حرية – (21/5/2024)
كبساط أخضر تملأه شتى أنواع الزهور تبدو المروج العابقة بألوان الربيع، وتتربع على كتفها صناديق بيضاء محكمة الإغلاق هي مخادع ملكات ونحل طيار يطوف أرجاء الأرض، متنقلاً بين الورد البري ليصنع في آخر اليوم في بيوته المتناثرة بالأرياف السورية، ذلك الشراب الألذ والأطيب، “العسل” حتى وإن بات لغالبية السوريين شراباً بعيد المنال لغلاء ثمنه في الأسواق.
“قفير” النحل في المراعي
وفي مثل هذه الأيام من كل عام، يكابد النحالون أعباء شتى من التحضير والتنقل بين الأرياف يحملون خلايا النحل، ويطوفون الحقول والمزارع. وعلى رغم تناقص أعدادهم إلا أن من تبقى في هذه الحرفة لا يدخر جهداً في خدمة حرفته ليذوق مرارة لا يعرف طعمها من يذوق لذة العسل الشهي.
وبالقرب من شيزر في ريف حماه، يحط النحال مجد محي الدين رحاله بعد جولة دامت ست ساعات تنقل خلالها بين ربوع السهول، إنها “رحلة صعبة ومريرة” هكذا يصفها لاسيما بعد فقدانه 60 خلية من النحل ماتت بعد رحلته الطويلة بحثاً عن المرعى المناسب.
يكابد النحالون أعباء شتى من التحضير والتنقل بين الأرياف حاملين خلايا النحل ويطوفون الحقول والمزارع
يحكي ذواق العسل والنحال محي الدين رحلة إنتاج العسل الصعبة لاسيما بعد ما شهده قطاع تربية النحل من خسارات متتالية عقب الحرب، وما نتج منها من أضرار منها فقدان المساحات الواسعة من المراعي وقطع أشجار، وخروج كثير من المراعي عن الخدمة.
وأضاف “إصابة النحل بالآفات المرضية، وعدم وجود الأدوية اللازمة للمكافحة ومنها حشرة (القراض) مثالاً، وضعف وصعوبة التنقل بين المحافظات، هي أبرز ما يشغلنا، لقد خرجت من الحصار بـ18 خلية نحل بعدما كان لدي قبل الحرب ما يقارب من 300 خلية نحل”.
ويعتقد محيي الدين أن فترة التنقل الطويلة أكثر ما يؤرقه هو وأقرانه من العاملين في هذا المجال، فلأسباب أمنية وبعد الحرب بات من الضروري إخراج موافقات خاصة وإجراءات تفتيش.
ويجزم أنه للارتقاء بالإنتاج كماً ونوعاً لا بد من تقديم تسهيلات للنحالين بالتنقل، ولإنتاج عسل أفضل لا بد من زراعات محمية من الآفات، في وقت يرتفع سعر كيلو غرام العسل بشكل كبير في الأسواق نتيجة التكاليف الزائدة، وتدني القدرة الشرائية للمواطنين، بحيث بات اقتناء العسل حكراً على ميسوري الحال في البلاد مع تناقص الإنتاج مقارنة بفترة ما قبل الحرب.
بات اقتناء العسل حكراً على ميسوري الحال في سوريا
إنتاج حلو وسوق مر!
في غضون ذلك أشارت بيانات صادرة عن لجنة مربي النحل في سوريا بإنتاج 1500 طن من 270 قفيراً (خلية) للنحل، التي تعطي كل منها نحو 10 إلى 15 كيلوغراماً في المعدل الوسطي، بينما وصل إنتاج عام 2022 إلى نحو 2500 طن، وتعتبر سوريا واحدة بين الدول المنتجة للمادة، وذلك بإنتاج ناهز 3 آلاف طن سنوياً.
ويعتقد مجد الدين أن الإنتاج يبقى وفيراً وكمياته جيدة في السوق الداخلية لسوريا، ويرى في الوقت ذاته أن سعر العسل متدن، ويحاول المربون الانكفاء عن تربية النحل واستبدال أعمالهم بمشاريع زراعية أخرى لارتفاع تكاليف إنتاج مادة العسل، وقال:
“ارتفاع التكاليف أرهقنا بشكل لا يوصف، فسعر مادة المازوت في السوق غير المدعوم يبلغ 14 ألف ليرة أي ما يقارب دولار واحد، إضافة إلى مصاريف وتكاليف التنقل وغيرها من أجور العاملين الباهظة، وبالنتيجة تدني عمليات التسويق”.
في المقابل تزدهر السوق الخارجية بشكل جيد بحسب محيي الدين، وينشط التصدير للدول العربية ولاسيما الدول المجاورة حيث يباع كيلو العسل بـ300 ألف ليرة سوري (ما يعادل 20 دولاراً)، في حين يباع في السوق الداخلية بأقل من ذلك، علماً أن كلفة الكيلوغرام الواحد لا تتعدى 140 ألف ليرة (أي نحو 10 دولارات).
