حرية – (28/3/2024)
“حسناً. هل نحن مستعدون لهذا الأمر؟”، سألت صديقتي وثبتت عينيها على عيني. ما زلنا في السيارة. نستطيع العودة. هززت رأسي. “الأرجح لا. لقد قطعنا كل تلك المسافة”.
في الواقع، وصلنا إلى قاعة في قرية بمكان مجهول في صبيحة يوم سبت، كي نجرب شيئاً لم تفعله أياً منا قبل ذلك: رقص النشوة. يجب ألا يلتبس أمره مع أي تمرين جسدي معياري. إنه ليس فصلاً مخصصاً لـ”ضخ الطاقة في الجسد” الذي يحضك على أداء حركة تتشابه بشكل محرج مع رقصة تتضمن هز الحوض بشكل مثير جنسياً (توركينغ) مع ارتداء ثياب شبه رياضية باهضة الثمن بشكل فائق وملتصقة بالجسد من ماركة “لولولمون”. يفترض أن هذا الأمر أقرب إلى العلاج.
وليس من وقت أفضل من هذا لتجربته في خضم ظهور بحث حديث يكشف عن أن الرقص يشكل أحد أفضل العلاجات في العالم للكآبة المرضية. ونشر باحثون أستراليون دراسة في “المجلة الطبية البريطانية” خلال فبراير (شباط) 2024 تظهر أن الشكل الأشد فاعلية للتمارين الرياضية في تخفيف أعراض الكآبة، يتمثل بالرقص الذي يتفوق على المشي والهرولة واليوغا وتمارين تاي تشي وتدريبات رفع القوة البدنية. لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه [الرقص] تفوق على العلاج السلوكي الإدراكي cognitive behavioural therapy ، اختصاراً “سي بي تي” CBT، الذائع الصيت وأدوية المنع الانتقائي لاستعادة السيروتونين، اختصاراً “إس إس أر آي” SSRI.
[تعمل أدوية “إس إس أر آي” على منع خلايا الدماغ من التخلص السريع من السيروتونين عبر إعادة امتصاصه من محيطها حينما يفرز فيه. ويؤدي ذلك إلى انخفاض مستويات تلك المادة، لأن إعادة امتصاصها تتضمن عملية تكسيرها. ومع إحباط تلك العملية، يتراكم السيروتونين في الدماغ، مما قد يسهم في تخفيف أعراض الكآبة. ويستند العلاج السلوكي الإدراكي إلى التدريب على التعرف إلى الأفكار القاتمة المرافقة للكآبة، مع خوض تجربة دحضها. ويضاف إلى ذلك تدريب على سلوكيات منتقاة من الحياة اليومية للمريض حينما يلاحظ أنها ترفع معنوياته وتؤثر إيجابياً فيه].
لم تحدث لي أدنى مفاجأة حينما رأيت تلك النتائج. لقد جربت كل أنواع الرقص تقريباً في آونة أو أخرى، بداية من البالية إلى الرقص الإيرلندي في طفولتي (وأكسبني الأخير الظهور كضيفة في المسلسل التلفزيوني “لعبة الأجيال” The Generation Game، ولا جدال في أنه شكل نقطة مضيئة بارزة ضمن مساري المهني)، إضافة إلى الرقص على إيقاع النقر والديسكو والأداء الجماعي في الشوارع والرقصات اللاتينية [تؤدى ثنائياً ومنها التانغو] خلال مراهقتي. وخلال إعدادي للحصول على درجة جامعية في الدراما، أخذت منهاجاً كاملاً في الرقص التعبيري، تحت قيادة مدرسة غير تقليدية لتصميم الرقصات التي أخضعتنا ذات مرة لـ”أداء” استمر ساعة كاملة، لم تستعمل فيه سوى حاجبيها. وحاضراً، صرت أقضي كل أمسيات الثلاثاء في غرفة يسودها التعرق ومملؤة بنسوة في سن انقطاع الطمث يؤدين رقصة الـ”زومبا”، ضمن مركز الرياضة المحلي. والآن، وقد صرت في سن الـ37، ما زلت أذهب بانتظام للمشاركة في المسلسل التلفزيوني “بيغ نايتس أوت” Big Nights Out [ترجمته الليالي الكبرى للاحتفال. ويرصد التغير في أنماط الحفلات الشبابية]، وأحجز تذاكر المهرجانات كي أتمكن تحديداً من ممارسة الرقص لساعات، من دون أن يحاسبني أحد على ذلك.
