حرية – (29/5/2024)
بحلول الـ31 من مايو (أيار) الجاري يكون نصف قرن مضى على توقيع اتفاق فض الاشتباك أو فك الارتباط بين القوات الإسرائيلية والسورية الذي تم عام 1974، لتنتهي بذلك رسمياً المعارك القتالية والمناوشات بين الجانبين التي اندلعت بشكل مفاجئ في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 1973 على الجبهتين السورية والمصرية ضد إسرائيل، واستمرت بشكل متقطع على مدى نحو ثمانية أشهر.
وعلى رغم أن هذا ليس اتفاق سلام، إلا أن الاتفاق نفسه نص على أنه خطوة نحو سلام عادل ودائم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر بتاريخ الـ22 من أكتوبر 1973، ومع ذلك ظل الحال في شأن الجولان مجمداً، بل ضمت إسرائيل الهضبة المحتلة بحكم الأمر الواقع في الـ14 من ديسمبر كانون الأول عام 1981 في مخالفة للقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن.
في هذه السلسلة من الحلقات، تكشف “اندبندنت عربية” عبر مجموعة من الوثائق الأميركية التي رفعت عنها السرية من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والأرشيف الوطني حول مرتفعات الجولان وأهميتها وتاريخها ونظرة الجانبين السوري والإسرائيلي لها، ولماذا تأخرت عن اتفاق فض الاشتباك المصري – الإسرائيلي أكثر من أربعة أشهر، والدوافع والظروف الإقليمية والدولية التي رافقت محاولة استعادة سوريا للجولان في هجوم منسق مع مصر قبل أكثر من 50 سنة، والجهود التي بذلت بعد الحرب للتوصل إلى سلام يعيد الأراضي المحتلة، فضلاً عن المواقف العربية الداعمة لسوريا ومصر عسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً، ومن خلال استخدام ورقة النفط العربي كسلاح للمرة الأولى من خلال الجهود التي قادتها المملكة العربية السعودية.
50 سنة والحل غائب
في الـ31 من مايو (أيار) 1974، وبمشاركة ممثلين عن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة، وقع ممثلان عسكريان لسوريا وإسرائيل في جنيف، وهما حكمت الشبابي وهيرتزل شافير كانا ضمن فريق العمل العسكري المصري – الإسرائيلي التابع لمؤتمر جنيف للسلام تحت رعاية الأمم المتحدة، على اتفاق فض الاشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية بعد رسم دقيق لخريطة تفصيلية والتوافق على مراحل تنفيذ الاتفاق الذي بمقتضاه تفصل بين القوات، وتحديد الأراضي الواقعة تحت الإدارة السورية بما فيها منطقة القنيطرة، والأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وإعادة أسرى الحرب وجثث القتلى بين الجانبين، وتحديد المنطقة الفاصلة التي تتمركز فيها قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك.
وقبل الخوض بنهاية هذه السلسلة في تفاصيل المفاوضات الصعبة التي استمرت أكثر من أربعة أشهر وانطلقت فعلياً في الـ20 من يناير 1974 بلقاء بين وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر والرئيس السوري حافظ الأسد في دمشق، الذي قدم للمرة الأولى ثلاثة اقتراحات للانسحاب الإسرائيلي، فإن الفقرة الأخيرة التي وصل إليها الاتفاق في النهاية بحسب ما نشره الأرشيف الوطني الأميركي، تنص على أن الاتفاق يعد بمثابة خطوة نحو سلام عادل ودائم على أساس قرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر بتاريخ الـ22 من أكتوبر 1973.
وثيقة رقم 1 حول اتفاقية فض الاشتباك بين القوات السورية والإسرائيلية
ومع ذلك لم يتحول هذا إلى واقع على مدى نصف قرن، ربما لأن الأسباب الكامنة وراء رفض السوريين والإسرائيليين تقديم تنازلات تؤدي إلى اتفاق سلام ما زالت قائمة حتى الآن، وهي الأسباب نفسها التي دفعت إلى اشتعال حرب أكتوبر عام 1973 بهجوم مباغت سوري – مصري مشترك، أدى في النهاية إلى هذا الاتفاق وما تبعه من جمود.
