حرية – (3/6/2024)
ازداد الاهتمام في مجال علم الأحياء الزمني وتأثيره في وظائف الأعضاء ونمط الحياة، وازداد بصورة كبيرة أيضاً فهم الأساس الخلوي لإيقاعات الجسم المختلفة، وعلى ضوء ذلك جاءت أهمية الفهم الصحيح للآلية التي يعمل من خلالها الجسم، والتي تضمن تحقيق صحة أفضل.
تتغير الطريقة التي يشعر بها الجسم على مدار اليوم وطوال العام، فكل عضو في الجسم له فترة زمنية مخصصة تبلغ نحو ساعتين خلال اليوم يعمل فيها بكفاءة عالية، وهذا يعني أنه في حال كان الشخص يعاني مرضاً متعلقاً بعضو معين في الجسم، عندها ستظهر الأعراض ذات الصلة بصورة ملحوظة في وقت الذروة لهذا العضو.
وعلى سبيل المثال، معظم النوبات القلبية تحدث قبل الظهر، إذ يكون القلب أكثر نشاطاً في هذا الوقت، كما لوحظ أن الإنفلونزا ونزلات البرد تظهر بشكل مختلف في أوقات مختلفة من اليوم، وهذا ما يتم تفسيره بوجود ساعات بيولوجية داخل الجسم تختلف عن الساعات التي اعتدنا عليها في حياتنا، فهي عبارة عن إيقاعات يومية يحدث فيها تغيرات جسدية وعقلية وسلوكية، وتتبع دورة مدتها 24 ساعة.
الساعة البيولوجية
تدعى الساعة البيولوجية العاملة وفق نظام 24 ساعة والموجودة في قلب الدماغ باسم “النواة فوق التقاطع”، وهي نقطة تقاطع العصبين البصريين الآتيين من العينين، فيتلاقيان عند هذه النقطة وسط الدماغ، ثم يتابعان طريقيهما فيمضي العصب الأيمن إلى الجهة اليسرى والأيسر إلى الجهة اليمنى.
ولموقع هذه النواة سبب وجيه، فهي تأخذ عينة من الإشارة الضوئية التي ترسلها كل عين عبر عصبها البصري، وذلك عندما تكون هذه الإشارات في طريقها إلى مؤخرة الدماغ من أجل المعالجة البصرية، وتستخدم هذه النواة فوق التقاطع هذه المعلومات الضوئية الموثوقة لإعادة ضبط التوقيت المختل بحيث تصير الدورة اليومية 24 ساعة من غير أي انحراف.
وهذه النواة مكونة من 20 ألف خلية دماغية أو عصبون، وقد يظن البعض أنها تحتل حيزاً ضخماً في الجمجمة فإنها صغيرة جداً، إذ إن الدماغ يتألف من قرابة 100 ألف مليون عصب، مما يجعل هذه النواة فوق التقاطع صغيرة جداً داخل المادة الدماغية، وعلى رغم صغر حجمها فإن درجة تأثيرها كبيرة في بقية الدماغ والجسم كله، فهذه الساعة الصغيرة هي القائد المركزي لسيمفونية الإيقاع البيولوجي للحياة لكل جنس حي، فهي تتحكم بمجموعة كبيرة من النشاطات والسلوكات بما فيها متى يجد الإنسان نفسه راغباً في النوم أو في الاستيقاظ؟
عاملان رئيسان
هناك عاملان رئيسان يحددان متى تصير راغباً في النوم أو الاستيقاظ، وفي هذه اللحظات القليلة الآن يمارس كل من هذين العاملين تأثيراً كبيراً في الدماغ والجسد، العامل الأول هو إشارة منبعثة عن الساعة الداخلية الموجودة في الدماغ وهي الساعة البيولوجية التي تخلق دورة أو إيقاعاً ليلياً نهارياً متكرراً يجعل الإنسان يشعر بالتعب أو باليقظة في أوقات منتظمة من الليل والنهار.
أما العامل الأخير، فهو مادة كيماوية تتراكم في الدماغ وتخلق “ضغط النوم”، أي الإحساس بالحاجة إلى النوم، فكلما ازداد البقاء مستيقظاً تراكم هذا الضغط الكيماوي الذي يطالب بالنوم، بالتالي فإنك تشعر بقدر أكبر من النعاس.
إن التوازن بين هذين العاملين هو ما يحدد كم يكون الإنسان منتبهاً خلال فترة النهار، ومتى يشعر بالتعب والاستعداد للذهاب إلى الفراش في الليل، ويحدد جزئياً أيضاً مدى جودة النوم، إذ يقوم الإيقاع اليومي بتفعيل كثير من الآليات الدماغية والجسدية خلال ساعات النهار، وهي الآليات المصممة لإبقاء الإنسان نشطاً ومنتبهاً، ثم يأتي الليل فتتوقف تلك العمليات ويزول عن الإنسان تأثيرها المنبه.
النمط الزمني
وعلى رغم أن لدى كل كائن بشري إيقاعاً ثابتاً من 24 ساعة، فإن نقطة الذروة ونقطة الحضيض في هذا الإيقاع مختلفتان من شخص لآخر، فعند بعض الأشخاص تكون ذروة اليقظة في وقت مبكر من النهار، وتكون نقطة الحضيض (أي وقت الإحساس بالنعاس) في وقت مبكر من الليل، هؤلاء هم أصحاب النمط النهاري وهم يشكلون قرابة الـ40 في المئة من البشر، إذ يفضل هؤلاء الاستيقاظ عند الفجر تقريباً بل يسعدهم الاستيقاظ في هذا الوقت ويكون أداؤهم في حالته المثلى في هذه الفترة من النهار.
