حرية – (24/4/2024)
بحركات بالغة الصعوبة لكنها متقنة للغاية يقف شاب عراقي محافظاً على مشوار ناجح مع ممارسة لعبة الجوبي التي قضى نصف عمره متمسكاً بها ليس لمجرد عشقه لها بل كونها تحمل بين حركاتها جزءاً غير محدود من هوية بلاد الرافدين.
يبدأ الشاب الثلاثيني بإحماء اللاعبين وتأهيلهم للعب الجوبي، بعد أن حضر من الأنبار إلى بغداد ليستقر في العاصمة والولع يسيطر عليه في كل تفاصيل رقصته الفلكلورية التي لا يكاد فرح يخلو منها، إذ تعد واحدة من أشهر الرقصات في العراق.
يقول عذاب المحمدي (30 سنة)، “أمارس لعبة الجوبي منذ 15 عاماً، سأفعل ذلك دائماً. إنه ليس مجرد سباق بحجم – وقدرة – إمكاناتنا الجسدية على التحرك. هي جزء من عاداتي وتقاليد عائلتي حتى أجدادي، إنها هويتنا في هذه البلاد”.
أداء جماعي
للتعبير عن مشاعر الفرح والذات، يلجأ العراقيون إلى الجوبي، فوقع أقدامهم على الأرض يعني السعادة والاحتفال بشيء ما. يقول عذاب وهو رئيس فرقة جوبي تتنقل بين المحافظات لإحياء الأفراح، إنهم لا يسمونها “رقصة” بل “لعبة” لأن ذلك يمنحهم الحرية أكثر لأدائها.
ويضيف “ما يميز الجوبي هي الحالة الجماعية للبهجة، إذ وعلى عكس بعض الرقصات التي تعتمد على أداء شخص واحد بين مجموعة، أو شخصين معاً، فإنها تقوم على تشبث اللاعبين حول بعضهم بعضاً، وتتشابك الأيدي معاً وتتقارب الأكتاف فيشكلون نصف دائرة، يقودها شخص بيده منديل أو مسبحة، لضبط إيقاع الحركات”.
يصدح من وسط الحلقة أحياناً صوت المزمار أو الطبل، فيما يميل كل مؤد إلى زميله لليمين واليسار، ثم يقفزون معاً بإشارة من رئيس المجموعة، وتشبه هذه الحركات إلى حد كبير رقصة “الدحة” التي كان البدو في غرب العراق يمارسونها.
لا يجوز لبس الجينز أثناء ممارسة الجوبي
بابتسامة يمضي عذاب في حديثه ، قائلاً إن الجوبي امتداد للدحة، حين كانت العشائر العربية تعتمدها ليس في المناسبات فقط، بل حتى عند التجهيز للحرب أو الغزو لأن رص الأكتاف معاً، مع إطلاق أهازيج تشبه الزئير، يعتقد أنها كانت تساعد على شد عزيمة الرجال.
وتابع “لا نسميها رقصة، لأن أجدادنا كانوا يقولون إن الرقص للنساء. الرجال يقرعون الطبول، اللعب على أنغامها، والغناء وإنشاد المواويل، إضافة إلى دك الأرجل”، موضحاً أن “الأجداد يرونها لغة التمسك بالأرض”.
لكل مدينة بصمتها
لا يجوز لبس الجينز أثناء ممارسة الجوبي لأنها لعبة تحتفظ بثياب خاصة وتتمثل في “الدشداشة” أي الثوب العربي والشماغ العراقي، وهو ما يحفظ لها صبغتها التراثية الشعبية، التي تمتد بجذورها لسنوات ضاربة في التاريخ العراقي، ولا سبيل أمام مؤديها سوى الحفاظ على زيها الشعبي.
يقول سعيد وليد، وهو لاعب جوبي (29 سنة) “لا بد أن يكون المؤدي متمرساً على اللعبة، وحضر سابقاً كثيراً من لعب الجوبي وتمرن كثيراً”.
ويرى أن لعبة الجوبي تعتمد على الوزن، لكونه شيئاً مهماً يجعل حركات اللاعب متزنة مع نقرات الطبل، ولا يجوز مطلقاً الخروج عن الوزن، كما يجب أن يحتفظ كل لاعب ببعض الحركات والإيقاعات الارتجالية المختلفة، لأنها ساحة مبارزة واستعراض لقدرات اللعب.
لكن، مهما تطور اللاعب بحركاته واستعراضه فلا يمكنه الخروج عن النص ووزن اللعبة أو تراثها، هذا ما يوضحه سعيد، مؤكداً أن “الجوبي” تختلف من مدينة عراقية لأخرى بخاصة محافظته الغربية، ولكل مجموعة طقوسها الخاصة في طريقة الأداء والأغاني الخاصة والألحان حتى بالآلات الموسيقية كالمزمار والطبل أو حتى الأرغن، كما أن الفرق المؤدية تفضل أن يكون لاعبوها من نفس العائلة وأبناء عمومة.
طرق إتقان الجوبي
بطبيعة الحال لم تعد “الجوبي” حكراً على رجال العشائر العربية، لشدة حب الناس لها، فصار الجميع يحاول تقليد الرقص بصورة عفوية في الأعراس، من النساء والرجال، على أن تؤدي النسوة نفس قوانين اللعب في الأعراس تحديداً.
هنا يروي سعيد وليد أن الدبكة الكردية والتركمانية تشبه الجوبي ببعض القواعد ومنها تشابك الأكتاف، لكنها رقصات مختلطة بين الجنسين وليست محصورة بين الرجال فقط كما الجوبي.