غير أن الدوافع والأسباب التي فجرت الحرب وعرقلت السلام، تكشف عنها بوضوح مجموعة من أهم الوثائق الأميركية التي سبقت اندلاع الحرب وتواصلت خلال العمليات القتالية وما بعدها على مدى أشهر عدة، ونكشف عنها من خلال سلسلة حلقات متصلة وصولاً إلى المفاوضات الأخيرة لفض الاشتباك أو فك الارتباط بين سوريا وإسرائيل.
كيف تفكر إسرائيل في السلام مع العرب؟
أول هذه الوثائق صدر من الاستخبارات المركزية الأميركية قبل اندلاع حرب أكتوبر بـ10 أشهر وبالتحديد في الأول من ديسمبر 1972 تحت عنوان: “التفكير الإسرائيلي في تسوية سلمية مع العرب”، التي تعكس قدراً كبيراً من عدم ثقة الإسرائيليين في سعي العرب إلى السلام في هذا الوقت، وبالتالي عدم الرغبة في تقديم تنازلات، إذ أشارت الوثيقة إلى أن القادة الإسرائيليين يكررون علانية أنهم يريدون بصدق التوصل إلى تسوية سلمية مع الدول العربية، وأنهم على استعداد للتفاوض في أي وقت، وهم يعتقدون أن إسرائيل لا يمكنها البقاء في نهاية المطاف إلا من خلال السلام، وعبر الاعتراف العربي بوجود إسرائيل، وأن تصبح عضواً منتظماً في مجتمع الشرق الأوسط، مع علاقات سياسية واقتصادية طبيعية مع جيرانها، ومع ذلك فإن معظم الإسرائيليين لا يعتقدون أن العرب مستعدون أو راغبون حقاً في صنع سلام رسمي مع إسرائيل، وأنه حتى لو كانوا راغبين في ذلك، فسيغيرون رأيهم في نهاية المطاف.
وثيقة رقم 2 حول التفكير الإسرائيلي في تسوية سلمية مع العرب
وفي يوليو (تموز) 1972 قالت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير إن الدول العربية رفضت باستمرار صنع السلام مع إسرائيل منذ حرب 1967، وأعلنت أن سياستهم تسعى إلى هدف وحيد، وهو فرض انسحاب كامل على إسرائيل إلى الخطوط التي كانت موجودة قبل عام 1967 كمرحلة من أجل العدوان على إسرائيل على حد قولها.
وإلى أن يتمكن العرب من إثبات استعدادهم لقبول إسرائيل كدولة، يصر الإسرائيليون على ضرورة السيطرة على الأراضي العربية المحتلة التي توفر لهم ميزة دفاعية لم يتمتعوا بها قبل الحرب، وتشير الوثيقة الأميركية إلى رسوخ عنصر المنتصر والمهزوم في الفكر الإسرائيلي، ولهذا لا يرى الإسرائيليون بوضوح أن دورهم هو تقديم التنازلات.
وبينما يقول بعض القادة الإسرائيليين مثل غولدا مائير ووزير الخارجية أبا إيبان أنه إذا جلس العرب إلى طاولة المفاوضات سيفاجأون بمدى مرونة إسرائيل، إلا أن الصراع الحدودي والحرب على مدى 25 عاماً، خلف نواة صلبة من عدم الثقة الإسرائيلية والشك في النيات العربية لدرجة أن القادة الإسرائيليين غير مستعدين للمخاطرة بالميزة الأمنية الحالية التي توفرها الأراضي المحتلة في مقابل ما قد يتحول إلى حرب، وأن حجم الأراضي التي يجب أن تحتفظ بها إسرائيل في أية تسوية نهائية هو القضية الرئيسة في إسرائيل في ما يتعلق بالسلام.
ومع استمرار العرب في رفض التفاوض وتقديم الأدلة اليومية على رغبتهم في تدمير إسرائيل في نهاية المطاف، أصبح الإسرائيليون أكثر صرامة في ما يتعلق بهذه القضية، ولهذا أشار المسؤولون الإسرائيليون مراراً إلى أنهم سيقاومون بقوة الضغوط الدولية من أجل مقترحات السلام التي يعتبرونها تعرض أمنهم للخطر، وكما قالت غولدا مائير: “يمكن للعرب أن يخسروا حروباً عدة ويظلون موجودين، بينما يمكن لإسرائيل أن تخسر حرباً واحدة فقط”.
