حرية – (7/4/2024)
لا يمكن لأي عاشق أو متابع نهِم للسينما حول العالم إلا أن يحب أفلام الأنمي اليابانية، التي ينتجها استوديو غيبلي، والتي تشكل قِطعاً من عالمٍ ساحر ومذهل بصرياً ودرامياً.
تأسّس استوديو غيبلي في يونيو/حزيران عام 1985، على يد أعظم منتجي الأنمي؛ أولهم المخرج والمؤلف والمنتج هاياو ميزاكي، بالشراكة مع صديقه المخرج إيزاو تاكاهتا، إضافةً إلى المنتج توشيو سوزوكي.
وخلال أكثر من 37 عاماً، قدّم الثلاثة أكثر من 20 فيلم أنمي طويلاً إلى جانب الأفلام القصيرة؛ وقد استطاعوا من خلالها خلق حالةٍ خاصة ومتميزة في عالم أفلام الأنمي اليابانية، وقد بدا أثرها واضحاً على بعض الاستوديوهات الأخرى في البلاد.
وفي حين تركز أفلام ديزني على عناصر تقليدية مكرَّرة، مثل الأميرة الحسناء والفارس الوسيم الذي يمتطي صهوة جواده ويحضر لينقذها من الساحرة الشريرة، وتعتمد على حبكات سطحية بمعظمها، يتميز استوديو غيبلي بقدرته على أخذ الكبار -قبل الصغار- إلى عالمٍ مليء بالإبداع البصري والقصص العبقرية.
وهذه ميزة مشتركة بين أغلب أفلام الأنمي اليابانية عموماً؛ فهي تطرح مواضيع اجتماعية مهمة في قالبٍ يناسب الصغار، كما أنها مليئة بالعاطفة والخيال والحوارات العميقة.
يُعتبر Castle in the sky (إنتاج عام 1986) فيلم استوديو غيبلي الأول رسمياً، بعد تأسيسه عام 1985، إلا أن محبي “غيبلي” يعتبرون أن Nausicaä of the Valley of the Wind هو الفيلم الفعلي الأول (من إنتاج 1984).
ما الذي يميّز استوديو غيبلي حقاً؟
يهتم استوديو غيبلي بعرض أخلاقيات إنسانية عميقة، عبر أفلامٍ تتضمن حوارات صادقة وهادئة، يمزجها بكثيرٍ من الموروثات الروحية اليابانية، التي يصعب أن تجدها حاضرة في أفلام الأنمي اليابانية الأخرى.
فالمساعدة النابعة من مشاعر خالصة، من دون أي نية، والتفاني في دعم الغير، إضافةً إلى الحب غير المشروط بكل أشكاله؛ كلّها معايير أساسية ستجدها حاضرة دوماً في أفلام استوديو غيبلي. فكل الشخصيات تساعد وتدعم بعضها البعض، ولا تنتظر أي مقابل.
ورغم أن هاياو ميازاكي لا يحب أن يُسمّى ناشطاً بيئياً، فإن البطء والطبيعة عنصران قويان في أفلامه. فغالباً ما نشاهد اليابان التقليدية، حيث تعتمد الزراعة على اليد العاملة أكثر من الآلة، وحيث نعيش فترات من الهدنة بعيداً عن المدينة وإيقاعها السريع.
يتجلى ذلك واضحاً في فيلم Only Yesterday، حين تأخذ بطلة الفيلم إجازتها السنوية للمساعدة في قطف المحصول الزراعي السنوي بمزرعة شقيقتها. ويتجلى كذلك من خلال المشاهد الطبيعية داخل القرية الصغيرة، في واحد من أشهر أفلام غيبلي My Neighbor Totoro.
السحر في أفلام غيبلي
السحر عامل أساسي في أفلام غيبلي؛ فنجده واضحاً جلياً من خلال ساحرة صغيرة في فيلم Kiki’s Delivery Services، أو عبر الساحر هاول في فيلم Howl’s Moving Castle، لكن السحر في عالم غيبلي أيضاً مختلف.