في المقابل، ما زلت أذكر المرة الأولى التي فهمت فيها بالكامل أن الرقص أكثر من مجرد تزجية لوقت المتعة. في مطالع العشرينيات من عمري، عانيت أول صدمة عاطفية فعلية بعد أن هجرت فجأة. ثمة قلة من الأشياء التي تشبه آلام المرحلة الأولى من تلك المعاناة. وتعمل خبرات الحياة والعمر على تخفيف تلك الطعنة. وتندمل جروح المعارك، فيما يستمر أذى الفراق، لكن الحرقة لا تأتي بالألم نفسه تماماً، ولا يعود عذاب القلب الحارق كذلك الذي فرض على قلب رقيق ليس لديه خبرة في الألم. ربما قدم كات ستيفنز الصيغة الأفضل عن ذلك الأمر، حين غنى “الجرح الأول هو الأعمق”.
إذاً، اكتملت الصورة لديك. ضربني حزن عميق، مع كل الأعراض التقليدية المصاحبة له، أي الأرق انعدام الشهية وفقدان القدرة على الإحساس بالمتعة، والأخيرة هي الأسوأ بين الاضطرابات المرضية كلها، لأنها تعني عدم الحصول على السعادة أو حتى توجيه أدنى اهتمام لأي شيء على الإطلاق. لم تتزحزح تلك المعاناة لأكثر من شهر، إلى أن، في أحد الأيام، استمعت إلى موسيقى فيما تدفق ضوء الشمس عبر النافذة، وفجأة، انتابتني الرغبة في الرقص. وللمرة الأولى منذ أسابيع، أحسست بحضوري في جسدي. لم يأت ذلك من تفكير واع، بل جاء حصراً من معرفة عميقة بأن الحركة تعطي إحساساً طبياً. اندلعت شرارة من الفرح طننت أنها ضاعت للأبد، لكنها انبعثت مجدداً.
لنقفز فوق 14 سنة بعدها، وستجدني واقفة في قاعة القرية وأستعد للالتحاق بغرفة مملوءة بغرباء وأعمل على أن “أرقص” مشاعري، على طريقة أغنية “أنا لست سوى كين” [أداها الممثل رايان غوسلينغ في فيلم “باربي” بوصفها تعبير عن مشاعر حزينة ترتبط بإدراك الذات]. يعطي ذلك إحساساً أدنى بكثير من غنائي المنفرد حينما أدركت مسألة الرقص للمرة الأولى [إشارة إلى ما ورد آنفاً في شأن الرقص للمرة الأولى بعد تدفق الضوء والموسيقى]، لكن في نهاية المطاف، سيكون هنالك شهود [بمعنى وجود أشخاص آخرين يشاركون في الرقص].
دخلنا القاعة، وحيتنا المدربة اللطيفة الكلام، ساشا، ونظرات من نحو 10 مشاركين يتدحرجون على الأرض ويمارسون تمارين التمدد، فيما تعزف موسيقى ناعمة. فجأة، لم أستطع مقاومة استحضار رؤية تلك الحلقة الأيقونة من المسلسل التلفزيوني الكوميدي “بيب شو” Peep Show، التي يشارك فيها الممثل مارك كوريغان حصة تدريسية عن “راينبو ريزمز” [إيقاعات قوس قزح]. وضج رأسي بعبارة “لقد سرت إلى كابوسي الشخصي” بوصفها جزءاً من حوار داخلي مع نفسه، ثم تابع كوريغان “يجب ألا أتصلب، حتى لو طلبوا مني أن أؤدي تمارين الثقة مع أعضائهم الجنسية”. [إشارة إلى تناقض كامن في أن تمارين الثقة تؤدى عادة لتنحية الإيحاءات الجنسية من التواصل بين الأشخاص].
