حرية – (23/5/2024)
تدرُج بين الغربيّين مقولة My house, my rules “منزلي يسير بأحكامي”. يستخدمها أصحاب البيوت والآباء خاصّة لمحاولة فرض سلطتهم المتهالكة على أبنائهم. ويقال عند جمع منهم إنّ أصلها يرجع إلى الله عندما خلق الكون أطلق هذه القاعدة حتّى يسير كلّ شيء بأحكامه. غير أنّ الغرب شذّ عنها وراح يستنبط أحكاماً تناقضها منذ نحى إلى اعتناق الرأسماليّة، بتعلّة أنّ الله -من خلال الدين- أخطأ، أو أنّ من نقلوا عنه أخطأوا، وقد جاء العلم ليصحّح ذلك ويسير بالإنسانيّة النموذج الأمثل حيثُ يُرفَع البؤس والعناء عن البشر ويعيشون الرخاء والحريّة التي حرمتهم منه أخطاء الدين أو الله -سبحانه عمّا يفترون-.
الأمر سيان عند الشيوعيّة والرأسماليّة وإن كانت الأولى تقطع مع الدين وتعصف به مباشرة، فيما الثانية تتبع المرحليّة بين نعومة وخشونة، فتحتوي الدين وتحرّفه وتبدّله تدريجياً مغلّفة فعلها بشعارات (حقوق الإنسان، الحريّة/يـات) والمساواة…) إلى أن يصير جلّه وضعياً يتكيّف حسب مصالحها، فالرأسماليّة في تمظهرها الحاليّ كما الشيوعيّة دين وضعيّ. وقد وجدا موطئ قدم ثم استشريا في الغرب المسيحي وبلغا حتى أقصى الشرق الكنفوشي وغيره مع موجة الاحتلال في ذروة الفعل الحضاري الغربي، وطالت هيمنة رأس المال الاقتصاديّة وأثره الثقافي جل بقاع العالم، وهدف إلى نشر وإقامة دينه حيث حلّ، كأنّما أخذ مكانة المقولة المنسوبة عندهم للإله “منزلي (أو كوني) يسير بأحكامي”.
طبعاً، لن تجد مجموعة تقول إنّها تعتنق الرأسماليّة، لكن أثر تدرّجها جلي حيث تجد في أدناه من يقول بأنّه متديّن ملتزم رغم أنّ تديّنه طقوسي يقتصر على العبادات فيما ينساق في المعاملات الرأسمالية المنافية لدينه ويطبّع مع الخطايا الأخلاقيّة، ثمّ غير الملتزم القائل بانتمائه إلى دين لكن دون الانضباط عند عباداته وتعاليمه، ثمّ اللادينيّ الرافض لأيّ مرجعية دينيّة في الحياة مع موقف متأرجح من وجود الإله أو قوّة خفيّة من عدمه، ثمّ الإلحاد الصريح، ونسبة الاتجاهين الأخيرين في تصاعد، وهكذا كما حال تهالك سلطة الأب في الأسرة تتهاوى سلطة وأثر البابا والكنيسة في المجتمعات الغربيّة، وهذا من ذاك، فتتناسى مطلب إقامة “مملكة الربّ في الأرض”، وتنساق ضمن تدرّج الرأسمالية مذعنة للحفاظ على وجودها الصوري مظهرةً تقبّلاً وتسامحاً مع خطايا كبرى، من ذلك الربا والزنا والمثليّة.
لكن وإن انحسرت الشيوعيّة العنيفة مقابل تفشي الدين الرأسمالي المرن، إلا أنّ كليهما اصطدم ويصطدم في توسّعه بالإسلام، ذي البعد الكوني بدوره ومسعاه لإعلاء أحكام الله وإن كانت حضارته تمرّ بفترة تراجع. فرغم تعدد التغييرات القسريّة والفوقيّة التي أحدثتها الصدمة الحضاريّة في المجتمعات المسلمة فإنّها تفتقر للعمق والأثر ذي الديمومة، إذ بقيت مرجعيّة هذه المجتمعات في تقييم التغيير دينيّة بالأساس سواء في المعاملات والقيم. وقد وجد مدّ الدين الوضعي هنا نفسه أمام إشكال أنّ القرآن كلام الله، لا نسخاً محرّفة متباينة من مصادر وألسنة بشريّة مختلفة كما حال باقي الديانات التي هيمن عليها هذان الدينان الوضعيّان.
