حرية – (20/3/2024)
حدد بحث جديد التاريخ الدقيق الذي يرجح بدء البشر بنطق الكلام فيه.
ويشير تحليل لعالم الآثار البريطاني ستيفن ميثن إلى أن البشر الأوائل ربما بدأوا بتطوير لغة بدائية أولى منذ حوالى 1.6 مليون عام، في منطقة ما بشرق أفريقيا أو جنوبها. وبحسب ميثن، البروفيسور في عصور ما قبل التاريخ بجامعة ريدينغ البريطانية، “إن اكتساب البشرية للكلام كان بلا شك بمثابة حافز محوري للتطور الجسدي والثقافي اللاحق. وهذا يؤكد أهمية تحديد تاريخ ظهور الأشكال الأولى للغة”.
وحتى زمن قريب، اعتقد معظم خبراء التطور الإنساني بأن البشر لم يشرعوا في التحدث إلا منذ نحو مئتي ألف عام.
ويقترح بحث للبروفيسور ميثن نشر هذا الشهر أن اللغة البشرية البدائية أقدم من ذلك الاعتقاد بنحو ثمانية أضعاف. وقد استند بحثه إلى دراسة مفصلة لكل ما توافر من أدلة في علوم الآثار والتركيب التشريحي التطوري للجنس البشري والجينات والأعصاب واللغة. ومع تجمع تلك المعطيات، بدا أن كل الدلائل تشير إلى ولادة اللغة كجزء من وضعية التطور الإنساني، إضافة إلى تطورات أخرى، قبل ما بين مليوني و1.5 مليون عام.
يذكر أن كان هناك تسارعاً ملحوظاً في نمو حجم الدماغ البشري، بخاصة منذ قرابة مليونَي عام قبل الميلاد، مع ارتفاع ملحوظ يسبق التاريخ الميلادي بنحو 1.5 مليون عام. وترافقت تلك الزيادة في حجم الدماغ مع إعادة تنظيم بنيته الداخلية، بما في ذلك الظهور الأول لجزء في الفص الجبهي للمخ يرتبط تحديداً بالقدرة على إنتاج اللغة وفهمها. ويعرف العلماء ذلك الجزء باسم “منطقة بروكا” التي يبدو أنها نشأت عبر تطور حدث في التراكيب الأولية المسؤولة عن قدرة البشر على التواصل بإيماءات من اليد والذراع.
[الفص الجبهي هو القسم من المخ الذي يقع تحت عظام الجبين. ويرتبط بالأعمال المقصودة والتخطيط لها. واكتشف العالم الفرنسي بيير بروكا المنطقة المرتبطة باللغة في ذلك القسم من المخ].
وكذلك يقترح البحث العلمي الجديد أن ظهور “منطقة بروكا” ارتبط أيضاً مع تحسن في أعمال الذاكرة، إذ يعتبر ذلك عنصراً حاسماً في تكوين الجُمل. ولكن، ثمة مجريات أخرى في التطور أدت دوراً حيوياً أيضاً في ولادة تلك اللغة البدائية. وعلى نحو شبه مؤكد، بدأت عملية التغيير في شكل الحبال الصوتية وعملها بما يجعل التحدث أمراً مستطاعاً، بالترافق مع ظهور أشكال أكثر تقدماً من المشي على القدمين مع استقامة الجسم، وتزامنت مع تغيرات في شكل الجمجمة البشرية قبل نحو 1.8 مليون عام.
طوال مئات آلاف الأعوام، تطورت اللغة ببطء، وتزايدت بصورة مطّردة في التعقيد حتى وصلت إلى مستوى عالٍ من التطور
ثمة دليل محوري آخر يدعم الفرضية القائلة إن البشر بدأوا التحدث قبل نحو 1.6 مليون سنة قبل التاريخ الميلادي مستمدة من السجل الأثري. الفكرة هنا هي أن البشر، على عكس عدد من الحيوانات الأخرى، لم تكن لديهم قوة بدنية استثنائية. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون الاعتماد فقط على براعتهم البدنية للبقاء على قيد الحياة والازدهار في بيئتهم. وبدلاً من ذلك، كانوا بحاجة إلى تطوير استراتيجيات وقدرات أخرى للتعويض عن هذا الضعف. إحدى هذه الاستراتيجيات كانت تطوير اللغة.
