حرية – (1/6/2024)
نظر الأقدمون بكثير من الإعجاب إلى الجسور بوصفها تعبيراً عن القوة والعظمة، وأداة لربط المدن والبلدان والقارات. فقد شكلت مناسبة للتوسع السياسي والاقتصادي، وتحديداً في شرق المتوسط إبان الإمبراطورية الرومانية، وكذلك لنشر المفاهيم الثقافية، وما كان للفلسفة اليونانية ولأفكار المدارس الاعتقادية أن تنتشر بسرعة من دونها.
وما زالت الجسور شاهدة حتى اليوم على تميز وإبداع الشعوب القديمة. وعبر التاريخ، شهدت الجسور تحولات عديدة، سواء كان على مستوى الوظيفة، وتراجع دورها بفعل انتشار الطيران، أو على مستوى التجديد في الأساليب الهندسية للبناء، واستخدام مواد مختلفة.
فهذه التشييدات المعمارية وباختلاف حجمها أو أهميتها، كانت في السابق جوهرية ومحورية في ربط قارات العالم والدول ببعضها وحتى مدن البلد نفسه ومناطقه، وهنا نتحدث عن عصر ما قبل الطيران والتنقل السريع. وباعتبار أنها ربطت العالم جغرافياً قبل مئات السنين شكلت حينها بطبيعة الحال حلقة وصل ثقافية واقتصادية وحتى سياسية وعسكرية.
فماذا يكشف التاريخ عن أهم هذه الجسور؟ كيف تحول دورها مع مرور الزمن؟ وهل لا زالت تحافظ على دورها المحوري أم أنها تحولت إلى معالم تاريخية وتراثية أو حتى سياحية؟
وسيلة للتنقل وربط ثقافي واقتصادي وسياسي
يشير المدير السابق لكلية الفنون الجميلة والعمارة في “الجامعة اللبنانية” ناصر حسين إلى تطور الجسور على مستوى الوظيفة وفنون الهندسة ودورها، مما يشكل رابطاً سياسياً واقتصادياً وثقافياً داخل الدولة نفسها، وبين الدول المختلفة والقارات والحضارات، ووسيلة لتأمين الانتقال وتيسير الخدمات العامة للمواطنين من الصحة والتعليم، ففي السابق طغى الطين والحجارة على بناء الجسور، واتخذت طابع الأقواس والقباب، قبل الانتقال إلى استعمال الباطون الذي أتاح توسيع نطاق الجسور، واستمر المهندسون في البحث عن أساليب تسمح ببناء جسور أكثر تطوراً وطولاً، وظهرت الجسور العائمة التي تنزل أساساتها إلى الأعماق، قبل اللجوء إلى الحديد الذي شكل ثورة في عالم الهندسة والبناء، وترافق ذلك مع انتقال عملية التصنيع إلى مكان إقامة الجسور لحل المشكلات اللوجيستية، كما طورت الدراسات البنية المقاومة للجسور للأعمال الحربية، ورفع قدرة تحمل الأثقال الضخمة والأعباء العابرة، فضلاً عن بروز جسور المشاة في المدن.
وتحدث حسين عن أنواع عدة من الجسور التي نجمت عن التطور الحضاري، من الجسور الحجرية إلى الباطونية، وجسور الحديد المشدود، وجسور الحديد الكامل المحمول على أسلاك أو على قواعد، وشدد على الدور الذي لعبته الجسور عبر التاريخ بوصفها أداة للتواصل بين الشعوب، والتأثير السياسي والاقتصادي، متخوفاً من “تآكل الجسور التاريخية في الدول الفقيرة كما هي الحال في لبنان الذي يخسر الشواهد على عراقة التاريخ، فيما تبقى جسور سكة الحديد على رغم توقف القطار عن المسير بفعل عدم استخدامها”.
تعود الجذور الأولى للجسور بوصفها بنية تحتية، ووسيلة لربط المدن والأجزاء المختلفة للبلاد إلى عهد الإمبراطورية الرومانية
الجسور الرومانية العظيمة
تاريخياً، ارتبط ظهور الجسور بوجود البشر على وجه الأرض، وتعود الأشكال الأولى لبناء الجسور إلى محاولات الإنسان الأول بوضع بعض الأجسام وجذوع الأشجار لتجاوز بعض السواقي والممرات المائية. ولكن في الحقيقة تعود الجذور الأولى للجسور بوصفها بنية تحتية، ووسيلة لربط المدن والأجزاء المختلفة للبلاد إلى عهد الإمبراطورية الرومانية، واتخذت هذه الجسور للمرة الأولى شكل الأقواس شبه الدائرية المرتفعة، وكانت مبنية من الحجارة، ومنحت الأقواس قوة إضافية للجسور ومكنتها من حمل أضعاف أوزانها، وترافقت مع إنشاء أقنية لضخ المياه، وتمكن الرومان من إقامة “جسور منخفضة الكلفة”، إذ كانت الإمبراطورية تشيد جسوراً من المواد الأولية المتوافرة في المدن المختلفة، مع استيراد المادة الطينية من إيطاليا.