أغلق عينياي أحياناً، وأفتحها في أحيان أخرى، وأراقب بسعادة هادئة كيف يترك الناس أنفسهم للموسيقى والحركة
قبل أن تبدأ الجلسة في التصاعد، تكونت “دائرة البداية” مع تمهيد يساعد في تهدئة مشاعر الاندهاش. أخبرنا أكثر عن ماهية الرقص المنتشي فعلياً كي يستفيد من ذلك المشاركون الجدد. وتبين أنه ممارسة حركية تسعى إلى استكشاف الشعور الرائع المتأتي من تحريك جسدك بحرية. وأوردت ساشا أنه “إذا أحسست في أي وقت بأنك مقيد، نقترح عليك إغلاق عينيك، والإصغاء للموسيقى مع العودة بانتباهك لتنفسك وجسدك. لا تفكر. اكتف بالإحساس وحده. إنه النقر على إيقاع شيء ما بدائي، كالعودة للقول المأثور “ارقص كأن لا أحد يشاهدك”.
ولا توجد قوانين بحد ذاتها، سوى احترام المساحة الخاصة للآخرين وحدودها. ومن المستطاع الرقص مع آخرين، إلا أنه لا يجب توقع ذلك بالطبع. وتستطيع أن تفعل ذلك شرط أن يكون الشخص الآخر منفتحاً عليه بوضوح.
ثمة ملاحظة أخيرة، أو تحذير ربما. “قد يستحضر هذا التمرين مشاعر ضخمة. على رغم تسميته رقص النشوة، إلا أن تلك المشاعر قد لا تكون فرحة بالضرورة. وربما تحرك لديك أحاسيس بالغضب أو الحزن”. لقد تمتمت بتلك الكلمات في دواخلي. وأنا لم أشعر أثناء الرقص بأي شيء يداني ذلك ولو حتى بمقدار بعيد.
ولننتطلق إلى السباقات. لقد وصفت نفسي بأنني استعراضية بطرق عدة، ولا أحس أنني متهيبة وحساسة تجاه ذاتي. لكن، ربما بسبب ذلك، أنني أفكر في نفسي بنفسي، وأنا معتادة على الرقص أمام مشاهدين، وأشعر حيال ذلك أنني منخرطة في نوع من الأداء. لكن، جاء الأمر مغايراً بالكامل هذه المرة [مع رقص النشوة]، إذ يطلب منك أن تتناغم مع ما يحدث في دواخلك، ومع ما ربما تحركك الموسيقى للتعبير عنه، بأكثر من التركيز على الجماليات الخارجية.
الرقص تفوق فاعليته العلاج السلوكي الإدراكي وأدوية الكآبة المستندة إلى السيروتونين، بحسب إحدى الدراسات
في الخلفية، ثمة رجل وراء الطاولات والمقاعد ينتقي الانتقالات الموسيقية ويختار الأغاني. وفيما توقعت موسيقى تشبه “عوالم” هيبية الطابع Hippy، اتسمت الاختيارات بالتنوع. في لحظة معينة، وجدت نفسي وصديقتي في الركن نفسه من الغرفة، فرحتان بأننا نحرك جسدينا على إعادة توليف موسيقي لأغنية ميسي إليوت “أطلق وحشك المخيف” Get Ur Freak On. في لحظة أخرى، تولت موسيقى بيانو كلاسيكية استحضار فصول البالية في طفولتي، وشعرت بموجة من النوستالجيا تغمرني فيما كراقصة بالية في حركة دوران على قدم واحدة.
صار الوقت لدناً وقابلاً للمط. لم أعد أشعر بالمدة الزمنية للرقص أو الوقت الذي غادنا فيه. لست متأكدة متى حدث ذلك، لكن حدس صاف استبدل بالقسم الدماغي العقلاني في. أغلق عينياي أحياناً، وأفتحها في أحيان اخرى، وأراقب بسعادة هادئة كيف يترك الناس أنفسهم للموسيقى والحركة.
