حرية – (1/6/2024)
يقول “عم سعد”، سائق الأجرة الستيني، إن الطرق والاتجاهات لا تحتاج معرفة ودراسة وتطبيقاً يخبرك بأن تنعطف صوب اليمين أو تعود أدراجك في اتجاه الشمال. يتباهى بأنه إن قاد السيارة إلى مكان مرة فإن الطريق وخطوات الوصول تكون قد حُفرت في ذهنه. ليس هذا فقط، بل يكون قادراً على ابتداع طرق مختصرة لا يعلمها سكان المنطقة أنفسهم.
أما نرمين (40 سنة) والحاصلة على رخصة القيادة منذ أتمت عامها الـ18، وتقود سيارتها من وإلى العمل، وتوصل الأبناء إلى المدرسة، وتسافر بها شرقاً وغرباً، فتقول إنها تعاني كثيراً من مسألة الاتجاهات. “إذا تم إغلاق شارع بجوار البيت الذي أسكنه منذ 15 عاماً، وتحتم عليّ أن أسلك طريقاً آخر، أجد نفسي في حي آخر تماماً. من دون “سيري” (تطبيق الذكاء الاصطناعي، الذي يرد على السائل بصوت يمكن أن يكون نسائياً أُطلق عليه اسم سيري)، سأضيع نصف عمري تائهة على الطريق”. وتضيف ضاحكةً، “ولدت من دون حس الاتجاه وأدين لـ”سيري” بالكثير”.
غباء جغرافي
الأشرار يسمونه “الغباء الجغرافي”. والطيبون يعتبرونها طبيعة لم تُكتَسَب. أما العلم فيؤكد، أن جزءاً من حس الاتجاه فطري يولد به كل البشر، أو بالأحرى كل الثدييات والكائنات الحية باستثناء النباتات، لكن ما يصنع الفرق بين “عم سعد” فائق القدرات في عالم الاتجاهات، ونرمين فاقدة القدرة على الوصول للبيت حال تم إغلاق الشارع خليط من القدرات الدماغية والخبرات والمهارات المكتسبة مع أسلوب حياة يصقل البعض الحد الأدنى من الفطرة الأصلية، ويُحرم البعض الآخر منها.
آخر ما تود النساء أن تسمعه هو أن هناك فروقاً بين الذكور والإناث في مسألة حس الاتجاه، وأنها فروق تصب في صالح الرجل، لكن الرجال فعلاً لديهم حس أفضل بالاتجاهات مقارنة بالنساء، وهذا في أغلبه يعود إلى الاختلافات بين الجنسين في طرق التربية والتنشئة ونوع الأنشطة وأماكن ممارستها. بحسب دورية “نيو ساينتيست” البريطانية، فقد أكدت دراسات علمية عدة أن الرجال يتفوقون “قليلاً” على النساء بشكل عام في المهمات الملاحية، وأن ذلك يعود لتمضية الذكور منذ طفولتهم أوقاتاً أطول من الإناث خارج البيت. ورغم الفروق الثقافية، فإن الأطفال والمراهقين الذكور عادة يلقون قدراً أكبر من التشجيع والموافقة من قبل الأهل على قضاء وقت أطول في اللعب خارج البيت مقارنة بالفتيات. وهذا يصقل مهاراتهم الملاحية من دون أن يدروا.
رجال ونساء ومهارات
وورد في المقال المنشور تحت عنوان “الرجال أفضل من النساء في الملاحة، ولكن ليس بسبب نظرية النشوء والارتقاء”، يرجح العالم الفرنسي أنطوان كوترو من “المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي” أن الاختلافات بين الجنسين في القدرات الملاحية يتم اكتسابها من خلال التنشئة والثقافة. ويقول إن “القدرات المتعلقة بالاتجاهات المكانية تشبه إلى حد كبير كل القدرات المعرفية، كلما استخدمتها أكثر، امتلكتها أكثر”.