وضمن المعطيات التطورية، شكلت اللغة بصورة شبه مؤكدة، جزءاً من استراتيجية تعويض النقص في القوة الجسدية. وبغية قنص الحيوانات الكبيرة (أو أثناء عملية فصل اللحوم عن عظمها، بهدف إبعاد الحيوانات المنافسة منها)، احتاج البشر الأوائل إلى قدرات كبيرة في تنسيق أعمال المجموعات والتخطيط لها، ومن شأن تطوير لغة حينذاك أن يؤدي دوراً حاسماً في ذلك [التنسيق والتخطيط]. وعلى نحو له دلالة زمانية بارزة، ابتدأ الإنسان بالتصيد قبل نحو مليوني عام، لكن ذلك الأمر تسارع بصورة جذرية قبل نحو 1.5 مليون سنة. وكذلك شهدت الحقبة التي سبقت التاريخ الميلادي بنحو 1.6 عام، ولادة تكنولوجيا بالغة التطور في الأدوات الحجرية، وقد تناقلتها الأجيال ثقافياً. وبشكل قوي، يوحي ذلك التناقل الطويل الأمد للمعارف والمهارات، من جيل إلى آخر، بوجود الكلام والتحدث به.
وأبعد من ذلك، يرجح أن الاتصال اللغوي أدى دوراً محورياً أتاح للبشر البقاء على قيد الحياة ضمن مناطق متباينة بيئياً ومناخياً. ولعله ليس من المصادفة أن البشر استطاعوا تسريع توطنهم في العالم قبل نحو 1.4 سنة، أي بُعيد الزمن المرجح لولادة اللغة. وقد أعطت الأخيرة للبشر القدرة على النهوض بثلاثة أشياء تستلزم تخطيطاً مسبقاً، تتمثل في تصور أفعال مستقبلية والتخطيط لها، إضافة إلى تمرير المعرفة للآخرين.
وأورد البروفيسور ميثن أنه “على ذلك النحو، غيرت اللغة قصة الإنسان بصورة عميقة”. وفي بحثه الجديد المُبين في كتابه الجديد “متاهة اللغة” الذي نشر هذا الشهر، يقترح ميثن أنه قبل نحو 1.6 عام، امتلك البشر قدرة محدودة على التواصل، بل لعلها لم تزِد على عشرات من الإيماءات والهمهمات الضوضائية التي ليس بالمستطاع استعمالها إلا ضمن سياقات محددة، وبذلك لا يمكن استعمالها بهدف التخطيط المسبق للأفعال. وبهدف النهوض بأمر التخطيط، ثمة حاجة إلى وجود قواعد لغوية أساسية وكلمات منفردة مستقلة.
ويقترح بحث البروفيسور ميثن أيضاً وجود ما يبدو بمثابة تواصل بين اللغات البشرية الأولى ونظيراتها الحديثة. وبصورة لافتة، يعتقد ميثن بأن بعض ملامح من ذلك التطور اللغوي الأول الذي حدث قبل 1.6 مليون عام، ما زال متلبثاً في اللغات الحديثة اليوم. ويقترح أن الكلمات التي تصف، سواء عبر الصوت أو المسافة، الأشياء المتضمنَة في معانيها، تندرج بشكل شبه مؤكد ضمن الكلمات الأولى التي تلفظ بها البشر الأوائل.
وبالتأكيد، لعل بحوثاً مستقبلية تقدر على إعادة تكوين التنظيم والتركيب المرجحين لتلك اللغات الأولى. وعلى رغم ما يبدو من أن ولادة اللغة حدثت قبل 1.6 مليون عام، إلا أنها مثلت بداية التطور اللغوي، وليس خاتمته.
وطوال مئات آلاف الأعوام، تطورت اللغة ببطء، وتزايدت بصورة مطّردة في التعقيد حتى وصلت إلى مستوى عالٍ من التطور بعد ظهور الإنسان الحديث بتركيبه التشريحي المعروف، قبل 150 ألف عام.