حرية – (2/6/2024)
في كتاب “مديح القبيحين” الصادر في باريس عن منشورات بيران (2024)، يستعرض الكاتب الفرنسي بيار-لويس لانسيل، المتخصص في التاريخ والجغرافيا والعلوم السياسية، بأسلوبه الجميل عدداً من الشخصيات البارزة التي نجحت في الاستفادة من بشاعتها أو عيوبها أو عاهاتها الجسدية، فشكل قبحها الدرجة الأولى على سلم ترقيها الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي.
يتحدث عن أحد أعظم الرسامين الفرنسيين في الفترة ما بعد الانطباعية هنري دو تولوز-لوتريك (1864-1901) الذي لم يتعد طوله 152 سنتمتراً، والذي قاده اعتلال صحته وتشوه جسده إلى حياة الحانات والمومسات والراقصات في الملاهي الليلية، ولا سيما في ملهى “المولان روج” الباريسي، وعلى رغم تحدره من أسرة أرستقراطية عريقة لكن قباحته لم تمنعه من عشق النساء وإبداع لوحات رسمت جمالهن ولهوهن وبؤسهن وحياتهن في كباريهات باريس، مما وضعه في صدارة الرسامين الموهوبين في القرن الـ 19.
و يحدثنا عن الأميركية جاين بارنيل المعروفة باسم السيدة أولغا (1879 -1945) التي اشتهرت بلحيتها وعملها في عروض السيرك والمسرح ومشاركتها في بطولة فيلم سينمائي، على رغم معاناتها من الشعرانية والاسترجال، مشدداً على أن هنري دو تولوز-لوتريك وجاين بارنيل تركا بصمة في التاريخ على رغم بشاعتهما، بينما سقط كثير من الرجال الأشداء والنساء الجميلات في غياهب النسيان.
كتاب “مديح القبيحين” بالفرنسية
يتوقف لانسيل كذلك أمام عبارة فيودور دوستويفسكي (1821-1881) الشهيرة التي وردت في رواية “الأبله”، “الجمال سوف ينقذ العالم”، ليربطها بحادثة مهمة وقعت في حياة الأديب العظيم يوم أُلقي القبض عليه عام 1849 لانتمائه إلى “رابطة بيتراشيفسكي”، ويقول لنا الكاتب إن دوستويفسكي بُعيد صدور الحكم عليه بالأشغال الشاقة قضى أربعة أعوام في “معتقل أومسك”، حيث عاش بين جدرانه تجربة اعتقال مريرة وسط البرد القارس والغرف المليئة بالحشرات والقوارض والتعرض لسوء معاملة المعتقلين الآخرين، لكنه مع ذلك كتب في إحدى رسائله إلى شقيقه ميخائيل قائلاً “حتى في المعتقل استطعت التمييز بين الرجال. أتصدقني؟ ثمة بين اللصوص وقطاع الطرق شخصيات رائعة قوية وعميقة، وليس أجمل من اكتشاف الذهب تحت القشور الخشنة، ولا أحدثك عن شخص واحد أو عن اثنين، بل عن كثير من الرجال الرائعين الذين يستحقون الاحترام”.
الاختلاف الجسدي
يرى بيار-لويس لانسيل في تجربة دوستويفسكي هذه صدى لعبارة بولس الرسول الواردة في رسالته إلى أهل رومية، “حيث تكثر الخطيئة تزداد النعمة جداً”، وها هوذا في تأملاته في الاختلاف الجسدي يخلص إلى القول إن القبح ليس النهاية، ولعله يؤدي في كثير من الأحيان إلى النجاح والعظمة، فنراه يتساءل في كتابه لو أن تولوز- لوتريك ولد وسيماً وطويل القامة، فهل كان سيسعى إلى السير على دروب الرسم والفن؟ وعما إذا كانت دوقة أورليانز، إليزابيث-شارلوت البافارية، الملقبة بـ “ليزلوت” و”السيدة بالاتين” التي دُبر زواجها على رغم قباحتها من شقيق الملك لويس الـ 14 ثم استقرت في سان-كلو وفرساي، ستكتب رسائل تروي فيها كل الأحداث والحياة اليومية التي شهدتها في القصر الملكي، والتي يُنظر إليها اليوم كواحدة من أفضل الوثائق دلالة على القرن الـ 17؟ فلو كانت السيدة بالاتين تشبه أميرات الحكايات الرائعات الجمال، فهل كانت ستنظر إلى بلاط شقيق زوجها بهذه الحرية وتخصص وقتها للكتابة التي تدين لها بشهرتها؟ وهل كان جورج دانتون (1759 – 1794) المحامي والخطيب البارع وأحد زعماء الثورة الفرنسية، المشهور بقباحة وجهه، سيستمر في نضاله الثوري لو كان على شيء من الوسامة الجسدية؟
فبدلاً من التقليل من أهمية القباحة والعيوب الجسدية في مسرى التاريخ يقترح بيار-لويس لانسيل درس دورها من خلال عرضه 11 قصة مدهشة، بدءاً من إبطال عقد زواج جان دو فرانس الملقبة بـ “العرجاء” والتي أصبحت دوقة أورليان بعد زواجها في سن الـ 12 من الدوق الفرنسي لويس الذي توج فيما بعد ملكاً على عرش فرنسا باسم لويس الـ 12، والذي أعلن بطلان زواجه منها بهدف الزواج مجدداً من أرملة الملك السابقة آن دو بروتاني.