لذا أنيطت بعلماء أو بالأحرى رهبان الديانتين مهمّة إيجاد مداخل لتفكيك هذا الدين تعضدهم الهيمنة الاقتصاديّة والثقافيّة للرأسماليّة خصوصاً، فانكب رهبان الاستشراق (فلاسفة، مؤرّخون، أنثروبولوجيّون…) على ذلك واستنبطوا دجلاً كثيراً لم يسفر عن شيء ذي أثر بشأن القرآن رغم جسامة الجهد، وكان أثره ضعيفاً بالنسبة للسنّة بحكم وجود علم الحديث بضوابطه الصارمة رغم الشوائب التي لا يخلو منها عمل بشريّ، ولم يختلف الأمر كثيراً بشأن التاريخ، وقد ركّزوا على فترات العصر النبويّ والخلافة الراشدة والفتنة، على ما وجدوا واصطنعوا من مداخل، جرّاء اصطدامهم بالشغل الجبّار للمؤرّخين الجمّاعين الأوائل. وقد جوبهوا في كلّ مجال بمن يُسقط افتراءاتهم وادّعاءاتهم بالبرهان والحجّة العلميّة. ولم يجدوا مدخلاً ذا تأثير إلّا في افتراء سرديّة أنّ الدين كان علّة التراجع الحضاريّ أو فترة الانحطاط، فيما تبلور التفنيد المنطقي لهذا الافتراء متأخّراً، مبرزاً أنّ الدين كان السبب الأساس لما عرفته الحضارة الإسلامية من ازدهار وتطوّر وتوسّع كبير، وأنّ الانحراف عنه كان علّة تراجعها.
غير أنّ شغلهم -مُسنداً بالصدمة الحضاريّة والتعليم الغربيّ الذي أُرسي في دول العالم الإسلاميّ المحتلّة- أثّر واستهوى واستنجب بعض المنبتّين المشدوهين بأحد النموذجين الوضعيّين، مثّلوا امتداداً لموجة الاستشراق بأجيال ونخب محليّة (تنويريين، مستنيرين، تقدّميين، حداثيّين…) مدعوماً من الغرب والسلطات التابعة له التي خلّفها وركّزتها عقب فترة الاحتلال المباشر، واصل المهمّة بانحرافٍ أجسم عن المنهجيّة العلميّة لكن بالمقابل بأثر أكبر على الجماهير لعلّة أنّ القائل في هذه الحالة ابن تلك الحضارة والثقافة و”الملّة”، ذو مكانة مرموقة (“نخبة”) رغم أنّه يستمدّها من السلطة وداعمها الخارجيّ، لا من قيمة مُنجَزِه العلمي أو الثقافي، وأثره المرفوض والمنبوذ من غالبيّة أهل بلده و”ملّته”.
مقابل تصعيد وفرض هذه النخبة المتماهية مع المرحليّة المعتمدة من جماعة الدين الوضعي في إزاحة السماوي، تشكّلت تيّارات أصوليّة، اتّسم حيّز منها بالمغالاة والتطرّف -وهذه سمة كلّ التيّارات الفكرية والدينيّة-، هدفها الحيلولة دون إزاحة أحكام الله في أرضه لصالح الأحكام الوضعيّة، والعمل على إماطة الانحرافات التي شابت علاقة المسلم بدينه والعودة أو التأسيس لمنظومة تشريعات متوافقة وهويّته، أي بما سيتطور مع مزيد تبلور هذه التيار إلى هدف أسمى بمعاودة بناء رابط سويّ بين تعاليم الإسلام وسجيّة الإنسان يخوّل استعادة القدرة على الفعل الحضاريّ المنسجم مع نواميس الله. وقد عرفت انتشاراً سريعاً وعمقاً شعبياً رغم انبراء الغرب يجابهها منذ نشأتها خلال فترة الاحتلال المباشر ثمّ بعدها عبر دعم وتوجيه السلطات والنخب المحلّية التي خلّف للعمل على قمعها وتصفيتها بشتّى السبل المنافية بوضوح للقيم السامية التي يدعي الغرب إعلاءها حدّ القداسة.