ويضيف “تبدأ الرقصة بدق الأرض بالأرجل اليسرى، ثم رفعها وإعادة ضربها بالأرض بما تميله الآلة الموسيقية، ثم تتصاعد شرارة اللعبة بمرور الوقت وحماس اللاعبين وسرحانهم باللعب في مساحات واسعة مع تحريك القدمين للأمام والخلف”.
أصل التسمية
يختلف الباحثون في تحديد أصل تسمية “الجوبي”، بحسب الباحث في الموروث الشعبي العراقي، أمجد المالكي، الذي أكد أن البعض يعتقد أنها تعود إلى اسم أسرة منسوبة إلى “جوب” وهي كلمة فارسية تعني بالعربية “الخشب”.
فيما يرى البعض الآخر أن أصل الكلمة “كردية”، وينسب ذلك لاسم إحدى القبائل الكردية والمطلق عليها “جوبي”، ثم فريق ثالث يعيد أصلها إلى مفردة “جا” ذات الأصول السومرية المشاعة بكثرة في مناطق جنوب العراق التي تعني “حبيبي”، وفقاً للباحث المالكي.
الشاب العراقي عذاب المحمدي يبين أن الجوبي جزء من عادات وتقاليد أجداده
لكن الباحث العراقي يعود ليقول “أقرب معتقد للحقيقة هو أن مصطلح جوبي مشتق من كلمة (الجوبة)، التي تعني الفسحة من الأرض أو الساحة التي تباع فيها الأغنام. ومن الأدلة على ذلك أن هذه الرقصة ما زالت تمارس في تلك الأماكن المفتوحة، قبل أن تصبح منظمة أكثر، كما أنها مرتبطة بالبدو الذين كان يعرف عنهم تربية المواشي”.
لسنين غابرة من الزمن وجد الجوبي طريقاً له في أرض الرافدين، بعضهم يقول إنها تمتد للسومريين سابقاً، الذين يدكون الأرض لطرد الأرواح الشريرة، مع الدوران حول الأرض المقدسة والثمينة، أو لضرب الأرض لتنبت فيها الحياة والربيع وإيقاظ “تموز” إله الزراعة والرعي (النباتات والماشية).
من أين جاء هذا الموروث؟
يعود أصل “الجوبي” إلى محافظة الأنبار غرب العراق والفرات الأوسط حتى سنوات عديدة، لكنها انحسرت حديثاً في مناطق الفرات الأوسط، وبقيت مجرد تراث شعبي وفلكلور في المناطق الغربية، ثم نما ومر بحالات تطور وازدهار في مناطق معينة بينما أصيب في مواقع أخرى بالسبات والموت.
تشير تقارير ميدانية وأبحاث عراقية إلى أن الجوبي كانت موجودة في مناطق جنوب البلاد، مستشهدة بكبار بالسن الذين أكدوا أنهم كانوا يشاركون في هذه الرقصة ويسمعون عنها من آبائهم وأجدادهم. وخلال حقبة ثلاثينيات القرن الماضي كانت النساء تشارك الأداء بها.
وعن هذا، يقول الباحث في التراث الشعبي العراقي مدير تحرير مجلة التراث الشعبي منتظر الحسني، إن أصل الرقصة لا يعتمد على أداء اللعبة وحده، فالعناصر المتعلقة بها كالعزف والأشعار المغناة تكون حصرية فقط بالجوبي.
ويذكر بأنه “يمكنك تمييزها بلهجتها وطريقة الأداء إلا أننا نجد كثيراً من الأشعار التي تؤدى حتى اليوم مأخوذة من تراث أبو الغمس الخزاعي. الشاعر الذي يعود تاريخه إلى القرن الـ18، والذي كان ينتمي لمنطقة الفرات الأوسط في العراق، مما يدل على أن الجوبي كانت منتشرة في أماكن عديدة لكنها انحسرت تدريجاً لتبقى اليوم في غربة”.
ويوضح الحسني أن بعض الأغاني تبدأ بكلمة “الجوبي” ومنها “الجوبي الجوبي الجوبي والحلوة شقت (أحدثت شقاً) ثوبي… عندي بنية زعيرونة (صغيرة) تكبر وتخيط ثوبي”. ولشدة شهرة لحن الرقصة، فإن تفصيلة صنع أغنية من الأثر لم تفت أي فنان عراقي.
دخلت النساء على خط اللعبة بعد سيطرة الرجال عليها لعقود
ويقول “كانت رقصة الجوبي بمثابة جسر رابط بين المدن والأرياف، حيث تتركز مزارات الأولياء والصالحين، ولم تقتصر عادات تأديتها على الأفراح، بل يجتمع الناس قرب هذه الأضرحة لمشاهدة اللاعبين بخاصة في أيام العيد، كما في منطقة أبو الفضل حيث مقام (الفضل) وهو أحد الأولياء”.
وعلى رغم عدم وجود رابط محدد أو معرفة بين الناس فإن هناك طريقة خاصة لتحديد مكان البدء بلعب الجوبي، إذ يسحب اللاعبون قرعة لتحديد البيت، وعلى صاحب هذا البيت تقديم الضيافة للجميع، وعندها يصبح الجميع أكثر معرفة ببعضهم.
ويختم الباحث في التراث الشعبي العراقي حديثه بالقول “الجوبي ليست مجرد لعبة أو رقصة، بل فكرة (زاد وملح) وتجانس مجتمعي قبل كل شيء يستمتع الناس جميعهم به، ويشعرون بالألفة من خلالها”.