حرية – (28/3/2024)
مجرد جولة سريعة على واجهات متاجر علامات الأزياء الرئيسة في بريطانيا ستجعلكم تدركون أن القطعة الأكثر انتشاراً في التشكيلات النسائية لهذا العام هي التنورة الطويلة المصنوعة من قماش الجينز.
ليست هذه العنصر الوحيد الذي يسيطر على مشهد الموضة في ربيع عام 2024، فبحسب النسخة البريطانية من مجلة الأزياء والموضة “فوغ” يبقى الجينز اتجاهاً قوياً هذه السنة، إذ يركز المصممون على العناصر الأساسية اليومية التي يعتبر وجودها ضرورياً في أي خزانة ملابس.
وبعد أن أظهرت عروض الأزياء لخريف/شتاء 2023 أهمية الجينز، إذ كان أحد أكثر الإطلالات الجذابة على منصات العروض هو سروال يمزج بين الجينز والحرير والتطريز اليدوي، يتم هذه السنة استخدام قماش الجينز بطريقة كلاسيكية ومبسطة أكثر.
إذاً، بينما يعيد الجينز إثبات حضوره عاماً بعد عام بطرق مختلفة وتنسيقات تتوافق بالتأكيد مع كل ما هو جديد في اتجاهات الموضة، نسأل اليوم، ما هي قصة هذا القماش الذي يرتديه البشر في كل بلدان العالم؟
البدايات
بدأت كلمة “جين” jean في القرن الـ 19، وكانت تطلق على نسيج قطني طويل يستخدم في صناعة السراويل، لكن سرعان ما اختلطت تسمية النسيج مع الملابس التي كان يستعمل عادة في خياطتها. قماش الجينز أزرق اللون الذي يعرف الآن بـ”دنيم” denim كان يصنع في الأصل من القماش آنف الذكر الذي كان بدوره ينسج في مدينة نيم الفرنسية، ومن هنا جاء اسمه “الدنيم الأزرق” (bleu de Nîmes). ولا يزال الجدل دائراً حتى يومنا هذا حول ما إذا كانت تسمية “دنيم” هي النسخة الإنجليزية من التسمية الفرنسية أو ما إذا كان الاسم الفرنسي أطلق على منتج إنجليزي كان موجوداً بالفعل فقط لمنحه الألق المرتبط بالأناقة الفرنسية.
بحلول القرن الـ 20، كانت كلمة “جينز” هي التسمية التي تطلق على مجموعة واسعة من السراويل غير الرسمية المصنوعة من القطن أو الدنيم، لكن سروال الجينز الكلاسيكي الأكثر شهرة بالشكل الذي نعرفه اليوم، المتين والمصنوع من قماش الدنيم والمصبوغ بلون أزرق نيلي وفيه جيوب مثبتة بأزرار معدنية تجعلها ملائمة للأعمال الشاقة، تم تسجيل براءة اختراعه عام 1873 من قبل الخياط جيكوب ديفيس وصاحب محل بيع الأقمشة بالجملة في سان فرانسيسكو ليفاي شتراوس.
وحظيت الأزرار المعدنية (كانت تصنع من النحاس في البدايات) المستخدمة لتثبيت الجيوب بتقدير عمال المناجم وغيرهم من العمال اليدويين الذين كانوا يعانون تمزق الجيوب المتكرر في الملابس السابقة.
حظيت الأزرار المعدنية بتقدير العمال الذين كانوا يعانون تمزق الجيوب المتكرر
في البداية صنع شتراوس وديفيس سراويل قماشية بلونين، البني الفاتح والأزرق، لكن تصميم السروال الأيقوني الأزرق المعروف بطراز 501 عام 1890 ساعد على انتشار نسيج الجينز الأزرق.
خلال السنوات الـ10 اللاحقة، أجريت تحسينات على تصميم السروال، فأضاف شتراوس صفين من الغرز باللون البرتقالي لتعزيز متانة الجيوب ولتعزيز علامة “ليفاي” التجارية، وظهرت حلقات الحزام عام 1922 وحل السحاب محل مجموعة من الأزرار في بعض التصاميم اعتباراً من 1954.