وتشير مراجع تاريخية إلى إقامة أوائل الجسور القرميدية نحو العام الـ100 بعد الميلاد، في إسبانيا فوق نهر تاغوس، واتخذ شكل الأقواس الموصولة بعضها بعضاً. وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية استمر النمط الهندسي الخاص بها هو السائد على نطاق واسع في أوروبا، وأجزاء واسعة من آسيا لغاية القرن الـ18 قبل ظهور “عصر الجسور المعدنية” التي لم تمتلك قوة الشد الكافية لتحمل البنى الثقيلة، واستمر التطور إذ دمج الأسمنت مع الحديد والمعادن والكابلات من أجل بناء جسور على مساحات كبيرة، وأصبحت تعبر المسطحات المائية والبحيرات والجبال والبراري والسهول، وصولاً إلى عصر “شبكات الجسور المعقدة” في الصين.
جسور بنكهة عربية
استفاد العرب من تجارب الرومان والفرس الساسانيين في بناء الجسور القوسية حسب المستشرق الإنجليزي دونالد هيل في بحثه عن “العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية”، ومن هذه الجسور جسر قرطبة على نهر “الوادي الكبير” في إسبانيا والتي كانت حينها من دول الأندلس، وجسر أرجان في إقليم فارس، في إيران اليوم، الذي كان يتألف من قوس أو عقد واحد، وكان من بناء الحجاج بن يوسف الثقفي، وجسر هراة في أفغانستان الذي بني في 990 للميلاد، والجسر الذي بناه أحمد بن طولون على النيل سنة 884 بالقرب من الفسطاط. وهدفت تلك الجسور إلى تأمين الترابط بين أجزاء الإمبراطورية الإسلامية، وإنشاء خدمة نظم الري.
استمر اهتمام العرب والمسلمون ببناء الجسور في ظل الدولة العثمانية، ويعد جسر نهر الكلب في لبنان واحداً منها وقد شيد في أواخر القرن التاسع عشر.
وفي ظل الحقبة الحداثية، اهتمت مصر ببناء الجسور فوق نهر النيل، وهي جسور خلدت بعض التواريخ المفصلية مثل جسر ستة أكتوبر، فيما عبرت الجسور في العراق فوق نهري دجلة والفرات، وأشهر جسور بغداد جسر السنك والجمهورية. فيما يربط اليوم السعودية بالبحرين جسر يحمل اسم الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بطول 25 كيلومتراً، وعرض 23 متراً، والذي يعد علامة فارقة في الجسور العربية اليوم وتم افتتاحه عام 1986.
الجسور المعلقة منشآت مبهرة
وإلى الصين يعود الفضل في بناء أول الجسور المعلقة بالحبال عام 65 للميلاد من خلال إقامة جسر لان جن، كما بني في كولبروكديل في إنجلترا أول جسر حديدي بالكامل فوق نهر سيفرن عام 1779 على يد أبراهام داربي. وفي فرنسا أقيم أطول جسر ميو على ارتفاع 343 متراً، ويفوق بارتفاعه برج “إيفل”.
وقد تنافست الدول في إبراز عبقريتها الهندسية، وفي إقامة الجسور المعلقة التي أدهشت وأسرت الناظرين. إذ اشتهرت الولايات المتحدة ببناء جسور الأقواس الفولاذية، ويعد نيو ريفير غورج أعظمها بطول 518 متراً، وفي أستراليا تحول جسر سيدني هاربور إلى أبرز المعالم السياحية بطول 503 أمتار، أما في ما يتصل بجسور الأسلاك الفولاذية فتمكنت اليابان من إقامة أضخم الجسور في تاتارا أوهاشي بطول 890 متراً.
أما على مستوى الجسور المعلقة، فيعد جسر أكاشي كايكو في اليابان أبرزها، واكتمل بناؤه في عام 1998، فيما كسرت تركيا هذا الامتياز في عام 2022 بعد إنشاء أطول جسر في العالم بطول 3860 متراً، ويضم ثلاثة مسارات ذهاباً وثلاثة أخرى إياباً، وهو يربط ضفتي بحر مرمرة بين الشطرين الآسيوي والأوروبي.
وأدى انهيار جسر تاكوما في واشنطن بعد أشهر قليلة من إقامته إلى تطوير نمط التصميم الديناميكي الهوائي، وأسهم هذا الأمر في تصميم جسر مضيق البوسفور في تركيا عام 1973، وجسر هامبر في إنجلترا عام 1983.