وأما أصحاب “النمط المسائي” فهم يعادلون نحو 30 في المئة من البشر، عادة ما يفضل هؤلاء الذهاب إلى الفراش في وقت متأخر والاستيقاظ في وقت متأخر من الصباح التالي أو حتى بعد ظهر اليوم التالي، وتقع النسبة الباقية أي نحو 30 في المئة من الناس بين النمطين النهاري والليلي مع ميل بسيط في تجاه النمط الليلي.
ويدعى هذا النمطان من الناس عصافير الصباح وبومات الليل، وخلافاً لعصافير الصباح عادة ما تكون بومات الليل غير قادرة على النوم في وقت مبكر مهما حاولت فعل ذلك، إذ لا تتمكن من النوم إلا في وقت متأخر من الليل، وبما أنها لا تنام حتى ذلك الوقت المتأخر فمن الطبيعي أنها تكره الاستيقاظ في وقت مبكر، ولا يكون أداؤها جيداً في هذا الوقت من النهار، فعلى رغم أن أدمغتها مستيقظة لكنها تظل في حالة أقرب إلى النوم خلال ساعات الصباح الباكر، وانتماء الشخص إلى هذين النمطين يعرف باسم النمط الزمني وهو أمر تحدده المورثات بدرجة كبيرة.
تأثير البيئة
كما يمكن أن تسبب تغيرات الجسم والعوامل البيئية المختلفة تغيراً في إيقاعات الساعة البيولوجية، فعندما يكون إيقاع الساعة البيولوجية غير متوازن، هذا يعني أن أنظمة الجسم لا تعمل على النحو الأمثل، وكمثال عن هذه العوامل نذكر الطفرات أو التغيرات في جينات معينة. ويسبب السفر أو العمل أو الضوء المنبعث من الأجهزة الإلكترونية تغيراً في دورة الضوء والظلام إرباكاً في الساعة البيولوجية، بالتالي عدم اتزان إيقاعها بين النوم واليقظة الذي يؤدي بدوره إلى اضطرابات في النوم، كالنوم الخفيف أو المجزأ أو الأرق، إضافة لحالات صحية مزمنة كالسمنة والسكري واضطراب ثنائي القطب العاطفي الموسمي.
ويمكن للطعام أن يغير إيقاع الساعة البيولوجية، إذ يؤدي تناول الطعام في أوقات غير منتظمة إلى إرباك الساعة البيولوجية أيضاً.
هناك عاملان رئيسان يحددان رغبة الإنسان في النوم أو الاستيقاظ
أنواع الاضطرابات
تحدث لإيقاعات الساعة البيولوجية اضطرابات على المدى القصير أو الطويل، إذ حدد المتخصصون عدداً من أنواع اضطرابات إيقاع الساعة البيولوجية والنوم واليقظة بناء على خصائصها وأسبابه، مثل اضطراب jet lag الذي يحدث عندما ينتقل الشخص من منطقة زمنية لأخرى ويحتاج إلى وقت ليتأقلم.
أيضاً اضطراب العمل أثناء المناوبات الليلية الذي يتطلب العمل خلال الليل والنوم أثناء النهار، واضطراب طور النوم المتقدم ويصيب واحداً في المئة من الأشخاص في منتصف العمر وفيه يشعر الشخص بالتعب والإرهاق في وقت مبكر من المساء ويستيقظون في وقت مبكر جداً من الصباح دون قدرة على تغيير النمط.
كما أن هناك اضطراب طور النوم المتأخر الذي يعرف بـ”بوم الليل” ويؤثر بـ16 في المئة من الأشخاص، إذ يبقى الشخص مستيقظاً في وقت متأخر من الليل وينام حتى وقت متأخر من الصباح.
وكذلك اضطراب الاستيقاظ أثناء النوم، ويحدث بصورة أساسية مع المكفوفين وغير القادرين على تلقي إشارات ضوئية لإيقاع نومهم، واضطراب إيقاع اليقظة والنوم غير المنتظم، وهؤلاء ليس لديهم نمط ثابت لنومهم وقد يأخذون قيلولات عديدة أو فترات نوم قصيرة على 24 ساعة في اليوم، ويؤثر في الدماغ مثل الخرف أو إصابات الدماغ الرضية.
نصائح وإرشادات
ومن بعض النصائح التي يمكن اتباعها لتحسين دورات النوم على مدار 24 ساعة وضبط إيقاعها، التعرض لأشعة الشمس واتباع جدول ثابت للنوم وممارسة الرياضة اليومية، فهي تساعد على دعم الساعة الداخلية للجسم وتسهيل النوم في الليل، وكذلك تجنب الكافيين والحد من التعرض للضوء قبل النوم، إذ ينصح الخبراء بتخفيف الإضاءة قدر الإمكان وإطفاء الأجهزة الإلكترونية في الفترة التي تسبق موعد النوم وإبعادها عن غرفة النوم، مع الحصول على قيلولة قصيرة في وقت مبكر من فترة بعد الظهر.