فهو ليس سحراً مطلقاً، بل عملٌ جاد وشاق وتترتب عليه تبعات، فالقوة والتطور لهما ثمن. يبرز ذلك بوضوح في الفيلم الشهير Spirited Away (من إنتاج هياو ميازاكي) الذي استحق الأوسكار عن جدارة عام 2003.
ويُمكن القول إنه أحد أهم وأشهر أفلام استوديو غيبلي، الذي يناقش موروثاً ثقافياً وروحياً يابانياً: وهو تجسيد المخاوف والقلق الشخصي للإنسان، كما يناقش أرض الأرواح التي تضيع فيها البطلة لتتعلم بعض الدروس.
يروي الفيلم قصة كفاح فتاة صغيرة بعد أن تحولت إلى خنزير، فتدخل إلى عالمٍ غريب مليء بالمخلوقات السحرية التي تملك قوى مذهلة. كلّ ذلك يبدو كحلمٍ بالنسبة إلى الطفلة الصغيرة، إلا أنه في الحقيقة تجسيدٌ لأسطورة روحانية يابانية، حين تأخذها روحها -في رحلةٍ- لتُريها مغبّة أمانيها.
برز السحر أيضاً في فيلم Howl’s Moving Castle المقتبس من رواية بريطانية تحمل الاسم نفسه، والمصنوع بشكلٍ مذهل.
فالخط الزمني للفيلم دائري؛ ففي المشهد الأول، يجد الساحر هاول، صوفي ويخبرها بأنه كان يبحث عنها في كل مكان، الأمر الذي تستغربه، لأن ذلك كان لقاءهما الأول. ثم ما يلبث أن يدرك المشاهد، خلال أحداث الفيلم، أنه سبق أن قابلت صوفي الطفلَ الداخلي لهاول، وأخبرته بأن يبحث عنها في المستقبل.
الفيلم يناقش أيضاً الحروب ويلمح إلى الحرب العالمية الثانية، حين يستخدم الملك أسطولاً من السحرة للفوز في الحرب. وعندما يتمرد هاول عليهم، ويبدأ في استخدام سلطته لردعهم، سيحوّله السحر تدريجياً إلى مسخ.
اكتشاف الذات والوصول إلى الجوهر
تشترك أفلام غيبلي في أن أبطالها غالباً ما يخوضون رحلةً مع الذات، فيتصلون بجوهرهم الأصلي.
يتخلى هاول عن قلبه، ويصبغ شعره باللون الأشقر كي يشبه سحرة الملك، ثم يقف أمام نفسه ومبادئه -مستخدماً سحره- ليقصف قرى المدنيين في الحرب. وعندما تخلى الطيار الشهير في فيلم Porco Rosso عن إنسانيته، حوّلته التعويذة إلى خنزيرٍ لا يأبه إلا للمال.
ولكي يعود إلى صورته البشرية، سيكون عليه أن يتوحد مع إنسانيته مرة أخرى، في واحدٍ من أشهر مشاهد استوديو غيبلي، التي أمتعت المشاهد بتقديمها لرمزية اكتشاف الذات الداخلية.
هاياو ميازاكي، وكل العاملين في استوديو غيبلي، قدموا للسينما آلاف الرموز والتفاصيل المثيرة للدهشة في كلّ مشهدٍ من أفلامهم، وأمضوا ساعاتٍ طويلة من العمل المضني لكتابة قصص تستحق معرفتها، وساعات أطول لتحويلها إلى رسوم متحركة تستحق أن تشاهدها.
فنقف كمشاهدين مذهولين أمام أفلامٍ أيقونية تحث المشاهد على التمسك بإنسانيته رغم الجنون من حوله، والسرعة، والطمع، والسلطة. إرث إنساني قدّمه لنا استوديو غيبلي، في قالبٍ بسيط يصحّ فيه القول الشائع “السهل الممتنع”.
ورغم أن القصص في أفلام غيبلي تبدو بسيطة وغير معقدة، فإنها تحتوي على كثيرٍ من الفلسفة والدروس والعبر التي قد لا نستوعبها -كمتفرجين- من المشاهدة الأولى، وسنفاجأ كيف أننا نكتشف معاني ورموزاً جديدة، في كل مرة نتابع فيها أحد أفلام استوديو غيبلي.