الأسد مستقبلاً كيسنجر في دمشق
وتوضح الوثيقة أن القادة الإسرائيليين يعتقدون أن المزايا الدفاعية التي توفرها الأراضي المحتلة، إلى جانب التفوق العسكري الإسرائيلي المستمر، ستمكنهم من صد أية محاولات عربية جديدة لإزاحتهم، وهو ما تشير إليه تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي موشى ديان بأنه لو خير بين الذهاب إلى الحرب أو العودة للحدود، فإنه سيختار الحرب حيث تعمل خطوط وقف إطلاق النار الجديدة بعد 1967 على توفير مواقع دفاعية محسنة (مرتفعات الجولان، ونهر الأردن، وقناة السويس)، وحيث يكون وضع الطائرات العربية بعيداً، والحفاظ على المدفعية خارج نطاق المدن الإسرائيلية الرئيسة بينما قام الإسرائيليون بتحسين وتعزيز مواقعهم في المناطق المحتلة من خلال إضافة المستوطنات الإسرائيلية والمواقع العسكرية، وتحسين الطرق السريعة والاتصالات، وإنشاء قواعد عسكرية ومطارات جديدة.
التهديد الديموغرافي والسلام مع العرب
وفي ظل استمرار العداء مع العرب بعد نحو 20 عاماً من إنشاء إسرائيل، وعدم بزوغ أي أفق واضح على تغيير قريب، ظهر تهديد ديموغرافي آخر على إسرائيل بعد حرب 1967 شكله العرب الذين يعيشون داخل خطوط وقف إطلاق النار.
وبحسب وثيقة أميركية صدرت في الـ24 من أغسطس (آب) عام 1973 تحت عنوان “الجوانب الديموغرافية للنزاع العربي الإسرائيلي” ينبع التهديد من سيطرة إسرائيل على نحو 1.5 مليون عربي يعيشون في الأراضي المحتلة بما فيها الجولان وداخل إسرائيل نفسها قبل الحرب.
ويتزايد التهديد بمرور الوقت، إذ ينمو السكان العرب بسرعة أكبر من السكان اليهود بالنظر إلى معدل الولادات المرتفع بين العرب الذي يصل إلى ضعف معدل الولادات بين الإسرائيليين، في حين أن النمو السكاني الإسرائيلي يعتمد بشكل كبير على الهجرة، التي ينخفض معدلها في الأساس.
وأشارت التوقعات السكانية إلى أنه إذا احتفظت إسرائيل بالأراضي العربية لمدة 25 عاماً أخرى، سيكون هناك ما يقرب من 40 عربياً لكل 60 يهودياً، في وقت تواجه إسرائيل بالفعل انجرافاً نحو مجتمع مختلط، لأن عدد اليهود الشرقيين أكبر من عدد اليهود من الغربيين في إسرائيل، فضلاً عن وجود نحو 400 ألف عربي داخل إسرائيل وفقاً لتقديرات عام 1973.
وطرحت الوثيقة الأميركية أحد الأسئلة الأساسية التي تواجه تل أبيب، وهو ما إذا كانت إسرائيل ستكون دولة يهودية صغيرة نسبياً في المقام الأول كما يريد بعضهم، أو كما يريد آخرون دولة أكبر حجماً، ولكنها مختلطة يهودية عربية، وفي غياب تسوية سلمية مع العرب، سيكون هناك نوع من الحتمية الإقليمية التي تتصاعد في تل أبيب، وهي أن السيطرة اليهودية داخل خطوط وقف إطلاق النار ستعتمد أكثر فأكثر على حرمان العرب من حقوقهم السياسية أو حثهم على المغادرة.
وفيما اعتقد معظم الإسرائيليين أن الوقت في صالحهم أصبح مزيد منهم يدركون القنبلة الديموغرافية الموقوتة التي تدق داخل خطوط وقف إطلاق النار، يمكن أن تحفز في مرحلة ما الإسرائيليين الذين يريدون الحفاظ على إسرائيل كمعقل يهودي للمضي قدماً من أجل الحث على تقديم تنازلات لتحقيق السلام مع العرب.
إسرائيل وأميركا لم تتوقعا الحرب
ومع تحديد التصورات الأميركية بأن إسرائيل غير متشجعة لإبرام سلام مع العرب في الوضع الراهن على رغم الأخطار الديموغرافية، كان هناك اعتقاد يزداد رسوخاً بعدم قدرة العرب على المغامرة بالدخول في حرب جديدة.
