حرية – (23/5/2024)
هناك أمر يتعلق بـ”متنزه غويل” يودي بمدينة برشلونة وسكانها إلى حد الجنون، أو إلى الـ”بويغ” (boig، أي جنون بالتعبير الكتالوني)، على ما يفضلون قوله هنا في كتالونيا. فأبناء برشلونة شديدو الاعتزاز والغيرة تجاه رئتهم الخضراء، أي تلك المساحة الحرجية الواسعة والخلابة، الواقعة على تلة تشرف على المدينة ذات الصروح والمواقع المذهلة، المكسوة كلها بالخزف، والمستوحاة من الطبيعة: مقاعد كالأفاعي العملاقة، أروقة مصممة على صورة جذوع أشجار، أدراج عالية تحاكي شكل السمندل.
وتحول ” متنزه غويل” – ذاك المكان المصمم بأسلوب “الآرنوفو” الكتالوني من قبل المعماري الشهير أنطوني غاودي واهب برشلونة العاشقة للفن أبرز صروحها – في السنوات الأخيرة إلى مصدر قلق بسبب مظاهر السياحة المفرطة، مستدعياً تساؤلات عما يمكن القيام به فعلاً لوضع حدود لها.
حراس هذا المكان المديني العام، البالغة مساحته 40 هكتاراً، الذي يعد ثاني أكثر مكان جذباً للزوار هناك، باتوا قلقين اليوم من وصول عدد زواره سنوياً إلى 9 ملايين شخص، وقد قاموا إزاء ذلك بمحاولة تطبيق تدابير صارمة بغية تقليص هذا الرقم المتضخم، ومن ثم الحد من الأضرار التي قد يلحقها الكم الهائل من الزوار بموقع حساس ومثالي تصنفه منظمة “اليونيسكو” أحد مواقع التراث العالمي.
وقد جرى اليوم في هذا الإطار تحديد عدد زوار المتنزه إلى 1400 زائر في الساعة. وإن لم يحجز المرء مسبقاً للدخول – أحياناً قبل أسابيع من موعد الزيارة في موسم الذروة – لا شيء يضمن دخوله. وفي حال لم يؤد هذا الأمر إلى ثني المرء عن الزيارة، فقد تسهم مسألة الانتظار في رتل طويل تحت شمس المتوسط الحارقة عند بوابات المتنزه في ثنيه. أما إن بقي المرء مصراً على دخول “بارك غويل” ولم يحبط، فهناك كلفة الدخول التي فرضت منذ عام 2013: فما كان يعد متنزهاً عاماً مفتوحاً للجميع بات الآن متنزهاً يستوجب رسم دخول يبلغ 10 يوروهات للشخص الواحد.
لكن لا شيء يعاكس تماماً تجربة الدخول إلى عالم غاودي أكثر من شعارات “الغرافيتي” (كتابات ورسومات الجدران) الغاضبة والمناهضة للسياح، المنتشرة على جدران المباني المحيطة بالطريق الذاهب صعوداً والمؤدي إلى المتنزه من محطات المترو الأقرب.
فبالنسبة إلى مدينة شابة ومبدعة مثل برشلونة، فإن الشعارات عادة ما تكون أعلى مستوى من المعتاد مثل عبارات طلاء تقول “عودوا إلى دياركم!” و”رحلتكم الفاخرة – بؤسي اليومي” و”أيها السائحون، نحن نبصق في البيرة الخاصة بكم… تحياتي!” و”النشالون موضع ترحيب”. حتى إن شعارات عديدة من هذا العيار تنقش وتخطط بأناقة على الجدران، فتظهر بحروفية جذابة ونافرة، بدلاً من أن يقتصر تنفيذها على استخدام رشاشات الطلاء البسيطة والعشوائية.
بيد أن هذه التدابير ما زالت غير كافية وفق ما يرى البعض. فهناك قرابة 4.5 مليون شخص ما زالوا يحجون إلى المتنزه الشهير في كل عام. لذا جرى إزالة وإخفاء الإشارة إلى مسار الباص رقم 116 من خرائط السياح، وهو أحد الباصات القليلة التي تصل إلى المتنزه وتنزل الركاب أمام بواباته الرئيسة. وكذلك أقنعت سلطات النقل في المدينة الكتالونية “غوغل” و”أبل” وأمثالهما في إزالة هذا الخط من تطبيقات النقل التي يوفرونها.
وفي هذا الإطار يفيد سكان حي “لا سالوت” [المجاور للمتنزه] بأن هذه الفكرة التي بدت غريبة والتي كان يفترض تجاهلها في أروقة البلدية، تركت تأثيراً سريعاً، فبات كبار السن من السكان قادرين على إيجاد مقاعد خالية لهم في الباصات التي كانت في العادة تعج سابقاً بالسياح وتخلو من الأمكنة الفارغة.