لقد وقف الغرب الرأسماليّ مصفّقاً للثورات العربيّة في مستهل العقد الثانيّ من هذا القرن متأهّباً لاحتضانها في فلكه وأحكامه، وقد جعلته عنجهيّته يغفل أنّ الشرخ بين دينه الوضعيّ والإسلام صار أعمق وأحلك، غير أنّ عودة الثورات إلى المساجد، شأنها شأن جلّ ثورات العالم الإسلاميّ مهما كانت محاولة الإبعاد عنها، وتصاعد الخطاب المعادي للغرب وقيمه بين الشعوب، وتصعيدها التيّارات الأصوليّة على هناتها طلباً لمنظومة تعلي أحكام الله، جعلته يعاود سالف نهجه في ضرب التيّارات الأصوليّة الصاعدة إلى السلطة بسلبها الديمقراطية رغم ما قدّمت من إذعان وتنازلات كان يدرك أنّها مرحليّة. ومن ثمّ يصعّد ويدعم المنظومة الاستبداديّة القديمة لقمع إرادة هذه الشعوب إلى حين، بينما كان في الظاهر يبدي قلقه من فشل التجربة الديمقراطيّة والانتكاس إلى قمع الحريّات.
عام 1789 كانت الثورة الفرنسيّة إشارة الإطاحة بالمقدّس الديني لصالح وضعي أخذ شيئاً فشيئاً صفة القداسة، وسرت العدوى في أوروبا ثمّ تسلّلت منها، وإن بأثر ضعيف إلى بلاد الإسلام، لاسيما مع الاحتلال الغربيّ ودُوَل العمالة التي خلّف وجعل من مهامها الحيلولة دون تصاعد ذلك المقدّس بعد أن أدّت الصدمة الحضاريّة في فترة الاحتلال إلى ظهور أولى التيّارات الأصوليّة وتنظّمها سياسياً ومدنياً. بعد سقوط الباستيل بحوالي قرنين ورغم القمع كانت الثورة الإيرانيّة سنة 1978 إحدى أوضح إشارات استرداد المقدّس مكانته في العالم الإسلامي، تلاها صعود الأصوليين في تركيا ثم فلسطين، فالثورات العربيّة بنفسها الأصولي.
وإذ تتوالى أخطاء وأزمات الغرب الرأسمالي فيصير في كلّ مرّة أقّل قدرة على تقديم إجابة الرخاء الدنيويّ التي كانت عماد صعوده، وتتفاقم أمراضه الاجتماعيّة وتنهار قيمه ويضعف تأثيره وهيمنته باطّراد وقد غادر ذروة منحناه الحضاريّ، بما يزيد فسح المجال لتبلور تيّارات أصوليّة أقلّ تأثّراً بالصدمة الحضاريّة، وأكثر نضجاً وانضباطاً عند مركزية أحكام الله، وقدرةً على الصدام مع المركزيّة الغربيّة ودينها الوضعيّ. لعلّ أبرزها ما قادته حركة حماس في غزّة التي تكاد تعد المنطقة العربيّة الوحيدة المتحرّرة من الهيمنة الغربيّة، وإنّ المثال الذي قدّمته تلك البقعة الصغيرة من الأرض إبّان طوفان الأقصى يُعدّ أوجَعَ الضربات لما يدّعي الغرب من قيم ومناقبيّة، ولسرديّته المغرضة عن الإسلام، بما سيمثّل دفعاً ونفساً جديداً للتيّارات الأصوليّة في صراعها ضدّ الهيمنة الغربيّة. إنّها نذور تأجّج الصراع بين مقدّسين، أحدهما في تراجع رغم قوّته والآخر يكابد للنهوض.. إنّه “قرن المقدّس” وإن تبرّأ من نُسبت إليه هذه القولة منها..