حرية – (30/5/2024)
في اللغة العربية يقال “لولا فسحة الأمل”، وقائل هذه الجملة والمستمعون إليه يعرفون أنه يقصد أن الحياة ضيقة وشاقة لولا وجود ما يسمى الأمل الذي يبدو كما لو أنه الدافع الضروري لمليارات البشر للاستمرار في النضال اليومي لتأمين مقومات الحياة.
و”الحياة من دون أمل” أو “لولا فسحة الأمل” من العبارات التي ترددت على مر القرون لتشرح أن الحياة محفوفة بالأخطار، وأنها يمكن أن تكون مقلقة عقلياً وصعبة جسدياً، فيأتي دور الأمل لمقاومة اليأس، وهكذا جرى الأمر عبر التاريخ.
لكن علماء وأطباء الذين يسهمون في بحث مجلة “علم النفس” يرون أن مجرد الأمل قد لا يعود ممكناً لأن “نمط التعقيدات في طريقة الحياة التكنولوجية والصناعية، وتعزيز العنف الاجتماعي، وتفكك العلاقات بين الدول، تهدد بقاء هذه الحساسية التي نصفها بالأمل”.
بالتأكيد فإن الأمل هو حال ذهنية مجردة وليس كياناً مادياً، إذ من الممكن أن تشير إلى طائر صاعد يحلق وتعلن “هناك أمل”، فأرد عليك “ومنذ متى كان الطائر المحلق أكثر من مجرد طائر في حال الطيران؟”. واستناداً إلى الأمل ستجيبني “لأن حريته في الصعود إلى السماء والهروب من الأرض ومقاومته الجاذبية تخدم رمزياً التعبير عن أفكار الأمل”.
وفي تعريف التحليل الكلاسيكي للأمل أنه موقف مركب يتكون من رغبة في نتيجة ما وإيمان بإمكان حدوثها. فالأمل ليس تسليماً للقدر، بل هو الطلب من القدر تحقيق أمنية ما ثم العمل الدؤوب من أجل توفير الظروف المساعدة للقدر بغية إنجاح موضوع الأمل. ومن ينتظر ما يحمله القدر يكون من أصحاب الأماني أو الرجاء أو الخوف من الآتي.
للكسل أو للتقدم
يدخل التفاؤل والتمني والرجاء في إطار الأمل، ويتميز عنه بأنه يجعل من أمر نتوقع حدوثه ولا نعرف عنه شيئاً إذ يقع في المستقبل، أي في الزمن الذي لم يقع بعد، ممكناً وينبغي انتظاره. فأن نتمنى أن نجد حلاً لمشكلات البلاد السياسية والاقتصادية جميعها لا يعني أننا ننتظر حدوث الأمر ولكننا نتمناه، لكن في الأمل نحن نتمناه وننتظر وقوعه. أي أن الأمل بحسب علم الدماغ الحديث هو تمكن الدماغ من تأدية دور غير عقلاني كقبول تصور حدث سيقع في المستقبل، على رغم أن الدلائل الواقعية والمادية التي يستند إليها الدماغ لا تشير إلى ذلك، ومع ذلك فإن الدماغ البشري يسلك الطريق المخالف للمنطق.
ليس تسليماً للقدر، بل هو الطلب منه أن يحقق أمنية، ثم العمل لأجل إدراكها
الفلسفات اليونانية القديمة اشتملت على مناهج تفسر طبيعة الأمل ودوره في تأمين حياة كريمة. لكن الفلاسفة اليونانيين تعاملوا معه بتناقض كبير، إذ وجد بعضهم أن الأمل هو موقف من لا يملكون معرفة كافية أو يتأثرون بسهولة بالتفكير الحالم، كما جاء في حوارات ثوقيديدس الذي يطور وجهة نظر تفصيلية عن مزايا الأمل وأخطاره المحتملة، بينما وجد أرسطو أن الأمل هو ضرورة من أجل أية ممارسة للشخصية الفاضلة. أما الفيلسوف سينيكا، فرأى أن الأمل والخوف هما وجهان لعملة واحدة، إنهما مرتبطان ببعضهما بعضاً وغير متصلين. ويقول سينيكا إن “الخوف يساير الأمل، ويتحركان معاً لأنهما ينتميان إلى ذهن مترقب وفي حال من القلق إزاء مفاجآت المستقبل”. وكان سينيكا يدعو إلى تجنب الخوف والأمل للتركيز بدلاً منهما على الحاضر.
وكان الأمل عند الفلاسفة المسيحيين، مثل أوغسطينوس وتوما الأكويني، ذا أهمية باعتباره أحد الفضائل الجوهرية للمؤمن. فالأمل جزء من الإيمان العقلاني بفضل قدرته على تبرير الفعل بطريقة غير مرتبطة بالمعرفة.
