوحة أَو اثنَتَين، بل ثلاثًا لم يصلنا منها سوى اثنتين: “برج بابل الكبير” و”برج بابل الصغير”. الأُولى (وهي الضائعة) صغيرة منمنمة على قطعة عاج رسمها بروغْل حين كان في روما، والأُخريان زيتيَّتان على خشب: إِحداهما اليوم في فيينا (“متحف الفنون الجميلة”) والأُخرى في روتردام (“متحف فون بونينْغِنْ للرسم والفنون الجميلة”).
بيتر بروغْل: رسم ذاتي بريشته (1565)
ويرى نقَّاد الفن وتاريخه أَن انبهار بروغْل بأُسطورة برج بابل، عائدٌ إلى كونه عاش في جوٍّ كان فيه بين تقاليد الكنيسة الكاثوليكية والتيار البروتستانتي.
لوحة “برج بابل الصغير” هي تقريبًا نصف حجم لوحة “برج بابل الكبير”، وتبدو الاثنتان متشابهتَين تقريبًا، فيهما ورشةُ بناء برج بابل بضخامته وعُلُوِّه. ويجد البريطاني الناقد ومؤَرخ الفن جون مالام (م. 1957) أَن شكل البرج في رسم بروغْل يشبه كثيرًا شكل المدَرَّج الكبير (“الكولوسيوم”) في روما. وكما هذا الأَخير يمثِّل عظمة الأَمبراطورية الرومانية، هكذا شكْل “البرج” بريشة بروغْل يمثِّل عظمة العمل على ذاك البناء الأُسطوري الضخم.
وفيما لوحة “برج بابل الكبير” (1563) تُظهره على طرف المدينة، وعند قاعدته يبدو نمرود ورجاله في وضع إِعادة بناء البرج (كما ورد في كتاب “ساعات بدفورد” – ذكرتُه مفصَّلًا في الجزء الأَول من هذا المقال)، لوحة “برج بابل الصغير” )1563 أَيضًا) تُظهرُ البرج محاطًا بثلات جهات من المدينة من دون أَيِّ حضور لناس حوله أَو عند قاعدته.
بيتر بروغْل: “برج بابل الصغير”
خورخي لويس بورخيس: “مكتبة بابل”
بهذا العنوان أَصدر الكاتب الأَرجنتيني بورخيس (1899-1986) قصته القصيرة سنة 1941، راويًا، كما يشرح الراوي فيها، أَحداثًا تجري في كنَف مكتبة كبرى مشكَّلَةٍ بعدد لا يحصى من القاعات السُداسية الأَضلاع. وكان بورخيس، سنة 1938، مدير المكتبة البلدية في بوينُس أَيرس (وظيفة طُرِدَ منها لاحقًا سنة 1946 بسبب معارضته حكْم بيرون، فتولى وظيفة “مراقب الأَرانب والطيور الداجنة في الأَسواق الشعبية”). لكنه عام 1955 عاد فعُيّن “مدير مكتبة الأَرجنتين الوطنية” إِلى أَن استقال من هذه الوظيفة سنة 1973 لدى عودة بيرون من المنفى.
عملُه في المكتبة البلدية، ولاحقًا الوطنية، أثَّر في جعل قصته القصيرة “مكتبة بابل” تجري في كنف مكتبة ذات قاعات متعدِّدة، وفي كل قاعة عددٌ كبير جدًّا من الكُتُب غير المتَّسقة وغير الموحَّدة الترتيب وفق الأَحجام أَو المواضيع أَو المؤَلفين أَو الرفوف، تمامًا كاللغط الفوضوي في برج بابل، وليس من تنسيق إِلَّا مصادفةً وفي عدد قليل جدًّا من تلك الكتب المتباعدة بين رف في المكتبة وآخر من دون أَيِّ معيار. من هنا، يقول الراوي في القصة، أَن الكتُب غير المتّسقة هي من لغات مختلفة متباعدة.
خورخي بورخيس: تأْثير برج بابل
يقود هذا إِلى القول إِن كثيرين يجدون الكتُب من دون منفعة في هذا العالم، كما عدد كبير من مسؤُولي المكتبات الذين يعمدُون أَحيانًا إِلى إِهمال عدد من الكتب المتفرقة أَو الغريبة المواضيع واللغات، وربما إِلى السعي لإِتلافها، معتبرينها غير قابلة للقراءة السهلة، مع أَن عددها مهما زاد يبقى ضئيلًا حيال آلاف الكتب الأُخرى على رفوف القاعات. ويكون (في القصة طبعًا) أَتباع طائفة ملعونة يبشِّرون بأَنَّ على جميع الناس أَن يحزروا بين الكلمات الغريبة واللغات الغريبة حتى يتمكنوا ، ولو بعد كثير عناء، من فك الرموز والأَلغاز في تلك الكلمات واللغات حتى ينكشف لهم النص فيكملوا قراءَة القصة.
ويعمل سائر مسؤُولي المكتبات على عرض كتب مفهرسة واضحة في مجموعة المكتبة أَو الإِشارة إِلى كتاب سائغ في محفوظات المكتبة مما ليس معروضًا على الرفوف أَمام الزائر.
كل هذا يعرضه بورخيس في قصته القصيرة هذه، حتى يتبيَّن للقارئ مدى التأْثير الذي كان في بال المؤلف وهو يضعها ملمحًا إِلى برج بابل الذي ظهر إِبَّان اهتمامه بفوضويات كتُب المكتبة.
غلاف قصة بورخيس “مكتبة بابل”
التتمة في الجزء الثالث والأَخير من هذه الثلاثية