ينشط تصدير العسل للدول المجاورة
رحلة في الرحيق
إزاء ذلك ومع كل المنغصات التي تسببت بها الحرب والحصار على سوريا على واقع الإنتاج، يبرز بصيص أمل في أن يعود “النحل السوري” الشهير بإنتاجه المرتفع إلى العمل مجدداً على رغم كل الظروف. وفي وقت يحتفل النحالون باليوم العالمي للنحل في الـ20 من مايو (أيار)، يشرح الأمين العام لاتحاد المهندسين الزراعيين العرب محمد لؤي مكتبي، في حديث لـ”اندبندنت عربية”، عما يميز جغرافية سوريا، التي تحوي على عديد من البيئات من جبال ساحلية وسهول وجبال داخلية وبادية، وبالتالي يوجد فيها تنوع نباتي غني جداً من حيث النباتات الطبيعية (البرية) الرحيقية، والمحاصيل المتنوعة ومنها الرحيقية مثل القطن وحبة البركة واليانسون والسمسم ودوار الشمس وغيرها.
ويتابع “كذلك تتنوع الطبيعة السورية بشكل كبير بالأشجار المثمرة، التي هي أيضاً تعتبر من المصادر المهمة للرحيق مثل الحمضيات واللوزيات والتفاحيات، من دون أن ننسى الغابات وما تحويه من أشجار رحيقية مثل الزعرور والأكاسيا والكينا وكثير من غابات السنديان، وهذا يسهم في إغناء العسل السوري الذي يعتبر من أجود أنواع العسل وأكثره غنى بالفيتامينات والمعادن.
تعتبر الأشجار المثمرة من المصادر المهمة للرحيق مثل الحمضيات واللوزيات والتفاحيات
ويرى أنه من أبرز الصعوبات ارتفاع أسعار النقل كون النحال يحتاج إلى التنقل بحسب المرعى المتاح، وكذلك الرقابة الضعيفة على منتجات النحل مما يسمح لبعضهم بتسويق عسل مصنع وبسعر منخفض، بحسب رأيه، ويقول:
“بسبب غياب الرقابة والتوعية، يعتقد كثير من المستهلكين أن العسل المجمد مغشوش ولا يعرفون أن من صفاته الفيزيائية أن يتجمد، ولتفادي هذا الأمر يضطر بعض النحالين إلى عملية البسترة على رغم أثرها السلبي في نوعية العسل، إذ يفقد أغلب الفيتامينات الموجودة في تركيبته نتيجة تعريضه للحرارة (حمام مائي)، وكذلك تتلف الأنزيمات المفيدة الموجودة فيه”.
ويعتبر مكي أن مهنة “ذواق العسل” منتشرة عالمياً، أما في بلدنا فالذواق الأكثر خبرة للعسل هو النحال، فهو يستطيع من تذوقه للعسل أن يحدد المرعى الذي جنى النحل منه العسل، “أما كمهنة لها انتشارها فهي للأسف غير موجودة حالياً في بلادنا”.
ويعتقد الأمين العام للمهندسين الزراعيين العرب مكي وجود صعوبة في غاية الأهمية تتعلق باستخدام النحالين المبيدات الكيماوية لمكافحة أمراض وآفات النحل، على رغم تخلفه من ضرر على النحل ومنتجاته بسبب الأثر المتبقي لهذه المبيدات، كذلك مكافحة المزارعين الآفات الزراعية بمبيدات حشرية من شأنها أن تقضي على أعداد كبيرة من النحل الجامع للرحيق، مما يسب خسارة كبيرة للنحالين.
مكافحة المزارعين الآفات الزراعية بمبيدات حشرية من شأنها أن تقضي على أعداد كبيرة من النحل
حتى (النحل) هاجر!
ومع كل ذلك يحاول النحالون وأغلبهم من الـ”ذواقة” أن يقدموا إنتاجاً مناسباً في الكم والنوع للمستهلكين، لاسيما في حال استخدامه من بعض المرضى لغايات طبية وهؤلاء في رحلة بحث مستمرة عن عسل غير مغشوش. وكان عام 2022 شهد موتاً مفاجئاً للنحل وهجرة من قرى محافظة درعا جنوب سوريا.
وكانت اللجنة المشكلة من وزارة الزراعة في ذلك الوقت حددت أسباب ما حدث “بقلة المرعى وعدم قدرة مربي النحل على ترحيل القفير خارج المحافظة، والافتقار إلى تنوع مصادر الحبوب، مما انعكس سلباً على مناعة النحل”.
هناك سلالات نحل محبة الهجرة
وفي حديثه يعدد المسؤول العربي للمهندسين الزراعيين مكي أسباباً أخرى لهجرة النحل قائلاً: “قد يكون مسكن النحل غير صحي ورطب مثلاً، أو تهويته سيئة أيضاً، أو في حال كان الوسط المحيط بالمنحل غير ملائم ومصدر للضجيج مثلاً وربما وجود روائح مؤذية أيضاً.
ناهيك عن أن سلالة النحل قد تكون أحياناً محبة للتطريد والهجرة، وختم قائلاً “أنصح النحالين باقتناء سلالة النحل السوري كونها الأكثر ملاءمة للظروف الجوية ومقاومة للأمراض المحلية، على أن يقوم النحال بمراقبة خلاياه واختيار الخلايا الأقوى والأكثر إنتاجاً، وجعلها أمهات لتربية ملكات سورية ذات مواصفات مميزة”.