وهناك عدد لا يحصى من القصص يظهر فيها الأمل حتى في أحلك الظروف، ففي العصور القديمة شعر الناس بأن روح الأمل لديها القدرة على عكس الحظ السيئ ودرء الأرواح الشريرة وشفاء الآلام. في خدمة الأمل تم استخدام السحر والشموع والتعويذات والتمائم والتعاويذ والطقوس في كل ثقافة وبلد. إنها بمثابة رموز “باطنية آمنة للآمال والرغبات الشديدة وللتخفيف من الألم العاطفي أو الجسدي”.
جاء في وصف مجلة “علم النفس” للأمل علمياً ودماغياً، أن ما نسميه الأمل ليس سوى مثال واحد على هذه القوى العقلية التي تظهر كعملية تفكير شعورية مستقلة تقرر بصورة مستقلة وغير منطقية تناقض كل ما تخبرنا به حواسنا الخمس عن واقع الوجود. فالأمل يرينا الوجود كما نريده أن يكون لا كما هو، ويقوم على عدم اليقين والجهل بما يخبئه لنا المستقبل. لذا نحن نأمل وفي الوقت نفسه نخشى الفشل. فالأمل غالباً ما يكون مصحوباً بالخوف. وهكذا يمكننا أن نتكلم عن مزيج من الأمل والخوف في ما يتعلق بالجهل بالمستقبل.
حيث لا يوجد أمل
لكن المدافعين عن الأمل كحاجة بشرية غريزية يرون أنه بمثابة إيجاد جدوى وهدف. كتب سرفانتس في روايته الشهيرة “دون كيشوت”، أنه “حيث يوجد الأمل هناك حياة. لا حياة حيث لا يوجد أمل”. أما إيمانويل كانط، فأخذ الأمر على سبيل الدعابة والسخرية من العقل الذي يقع في فخ الأمل، فيكتب “عقلنا غير قادر على استقراء وقوع الأحداث السعيدة مستقبلاً، ولكنه يملك القدرة على منحنا الشعور بإمكان وقوعها”.
أستاذة علم النفس باربرا فريدريكسون تقول إن الأمل يأتي من تلقاء نفسه عند الأزمة، مما يفتح لنا إمكانات إبداعية جديدة، فالحاجة الشديدة تستجلب مجموعة واسعة من الأفكار، إضافة إلى المشاعر الإيجابية مثل السعادة والفرح والشجاعة والتمكين. الأشخاص المتفائلون “مثل المحرك الصغير” يستمرون في الترديد لأنفسهم، “أعتقد بأنني أستطيع”، ففي هذه الحالات يؤتي الأمل ثماره. والفرق بين الأمل والتفاؤل هو أن الأول يمكن أن يبدو وكأنه تفكير بالتمني، ولكن الأخير يوفر الطاقة لإيجاد مسارات عملية لمستقبل أفضل.
هناك عدد لا يحصى من القصص يظهر فيها الأمل حتى في أحلك الظروف
ومن بين النماذج التي لا تعد ولا تحصى التي تدرس أهمية الأمل في حياة الفرد تجادل إحدى هذه النظريات التي طورها تشارلز سنايدر، بأنه يجب النظر إلى الأمل على أنه مهارة معرفية توضح قدرة الفرد على الحفاظ على الدافع في السعي إلى تحقيق هدف معين، أي تفعيل الأمل الخاص، إذ أثبتت الأبحاث العيادية أن المرضى الذين يحافظون على مستويات عالية من الأمل لديهم تشخيص أفضل للأمراض التي تهدد الحياة وتحسين نوعية الحياة. وغالباً ما يكون الإيمان والتوقع عنصرين أساسيين للأمل يمنعان الألم لدى المرضى الذين يعانون أمراضاً مزمنة عن طريق إطلاق الإندورفين ومحاكاة آثار المورفين. ومن خلال هذه العملية بدأ الاعتقاد والتوقع بأن الأمل يطلق سلسلة من ردود الفعل في الجسم يمكن أن تجعل الشفاء من الأمراض المزمنة أكثر احتمالاً.
لهذا أُدرج الأمل في برامج العلاج بسبب إمكاناته الإيجابية للصحة البدنية والعقلية، وتمت دراسة الأمل كآلية لتحسين العلاج في سياقات اضطراب ما بعد الصدمة والأمراض الجسدية المزمنة والأمراض العضال من بين اضطرابات وأمراض أخرى. وتشير الأبحاث إلى أن الأمل يمكن أن يشجع على إطلاق الإندورفين والإنكيفالين، مما يساعد على منع الألم.