في بعض الأحيان، أحسست أنني مجبرة على ملء الفراغ، والسفر عبره والتضخم باستمرار كأنما إلى الأبد، كمنطاد مملوء بالفرح. أحياناً، ألفيت نفسي أتقلص، أدنو من الأرض، وأحس برغبة في جذب الكرة الأرضية. ينخفض الإيقاع، أنا أتعرق وأضحك، كأنما الأمر أنني ضيعت حبكة الحوادث ولكني لا أعير لذلك أدنى اهتمام.
لكن، حدث مدهش فعلاً وقع أثناء المقطوعة شبه الأخيرة. تمثل ذلك في أغنية “ماي إنجل غابرييل” [ملاكي غابرييل] لفرقة “لامب” Lamb الموسيقية الثنائية. إنها إغنية تحرك المشاعر ولم تفشل أبداً في توجيه ضربة إلي في شبكة أعصاب بطني. لم أع على شيء تالياً سوى أنني أبكي، ليس بدمعة مفردة دقيقة ومتعالية، بل ذرفت الدمع سيولاً مدرارة بشكل لا ينكر. وبطريقة هستيرية، فكرت “يا إلهي، أنا أودي رقص البكاء. كانت ساشا محقة. إن ذلك يحدث حقاً”. [إشارة إلى أن رقص النشوة يحرك مشاعر لا تكون بهيجة بالضرورة]. بدا الأمر كأنما كل مزقة ألم أحسست به في العام الماضي، ينصب من محجري عيني. لقد مضينا بعيداً في جحر الأرنب ولم أعد أحس بالخجل ولا الإحراج. اكتفيت بمتابعة النحيب بصمت فيما كنت، نعم، أرقص مشاعري الحزينة تلك. إنه أمر غريب ومحزن، لكنه خلاصي وتنفيسي على نحو سخيف. إنه مؤذ لكنه يشفي. جحيم دموي.
استمريت في النحيب بصمت فيما كنت، نعم، أرقص مشاعري. إنه أمر غريب ومحزن، لكنه خلاصي وتنفيسي على نحو سخيف
أنهينا الجلسة بتكوين دائرة ختامية، حيث دعينا إلى مشاركة رؤانا استناداً إلى التجربة، إذا رغبنا في ذلك. مرة أخرى، أطل مسلسل “بيب شو” و”إيقاعات قوس قزح”، على أفكاري.
خلال تلك الحلقة، يعلن أحد المشاركين “كان هناك كثير من الطاقة الجديدة في الغرفة هذه الليلة، وببعضها فيه شبه كبير بإيقاعات قوس قزح، وبعضها الآخر ليس كثير الشبه بإيقاعات قوس قزح”. ويرد مارك، “حسناً. اسمع. أبدي أسفي إذا لم أفعل ذلك بالطريقة الصحيحة، وأنا آسف أيضاً إذا افترضت أني أكل اللحم الأحمر، ولا أفكر بالضرورة بأن المال أو توني بلير أشياء سيئة. لكن، إذا لم تحتو الغرفة هنا أناس يقفون ضد كل ما تعتقد به، فإذاً، ما هو ذلك النوع من الحرية للجميع على طريقة الهيبيز، لدينا هنا؟”.
إنها مسألة محقة. لا أستطيع تخيل أن أي فرد من مجموعتنا يفكر بطريقة إطلاق الأحكام على الأشياء. ولكن، لا ينفي ذلك أنني ضحكت وبكيت، ولوحت يداي في الهواء كأني لا أبالي بشيء، ورقصت كأن لأ أحد يشاهدني. والآن، لدي أحساس شديد الشبه بإيقاعات قوس قزح. وبالتأكيد، سأعود من أجل مزيد. وفي خاتمة المطاف، إنها أرخص من العلاج بما لا يقاس.