وفي وثيقة صادرة عن الاستخبارات المركزية الأميركية في الـ17 من مايو (أيار) 1973 تحت عنوان الأعمال القتالية العربية المحتملة ضد إسرائيل المحددات والآثار، استبعد محللو الاستخبارات وقوع أعمال قتالية عربية إسرائيلية كبيرة من دون مشاركة القوات المصرية، وأنه إذا قرر المصريون بذل قصارى جهدهم على رغم العواقب، فمن الممكن أن يكون هناك تبادل عسكري كبير للنيران، وبما أن القدرات المصرية محدودة التأثير بحسب وصفهم، فإن مشاركة قوات عربية أخرى مثل القوات السورية على جبهة ثانية لن تكون ذات أهمية كبيرة من الناحية العسكرية وفقاً التقديرات الأميركية.
وعلى رغم أن مصر لا تستطيع بحسب التقدير الأميركي الاستيلاء على أي جزء من شبه جزيرة سيناء والاحتفاظ به في مواجهة القوات الإسرائيلية، فمن المحتمل أن يكون بوسعها شن غارات كوماندوز صغيرة ومختصرة على سيناء، وإطلاق النار بكثافة عبر القناة بالمدفعية، ويمكنها أيضاً أن تحاول شن ضربات جوية ضد أهداف إسرائيلية.
غير أن الوثيقة استنتجت أن إدامة وضع الجمود الحالي في الشرق الأوسط أمر لا يطاق بالنسبة إلى مصر وللرئيس أنور السادات، ولهذا فهو يمضي قدماً في حملة التهديدات بالحرب التي يطلقها على أمل تحفيز الضغوط الأميركية على إسرائيل، مما قد يخرج الأمر عن نطاق السيطرة بمرور الوقت، ومع ذلك يبدو اندلاع قتال واسع بين القوات المصرية الإسرائيلية غير محتمل في الأسابيع التالية.
ورجحت الوثيقة أن يتزايد الخطر إذا مرت المناقشات في شأن الشرق الأوسط في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة والقمة الأميركية – السوفياتية بين ريتشارد نيكسون وليونيد بريجينيف في يونيو (حزيران)، من دون التوصل إلى أية نتائج يعتبرها السادات مفيدة.
واعتبرت أنه من بين العوامل التي تميل إلى التعجيل بتفجر القتال استمرار الجمود الدبلوماسي مع الاقتناع المصري بأن الأعمال القتالية من شأنها أن تحفز مشاركة الأميركيين والسوفيات بشكل أكثر نشاطاً في عملية التسوية، بينما تركز الحسابات المصرية على أن الأعمال القتالية ضد إسرائيل ستؤدي إلى إجراءات مناهضة للولايات المتحدة من السعوديين ومنتجي النفط الآخرين، مما يؤدي إلى خلق ضغوط أميركية على إسرائيل.
الرئيس السوري حافظ الأسد في مكتبه بدمشق عام 1972
في المقابل فإن العوامل التي قد تؤدي إلى تثبيط الأعمال القتالية تتمثل في الحركة الدبلوماسية التي يمكن أن يستشهد بها السادات بشكل مقنع كدليل على التقدم نحو استعادة الأراضي، وظهور تحرك أميركي ينأى بالولايات المتحدة دبلوماسياً عن إسرائيل، وصدور تحذيرات واضحة ومستمرة من الاتحاد السوفياتي للدول العربية من أخطار اندلاع القتال.
وخلصت الوثيقة إلى مجموعة من التحذيرات التي تشير إلى أن اندلاع القتال بين الدول العربية وإسرائيل خلال عام 1973 لن ينطوي على حرب برية واسعة النطاق على الجبهة المصرية كما حدث في عام 1967، أو حرب استنزاف طويلة ومستمرة كما حدث في الفترة 1969-1970، وإنما ستأتي بتداعيات من بينها أن الانتقام الإسرائيلي يمكن أن يكون له عواقب وخيمة على مصر وسوريا، وأن المصالح الأميركية في العالم العربي ستكون عرضة للهجوم، وستنأى أغلب الدول الصناعية الكبرى بنفسها علناً عن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وسيحافظ الاتحاد السوفياتي على علاقاته مع مصر وسوريا، وربما يعرض كميات محسوبة بعناية من المعدات العسكرية البديلة في مقابل تجديد إمكان الوصول إلى المنشآت العسكرية ولعب دور أكبر في السياسة المصرية، كما سيختفي الاحتمال الضئيل للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض للصراع العربي – الإسرائيلي ربما لسنوات مقبلة.