وهذا نموذج نادر لتدبير بسيط يؤدي إلى نتائج جيدة في معالجة “السياحة المفرطة”. إذ عندما يتمتع مكان ما بشعبية وجاذبية كهذه يغدو متخماً بالزوار، ويصبح من المستحيل التمتع به، سواء أكنت سائحاً أم مقيماً بالمكان. فضلاً عن خلق نقاط ازدحام واختناقات في وسائل النقل – لأنه عندما يذهب الزوار إلى مكان ما، فإنهم جميعا يميلون إلى الذهاب إلى المكان نفسه – تجعل الخدمات الأساسية تحت وطأة الاكتظاظ والضغط.
لقد عايشت شخصياً وعلى نحو مباشر السياحة المفرطة وأجواءها في برشلونة قبل 20 سنة، عندما استقللت أحد تلك الباصات المكشوفة السقف والمخصصة للجولات السياحية، ومعي جدتي التي أردت أن أجول معها في مدينتي المفضلة. وحين بلغ باصنا ذاك مفرقاً، وخفف سرعته كي ينحرف، تلقينا “قذيفة مائية” قصفنا بها، من أحد الأبراج السكنية القريبة، سكان مبتهجون صاخبون. بلغتنا أنا وجدتي شظايا المياه، لكن الإصابة المباشرة وقعت على زوجين نرويجيين تلقيا القذيفة المائية كاملة. على أن دقة الإصابة التي حققها ذاك البالون المائي، دل على أن هذه الممارسات جارية منذ زمن وقد بلغت درجة إتقان احترافية لافتة.
من هنا، وإضافة إلى فكرة “إخفاء خط الباص”، تفكر سلطات المدينة الكتالونية الآن باعتماد ثلاثة تدابير إضافية، مثل فرض قيود على استخدام المياه خلال الأشهر الأكثر حراً، وذلك لتوفير مصادر المياه وتأمينها للسكان المحليين بصورة أفضل.
ويبدو أن المدينة في هذا الإطار لن توفر جهداً للحد من زحف الحشود الجميلة الهائلة إلى الشارع التجاري الرئيس “باسيج دي غراسيا” (Passeig de Gracia)، إذ يرفعون أنظارهم للتعجب من كل التفاصيل المرحة في “بيت التنين” (كازا باتلو) Casa Battló، أو أعمال البناء المتموجة في لا بيدريرا، وهما من أكثر أعمال غاودي شهرة.
وإدراكاً منه لكثافة الضوضاء والتلوث اللذين يجلبهما السياح إلى المدينة، بدأ مجلس المدينة بوقف السماح ببناء مبان فنادق جديدة في الأحياء المركزية تزامناً مع تضييقه الخناق على عقود الإيجارات القصيرة الأمد غير المنظمة، التي تتسبب في ارتفاع الإيجارات بالنسبة إلى السكان المحليين وفي تفاقم أزمة السكن.
إلا أن الخطوات النوعية الشبيهة بحرب العصابات هي التي تحقق مرادها في برشلونة. إذ خلال الصيف الماضي ظهرت لافتات على طول الخط الساحلي تحاكي اللافتات الرسمية وتحذر من “تساقط الصخور” و”قناديل البحر الخطرة”. واقع ظهور تلك اللافتات باللغة الإنجليزية (وليس الكتالونية) كان ينبغي أن يشير إلى حقيقة الأمر وهدف اللافتات: فالكلمات الصغيرة باللغة الكتالونية التي تضمنتها تلك اللافتات أوضحت أن المشكلة ليست بتساقط الصخور، بل بالسياحة المفرطة – كما ذكرت أن الشواطئ مفتوحة للجميع “باستثناء الأجانب وقناديل البحر”.
المشكلة ربما هي أن برشلونة تثير مستوى عالياً من الشعور الإيجابي بـ”الفومو” Fomo [شعور المرء بالخوف من أن تفوته الأشياء التي ينبغي أن يراها ويختبرها ويتمتع بها]. إذ جرى الشهر الماضي الإعلان عن أن تحفة غاودي، “كاتدرائية العائلة المقدسة” (ساغرادا فاميليا كاتدرال) Sagrada Familia cathedral تشرف على الاكتمال عام 2026، بعد قرن كامل من رحيل هذا المعماري.
لقد أمضيت فترة ما بعد الظهر في الصيف الماضي في استكشافه، وفي ذلك الوقت كانت جميع أبراجه الـ18 الرائعة قد اكتملت باستثناء واحد، ولم يبق إلا أطول تلك الأبراج، برج يسوع المسيح، مرشحاً للارتفاع أكثر. رؤيتها بعظمتها هذه تمثل مجداً أكيداً وتجربة شبه دينية وروحية، حتى لملحد مثلي. حاولوا فقط ثنيي عن العودة إليها حين تكتمل!