لكن عندما انتهت صلاحية براءة اختراع شتراوس وديفيز عام 1890، صار المصنعون الآخرون يمتلكون الحرية في إعادة إنتاج هذه السراويل، ودخلت شركة “أوشكوش بيغوش” للأزياء سوق الجينز عام 1895، وتبعتها “بلو بل” في 1904، أما شركة “لي ميركانتايل” ثاني أشهر علامة مصنعة للجينز فانضمت إلى المصنعين في 1911 وخلال الحرب العالمية الأولى كانت سراويل “لي يونيون أولز” هي الزي الرسمي الموحد لجميع العمال في الحرب.
لمسة هوليوودية
قامت السينما الأميركية، لا سيما أفلام الـ”ويسترن” بدور كبير في نشر الجينز وجعله موضة أساسية تعبر عن الروح الأميركية الأصيلة المتمثلة في الحرية والتحدي والعصرية.
وفي عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20 أسهمت السينما في إضفاء لمسة رومانسية على هذا اللباس المرتبط بالعمال الكادحين من خلال قيام ممثلين وسيمين، أمثال جون وين وغاري كوبر، بارتدائه في أدوار رعاة البقر. واستمرت الحال على هذا المنوال مع استمرارية أفلام الـ”ويسترن”. هل هناك صورة تختزل ذلك أفضل من كلينت إيستوود في “من أجل حفنة من الدولارات” أو هاريسون فورد في “إنديانا جونز”؟.
أدت هذه الصورة الجديدة الرائعة للجينز إلى إقناع المستهلكين الباحثين عن ملابس مريحة غير رسمية يمكنهم ارتداؤها في عطلات نهاية الأسبوع والإجازات، كما ساعدت الصور الدعائية لممثلات مثل جينجر رودجرز وكارول لومبارد وهن يرتدين الجينز في إقناع النساء بأنه أسلوب لباس يناسبهن أيضاً. وفي ثلاثينيات القرن الـ 20، جاءت الموافقة من المرجعية الأولى للموضة، مجلة “فوغ” التي وصفت الجينز بأنه “أناقة الويسترن”.
وعام 1942 باعت المصممة الأميركية كلير مكارديل أكثر من 75 ألف قطعة من فستان مصنوع من قماش الجينز، ثم جاءت حسناء الشاشة مارلين مونرو لتجعل جميع النساء يقبلن على هذا اللباس الثوري عندما ظهرت للمرة الأولى بسروال جينز في فيلم “نهر اللاعودة” عام 1954، لتثبت أن الأنوثة والإغراء لا يقتصران فقط على الفساتين والتنانير.
رمز للثقافة المضادة
على كل حال، لم يصبح الجينز مرتبطاً بالشباب المتمرد والمناهض للدولة إلا في خمسينيات القرن الماضي، فأسهم مارلون براندو وجيمس دين بنشر صورة المراهق المحبوب الذي يرتدي الجينز ويتمتع بجاذبية جنسية هائلة، بينما ساعد نجوم “الروك أند رول” في ترسيخ الأسلوب باعتباره رائعاً، وارتدى الهيبيون والمتظاهرون المناهضون للحرب الجينز في الستينيات وأوائل السبعينيات كوسيلة لإظهار دعمهم للطبقة العاملة، بينما اختارت الناشطات النسويات ومنظمات الحركات النسائية التحررية الجينز الأزرق كوسيلة لإظهار المساواة بين الجنسين.
بحلول الستينيات، أصبح الجينز يرمز إلى الثقافة المضادة، حتى إن بعض المدارس قامت بحظره، مما أدى إلى نتيجة معاكسة، فزاد انتشاره وتعززت مكانته. وفي نهايات العقد الثامن وبدايات العقد التاسع من القرن الماضي، بدأت دور الأزياء الراقية تبدي اهتمامها بالجينز أيضاً. كان بنطال “بوفالو 70” الذي صممته دار “فيروتشي” الإيطالية ضيقاً وداكن اللون وباهظ الثمن، أي إنه كان معاكساً تماماً للسراويل الواسعة ذات اللون الأزرق الباهت التي كانت الفئات الشابة تقبل عليها، وصارت سراويل الجينز الفاخرة شائعة بين مرتادي نادي “ستوديو 54” الليلي الأسطوري من مشاهير الموسيقى والموضة والفن.