استبعاد هجوم سوري
ومع اقتراب موعد حرب أكتوبر عام 1973، وتزايد الحشود العسكرية السورية والمصرية شرق الجولان وغرب قناة السويس، ظلت التقديرات الأميركية في حال إنكار لإمكان اندلاع حرب واسعة النطاق مع إسرائيل، إذ أشارت سلسلة مذكرات وتقارير للاستخبارات الأميركية قبل الحرب ومن بينها وثيقة يوم الـ30 من سبتمبر (أيلول) 1973 تحت عنوان “تقييم وكالة الاستخبارات المركزية للاستعدادات العسكرية السورية” إلى تفاصيل خطة سورية لهجوم واسع النطاق على إسرائيل يشمل ما لا يقل عن أربع فرق سورية معززة بمدفعية ودبابات سوفياتية من طراز تي 62، ولكن لا توجد أدلة قاطعة ومن وجهة نظر الولايات المتحدة على إمكان الحرب، ذلك أن المناخ السياسي في الدول العربية يمنع القيام بتحرك عسكري سوري كبير ضد إسرائيل في هذا الوقت، ومع ذلك لا يمكن استبعاد إمكان توجيه ضربة سورية محدودة، ربما تكون مصممة للانتقام من خسارة 13 طائرة سورية في معركة جوية مع القوات الإسرائيلية في أوائل سبتمبر.
كيسنجر أكد لقادة إسرائيل دعمه لتل أبيب خلال مفاوضاتها مع دمشق
واعتبرت هذه الوثائق أن الهجوم السوري الأحادي الجانب بهدف استعادة السيطرة على مرتفعات الجولان ليس له أي أمل في النجاح، لأن تدمير القوات المخصصة للعملية من شأنه أن يشل الجيش السوري، وستكون له عواقب وخيمة على الرئيس الأسد الحذر والبراغماتي.
اندلاع الحرب وانزعاج الأميركيين
ومع انطلاق الشرارة الأولى للعمليات القتالية في سيناء والجولان في هجوم مصري – سوري متزامن، ظل كبار المسؤولين الأميركيين على تقديراتهم السابقة التي تتوقع فشلاً ذريعاً للهجوم وعواقب خطرة على القاهرة ودمشق، ففي وثيقة نقلت تفاصيل اجتماع رفيع المستوى لكبار المسؤولين الأميركيين يوم السادس من أكتوبر في الساعة 9 صباحاً بتوقيت واشنطن، أي بعد ساعة واحدة من بدء الهجوم المصري – السوري المشترك، كان الاهتمام منصباً على من بدأ الهجوم، وما الموقف الذي يجب أن تتبعه الولايات المتحددة وفقاً لذلك.
غولدا مائير في عشاء مع الصحافة الإسرائيلية – 10 نوفمبر 1971
وضم الاجتماع الذي يسمى اجتماع “مجموعة العمل الخاصة في واشنطن” وزير الدفاع جيمس شيلزينغر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية توماس مورر، ومدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليم كولبي، فضلاً عن نائب هنري كيسنجر رئيس مجلس الأمن القومي برنت سكوكروفت، والعضو البارز في مجلس الأمن القومي وليام كوانت، ونائب وزير الخارجية الأميركي كينيث راش.
وعلى رغم الاتفاق على تولي وزارة الدفاع الأميركية بتحديد القوات البحرية الأميركية المتوفرة في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي وقدراتها ومكان وجودها، والمدة التي سيستغرق نقلها إلى المنطقة، وأن تقوم وكالة الاستخبارات المركزية بإعداد تقدير لكيفية سير القتال وإمكان وتأثير الحظر النفطي، إلا أن الاجتماع قرر أنه لا يجوز نقل أي معدات عسكرية أميركية إلى إسرائيل في الوقت الراهن.
خلال الاجتماع حاول المسؤولون الأميركيون التأكد من أن إسرائيل لم تبدأ ضربة استباقية وفق ما تعهدت غولدا مائير للسفير الأميركي في تل أبيب، خصوصاً أن الأدميرال مورر عبر عن مخاوفه من أن السوفيات قدموا للسوريين عدداً كبيراً من صواريخ أرض جو وصواريخ هجومية أخرى حتى تراكمت الصواريخ في سوريا وبدت أكثر كثافة من الصواريخ حول هانوي في فيتنام، ولهذا ربما شعرت إسرائيل أن الأمور خرجت عن السيطرة واتبعت رد فعلها الطبيعي، وقررت محاولة القضاء عليها قبل أن تصبح الصواريخ جاهزة للعمل.