عاشت جان دو فرانس التي عُرفت بعد طلاقها باسم دوقة بيري حياة زهد وبساطة في مدينة بورج، حيث أسست رهبنة وكرست نفسها للصلاة والتأمل والسير على درب المسيح مصغية إلى تعاليمه، فتربعت على عرش القداسة وطوبتها الكنيسة، ثم أعلنت قداستها أيام البابا بيوس الـ 12، فلو كانت جان دو فرانس على شيء من الجمال، فهل كانت الروحانيات وحياة الصلاة والتقشف خيارها الأول؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة الافتراضية صعبة، لكن استحضار الكاتب وتحليله تجارب حياتية لأناس حرمتهم الطبيعة بعض عطاياها الجمالية جدير بالاهتمام، وفي هذا الإطار يتحدث بيار-لويس لانسيل عن تجربة المغني الألماني الشهير كلاوس نومي (1944 – 1983) وعن مظهره الجسدي الخارج عن التصنيف والذي يذكرنا بالكائنات الفضائية، وعن أدائه الموسيقي المبهر بداية ثمانينيات القرن الـ 20، وقد حمله شكله على الاستنتاج أن القبح، الذي غالبًا ما يجعل من صاحبه عرضة للاستهزاء أو للشفقة، يمنحه أحياناً حرية في التصرف وفرادة في الوجود تميزه عن غيره من سائر الناس، ولعله يكون سبباً في شهرته وذياع صيته وإبداعاته الفنية.
بأسلوب شيق يرسم بيار-لويس لانسيل لوحات مثيرة للاهتمام لشخصيات استثنائية جعلت من بشاعتها أو عاهاتها أو تشوهها مصدر قوة، فيستعرض في هذا السياق حياة الناقد الأدبي الفرنسي شارل أوغستان سانت بوف (1804-1869) المعروف بعدم وسامته، والذي شبهه الأخوان غونكور بالضفدع، وحياة المجند الفرنسي ألبير جوغون الذي شوهت الحرب العالمية الأولى معالم وجهه وكان تشوهه هذا سبباً في حضوره توقيع “معاهدة فرساي” عام 1919 وذياع صيته في شتى أنحاء العالم، وحياة الممثل والمنتج الإذاعي الأميركي ميكي روني وغيرهم.
القباحة برأي بيار-لويس لانسيل، على رغم صعوبة تحديدها، تفتح أمام صاحبها آفاقاً لامتناهية من الاحتمالات، ولعلها بحسبه شكل من أشكال الحرية، فنقرأ في كتابه أن بعض الدراسات التي تناولت تاريخ الفن والأدب أظهرت أحياناً تقاطعاً بين الإبداع والقباحة أو العاهات الجسدية، وهذا بالضبط ما دفع به إلى استكشاف هذه النماذج من الناس الذين شكلت قباحتهم دافعاً لعطاءات وإبداعات في مجالات مختلفة، تناولها بالدرس والتحليل في محاولة منه لإبراز دور القباحة في تفوق بعض أصحابها في الحياة الإنسانية.
“مديح القباح” كتاب مثير يروي حكايا أبطالها من رجال ونساء كان القبح سبيلهم نحو الجمال والنجاح، فهل يسعى هذا الكتاب إلى تغيير رؤيتنا للقباحة التي هي في بعض الأحيان مفهوم ثقافي يرتبط بالتغيرات والمعايير الشكلية السائدة المرتبطة بالهيئة والشكل والمظهر الجسدي الخارجي؟ هذا ما سيكتشفه القارئ لدى مطالعته هذا الكتاب.