نسبة النساء اللاتي يجاهرن بعدم امتلاكهن أو ضعف قدراتهن الخاصة بالاتجاهات كبيرة جداً، مقارنة بالرجال. صحيفة بريطانية شهيرة كانت تستقبل أسئلة من القراء ويتفاعل معها بقية القراء بإرسال رسائل ورقية عبر البريد تعليقاً عليها. كان هذا في زمن ما قبل الصوابية السياسية، التي يتعلق جزء منها بأمور الجندر والجنسين وغيرها. أرسلت قارئة رسالة مفادها أن نقص حسها الخاص بالاتجاهات يصل إلى درجة السخافة، ويتجاوز كثيراً ما يعانيه آخرون من ضياع في الطرق. وقالت إنها يجب أن تسلك الطريق الواحد بين 10 و20 مرة قبل أن تتمكن من تذكر كيفية الوصول إلى وجهتها. أرسل العشرات رسائل للصحيفة يشاركون القارئة المشكلة ذاتها. والملاحظ أن الغالبية المطلقة كانت نساء.
أكدت دراسات علمية عدة أن الرجال يتفوقون “قليلاً” على النساء بشكل عام في المهمات الملاحية
الصوابية تتحدث
في عصر الصوابية السياسية، تمت ترجمة السبب الرئيس لتميز الرجال عن النساء في مسألة حس الاتجاه إلى ما يناسب المرحلة. اتفقت الدراسات على أن السبب هو التنشئة والثقافة وتمضية الذكور وقتاً أطول خارج البيت مع اختلاف نوعية الأنشطة التي تتيح لهم اتساع رقعة التجوال مقارنة بالإناث. أما تفسيرها إعلامياً واجتماعياً وأحياناً أكاديمياً، فيأتي حالياً مصحوباً بنعوت عدم المساواة في الفرص والتفرقة في الحقوق.
وتشير دراسة أجريت في “كلية لندن الجامعية” (يونيفرسيتي كولدج لندن) عن القدرات الملاحية لدى الرجال والنساء، وذلك انطلاقاً من تحليل نتائج اللاعبين واللاعبات التي أحرزوها في لعبة كمبيوتر تعتمد على مهارات ملاحة الاتجاهات. ووجدت الدراسة فرقاً فعلياً بين الجنسين، يصب لصالح الرجال. وأشار مؤلفو الدراسة إلى أن السبب لا يعود إلى فروق تتعلق بالطبيعة أو بالفطرة، ولكنها فروق في الحقوق.
مؤشر المساواة
وربطت الدراسة بين النتائج و”مؤشر الفجوة بين الجنسين” التابع للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يحلل المساواة والتفرقة بين الجنسين في مجالات التعليم والصحة وغيرهما. وخلصت الدراسة إلى أن الدول التي تتمتع بدرجة مرتفعة من المساواة بين الجنسين، يقل فيها الفرق بينهما في القدرات الملاحية الخاصة بالاتجاهات والأماكن. وحيث تتسع الفجوة الحقوقية، تتسع الفجوة الملاحية.
وبعيداً عن الفجوة بين الجنسين، وأيهما أفضل في تحديد الاتجاهات وأيهما أكثر عرضة لأن يضل الطريق، عثرت دورية “هارفرد غازيت” على عدد من الإجابات العلمية لسؤال طرحته في العنوان: “من أين يأتي حس الاتجاه لدينا؟” (2019). ويشير المقال، بناء على آراء علماء متخصصين في الخلايا العصبية للرأس، إلى أن عديداً من الحيوانات، بما في ذلك البشر، لديهم إحساس دقيق بالاتجاهات بمساعدة خلايا الدماغ والمعروفة باسم الخلايا العصبية الخاصة بالاتجاهات. هذا الإحساس بالاتجاهات يدمج تيارين رئيسين من المعلومات الخاصة بالمعالم البصرية وكذلك التقديرات القائمة على حركة الشخص أو الحيوان وتنقلاته.
ومن دون الأول، أي من دون المعالم البصرية التي تميزها في الطريق، تتدهور أو تقل القدرة على التنقل على الطرقات حتى في الأماكن المألوفة. وقد يصل الأمر إلى درجة الارتباك في الانتقال من غرفة النوم إلى الحمام ليلاً، لكن في حال وجود علامات مميزة على الطريق، مثل ضوء منبه أو ظل باب أو ما شابه، تتحسن القدرة على التنقل.