ووفقاً لمحضر الاجتماع في الوثيقة بدت الأمور ضبابية للأميركيين بسبب الإشارات المتباينة من الجانب العربي، إذ اعتبر وزير الدفاع شليزنغر أن الضغوط التي كانت تمارس على الولايات المتحدة من السعوديين ربما قادت إسرائيل إلى الاقتناع بأن هذا التوجه لن يكون جيداً للمصالح الإسرائيلية.
وربما دفع هذا إسرائيل لشن هجوم، لأنه لا يرى أي دافع من الجانب المصري – السوري لبدء الحرب، وهو ما أكد عليه مدير الاستخبارات المركزية كولبي بأن مصر كانت متساهلة للغاية في الأشهر الأخيرة، وأن السادات كان يحاول الانسحاب من سياسة حافة الهاوية، ورد الأدميرال مورر بأن هناك تقريراً صدر قبل أسبوعين يفيد بأن السادات كان يفقد السيطرة على جيشه، ليحاول الجنرال سكوكروفت نفي هذا بأن حشد القوات المصرية والسورية كان أمراً لا لبس فيه.
الملك فيصل مستقبلا وزير خارجية نيكسون هنري كيسنجر
ومع هذا الغموض أوضح الأدميرال مورر أنه لا ينبغي اتخاذ أية خطوة أميركية الآن، لكن الأسطول السادس سيكون في حال تأهب ويمكن أن يتحرك بسرعة، ومع ذلك حين سأل شليزنغر حول احتمال الحظر النفطي، جاءته الإجابة بأنه مرتفع جداً وأن أوروبا واليابان ستكونان الأكثر تضرراً، ولهذا قال شليزنغر إن مصر وسوريا بدأتا الحرب بشكل متعمد ومحسوب، وإن السبب الوحيد هو اعتقادهما أنهما قادرتان مع الدول العربية الأخرى على فرض الحظر، وأن ذلك هو السبب العقلاني الوحيد للمضي على هذا النحو، خصوصاً مع تنامي العلاقات بين الملك فيصل والرئيس السادات.
الملك فيصل يرفض نداء كيسنجر
وفي يوم اندلاع الحرب نفسه سارع وزير الخارجية الأميركي مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر إلى توجيه نداء إلى الملك فيصل عاهل السعودية، طلب فيه (وفقاً للوثيقة المرفقة رقم 6) استخدام مساعيه الحميدة للتدخل لدى رئيس جمهورية مصر العربية أنور السادات ورئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد، لوقف القتال الحالي بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، ورد الملك فيصل ببرقيه قال فيها إنه تلقى الرسالة التي تشير إلى أن القوات المصرية والسورية كانت تخطط لشن هجوم منسق على القوات الإسرائيلية، وأن كيسنجر أصبح متأكداً عندما حدثت اشتباكات برية وجوية بين القوات المصرية والسورية من جهة والقوات الإسرائيلية من جهة أخرى أن (المصريين والسوريين) هم من بدأ الهجوم على إسرائيل.
لكن الملك فيصل أوضح أن هذا الهجوم هو حلقة في سلسلة السياسة الإسرائيلية الرامية إلى تنفيذ المخطط التوسعي كجزء من سياستها العدوانية ضد الدول العربية، وأن العرب لم يرتكبوا أي عدوان ضد إسرائيل التي كانت دائماً منذ تأسيسها هي التي تبدأ العدوان، وفي كل مرة كانت تفوز بمساحة معينة من الأرض وفقاً لخططها المفتوحة.
وأشار الملك فيصل أنه إذا لم تتحرك الولايات المتحدة لردع إسرائيل، فإن البركان الذي كان هادئاً حتى الآن في الشرق الأوسط سينشط مرة أخرى وسيتجاوز منطقة الشرق الأوسط ليشمل العالم، ولذلك تتحمل إسرائيل المسؤولية الكبرى عن هذا الصراع الحالي في المنطقة، وينبغي على الولايات المتحدة أن تجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه في أراضيه ووطنه.