في 1976، ظهر أول سروال جينز على منصة عرض أزياء ضمن تشكيلة دار “كالفن كلاين” لعام 1976. وفي الثمانينيات ساعدت حملة كالفن كلاين بالتعاون مع الممثلة والعارضة بروك شيلدز والإعلانات التي ظهرت فيها العارضة كلوديا شيفر على إعطاء الجينز الأزرق نوعاً جديداً من الفرص المغرية. وبحلول التسعينيات، دخلت بيوت الأزياء مثل “فيرزاتشي” و”دولتشيه أند غابانا” و”ديور” سوق الجينز أيضاً.
أنماط متنوعة
يمكن تقسيم أنواع وأنماط الجينز على مر العقود إلى مجموعات ذات ملامح واضحة، على سبيل المثال تميزت أنماط الـ”هيب هوب” في أوائل التسعينيات بالجينز الفضفاض ذي الساق العريضة والخصر المنخفض، أما المثقفون ومحبو موسيقى الجاز فكانوا أكثر ميلاً إلى الجينز الداكن في إشارة إلى ارتباطهم بجذور هذا الزي، في حين فضل نجوم البوب التصاميم التي يتدرج فيها اللون الأزرق أو يكون باهتاً في أجزاء معينة من قطعة الملابس، ودفع أصحاب الأموال والمحبون للتميز مبالغ طائلة مقابل منتجات ليفي شتراوس القديمة أو المصبوغة يدوياً التي لم تجد مكاناً لها في “متحف ليفايز” التاريخي في سان فرانسيسكو.
اليوم، تقوم جميع دور الأزياء الفاخرة وكل المصممين العالميين تقريباً بعرض الجينز ضمن تشكيلاتها التي تشمل الضيقة والواسعة والعريضة والمستقيمة وعالية الخصر ومنخفضة الخصر والفاتحة والداكنة والمتدرجة.
في عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20 أسهمت السينما في إضفاء لمسة رومانسية على هذا اللباس المرتبط بالعمال الكادحين
وفي 2005 بيع أغلى سروال جينز في العالم وهو من طراز 501 من “ليفايز أند شرتاوس” في مزاد علني بملغ 87 ألف دولار. يعود هذا السروال لعام 1890 وكان يعتبر نادراً بصورة استثنائية بسبب حاله الجيدة. ويعتقد بأن هذا السروال كان جزءاً من دفعة من سراويل الجينز التي أرسلتها شركة ليفايز أند شتراوس إلى منجم ذهب في يوكون في كندا زمن حمى التنقيب عن الذهب لكنه لم يستخدم أبداً، واكتشف عام 1997 في قرية يوكون.
تغلغل قماش الجينز في الموضة، وصارت تصنع منه القبعات والحقائب والمحفظات والأحذية والأحزمة وأغلفة الدفاتر والمنمنمات وحتى البدلات الرسمية وأغطية الهواتف النقالة.
وشهد الجينز في المجتمعات المحافظة إعادة تشكيل هوية، فلم يعُد يقتصر على السراويل الضيقة والشورتات والتنانير القصيرة، بل صارت تصنع منه سراويل فضفاضة وقمصان وبلوزات طويلة وواسعة وتنانير طويلة وحتى عبايات نسائية.
ربما يمكن تلخيص أهمية الجينز والثورة التي أحدثها في عالم الأزياء والثقافة بصورة عامة في قول المصمم العالمي إيف سان لوران ضمن لقاء مع مجلة “نيويورك تايمز” عام 1983، “قلت في كثير من الأحيان إنني أتمنى لو اخترعت الجينز الأزرق، إنه يتمتع بالتعبير والتواضع والجاذبية الجنسية والبساطة، أي كل ما أتمناه في أزيائي”.