قوائم مساعدة
وبعيداً عن القياسات العلمية ونفي تهمة “الغباء الجغرافي” عن فئة بعينها من دون غيرها، يسطر البعض قوائم لتساعد الناس على تحديد إذا ما كانوا يعانون شح أو انعدام حس الاتجاهات أم لا. إحدى هذه القوائم وضعت ثماني علامات بحال وُجِد بعضها أو كلها، يعرف الشخص أنه يعاني من قلة أو انعدام حس الاتجاهات.
أنت دائماً تائه رغم أن لديك “خرائط غوغل” وجهاز “جي بي أس”. تتمنى لو لديك دليل شخصي يصحبك أينما ذهبت. يمكنك الوصول لوجهتك ليس على أساس أسماء الشوارع والميادين، ولكن بناء على معالم مثل متجر أو عمارة أو ما شابه. ينتابك قلق عارم يصل إلى درجة الرعب إن أوقفك أحدهم في الطريق ليطلب منك المساعدة في شرح كيفية الوصول لمنطقة ما. تشعر أن عليك أن تغادر مكانك قبل ساعة أو ساعتين للوصول إلى وجهتك حتى لو كانت المسافة تستغرق 10 دقائق لأنك تريد أن تحتفظ لنفسك بهامش وقت إضافي لزوم ضياعك على الطريق. ما إن يبدأ أحدهم في تقديم شرح وافٍ لك بغرض مساعدتك على الوصول لوجهتك حتى تبدو علامة التشوش والالتباس واضحة على ملامح وجهك. تعرف في قرارة نفسك أنك تثق في وصف شخص غريب تنتقيه عشوائياً ليساعدك على الوصول لوجهتك أكثر من نفسك ومن تطبيقات الاتجاهات والخرائط.
لفاقدي الحس
في المقابل، هناك آلاف النصائح لتساعد فاقدي حس الاتجاهات على تنمية هذا الحس. بعضها يؤدي إلى نتائج إيجابية، والبعض الآخر لا يصنع فرقاً، لكنها تختلف من شخص لآخر. أبرز هذه النصائح: امض بعض الوقت في النظر إلى الخريطة وتخيل اتجاه الشوارع والمنحنيات. امشِ على قدميك بكثرة. حاول أن تحدد عدداً من معالم الطريق المميزة، مثل مبنى كبير أو محل بألوان غير تقليدية أو ما شابه. درب نفسك على عدم الاعتماد كلياً على سائق الأجرة أو الباص أو من يرافقك في الطريق لتحديد الاتجاهات، حاول أن تشرك نفسك في المسألة. اقرأ دائماً لوحات أسماء الشوارع.
أما النصيحة التي اتفق عليها الجميع فهي تكوين خريطة ذهنية. ينظر الشخص إلى الخريطة لبضع دقائق، قبل أن يبدأ في التجوال في كل مرة، وهو ما يساعد على تشكيل خريطة ذهنية للمدينة. وأثناء المشي، يطالع الشخص الخريطة ويضيف إليها ذهيناً المعالم المميزة. هنا، تبدأ خريطة ذهنية تمزج بين الشوارع كخطوط ومنحنيات والمعالم التي يراها الشخص بعينيه في التكون.
من السماء إلى الأرض
وقد كوّن العرب قديماً ما يُعرف بـ”علم القيافة” أو علم الطريق، حيث يجري تقفي أثر من سبقوهم في السير، كما برعوا في معرفة الطرق والاتجاهات رغم أن الصحراء مترامية الأطراف وتبدو كلها صورة طبق الأصل من بعضها البعض. وكان هذا قبل وجود “جي بي أس” أو “خرائط غوغل” أو سائق أجرة يعتمد على فراسته الشخصية.
استخدم العرب القدماء النجوم ومواقعها لتحديد الاتجاهات. وفي حال اختفت علامات السماء بفعل الظواهر الجوية، كانوا يعتمدون على المعالم الأرضية من جبال وهضاب وسهول وأودية.
اليوم، يعتمد العرب وغير العرب على التطبيقات والخرائط و”سيري” إلى حد كبير، وعلى حس الاتجاه بشقيه الفطري الأساسي أو المكتسب عبر المهارات، سواء من منطلق كامل الحقوق والمساواة في اكتساب المهارات أو بما تيسر من مهارة أجهضها عدم المساواة. والغريب أن حس الاتجاه، بشقيه الفطري والمكتسب، تأثر سلباً بسبب تطبيقات الخرائط وإقحام “سيري” نفسها في وصف الطريق.