تم استهداف جسر القرم الذي أقامته روسيا لربط أراضيها بمنطقة القرم لتعزيز سيادتها على الأراضي التي ضمتها من أوكرانيا
بين الثقافة والسياسة والسياحة
وتمنح تلك الجسور قدرة كبيرة للدول التي أنشأتها، فهي ليست مجرد منشآت هندسية، وإنما تعتبر أداة فعالة للتدخل السياسي والتعاون الاقتصادي بين الدول المتجاورة. كما تحولت تلك الجسور العظيمة إلى وجهة جذابة للسياح، التي يقصدها ملايين الناس سنوياً للمرور عبرها والتوقف عند تفاصيلها التاريخية والمعمارية.
كما شكلت عبر التاريخ وسيلة لانتقال الأفكار والثقافة والفلسفة، واستخدمها الأقدمون من أجل نشر تعاليمهم، والحفاظ على ترابط المكونات التعددية في الإمبراطوريات الكبرى، فضلاً عن دورها الاقتصادي في نقل البضائع والأشخاص، وتحفيز التجارة البينية والتبادل بين الشعوب. في المقابل، تحولت الجسور إلى أداة لتأمين مداخيل إضافية للحكومات، بوضع بدل مالي في بعض الأحيان مقابل عبورها، فعلى سبيل المثال قامت الحكومة التركية برفع بدل عبور الجسور الرابطة لأطراف اسطنبول، ووضعت بدل عبور يبدأ بـ 24 ليرة، ليصل إلى قرابة 500 ليرة تركية، أي ما بين 80 سنتاً و15 دولار أميركي.
الجسور الأهداف
كما تعتبر الجسور هدفاً دائماً للمتحاربين، فإبان حرب يوليو (تموز) 2006، تعرضت الجسور في لبنان مثلا للقصف المننهج والمقصود عبر غارات إسرائيلية على طول الجغرافيا اللبنانية، من جسر عرقة في عكار وجسر صغير على نهر البارد، إلى الجسور الكبرى التي تشكل ممراً إلزامياً للمواطنين في غزير جبل لبنان، وأعلى الجسور في المديرج الذي يربط البقاع بالعاصمة بيروت، ويربط لبنان بسوريا، ومختلف الجسور في الجنوب وصولاً إلى منطقة الأولي. وهذه الاستهدافات أدت إلى قطع أوصال لبنان فبات من الصعب التنقل بين بعض مناطقه.
يتكرر هذا الاستهداف في كل حرب ومعركة، وربما أبلغ دليل على المستوى الدولي استهداف “جسر القرم” الذي أقامته روسيا لربط أراضيها بمنطقة القرم لتعزيز سيادتها على الأراضي التي ضمتها من أوكرانيا. ويؤكد دكتور ناصر حسين “تستهدف الجسور في الحروب لأنها تمتلك رمزية للدول، وتسهل العبور بين أنحاء البلاد وربطها دون الحاجة لاستخدام الطيران”، ناهيك عن “دورها في بناء الهوية المشتركة من خلال نقل النمط الاقتصادي والمعيشي والثقافي، ومناهج التعليم، والخدمات الصحية”.
كان الآلاف يتنقلون على جسر الأئمة القائم بين منطقتي الأعظمية والكاظمية في بغداد سرت شائعات بوقوع تفجير انتحاري مما أدى إلى تدافع شديد سقط بنتيجته مئات القتلى
حوادث مميتة
كما تشكل الحوادث المميتة فوق الجسور إحدى سمات المرحلة المعاصرة. وتحظى الهند بعدد كبير من الحوادث. ففي عام 2022، سقط 75 قتيلاً في انهيار جسر معلق في ولاية غوجارات الهندية خلال أداء طقوس دينية، وسقط 26 قتيلاً في عام 2016، بعد انهيار جسر في مدينة كالكوتا شرق الهند، كما توفي 32 شخصاً في انهيار جسر في شمال شرق الهند في عام 2011، على بعد 30 كيلومتراً من بلدة دارجيلينغ الجبلية.
في ايطاليا، أدى انهيار جسر موراندي إلى مقتل 43 شخصاً في عام 2018، ويعتبر جزءاً من طريق سريع رابط فرنسا وايطاليا. وفي العودة إلى الوراء أدى انهيار جسر في مقاطعة هونان الصينية إلى مقتل 64 شخصاً في عام 2007. أما في النيبال قتل 16 شخص، وفقد 25 آخرين في انهيار جسر مزدحم بالحجاج في كانون الأول من العام نفسه.
أما عربياً وتحديداً في العراق، فوقع واحد من أكثر الحوادث دموية، وأدى إلى سقوط ما يتجاوز الألف ضحية. عام 2005 وحين كان الآلاف يتنقلون على جسر الأئمة القائم بين منطقتي الأعظمية والكاظمية في بغداد سرت شائعات بوقوع تفجير انتحاري مما أدى إلى تدافع شديد سقط بنتيجته مئات القتلى.