حرية – (8/6/2024)
“قبل أن تبرد القهوة” هو العنوان الأصلي لسلسلة الروائي والمخرج الياباني توشيكازو كواغوشي الروائية التي صدر منها أربعة أجزاء حتى تاريخه عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”. وهو عنوان الجزء الأول منها. أما الأجزاء الثلاثة الأخرى فتحمل، إلى العنوان الأصلي، عناوين فرعية، من قبيل “حكايات من المقهى” للجزء الثاني، و”قبل أن تتلاشى ذاكرتك” للجزء الثالث، و” قبل أن نقول وداعاً” للجزء الرابع، موضوع هذه القراءة.
بمعزل عن العنوان الأصلي والعناوين الفرعية فإن المتون الروائية للأجزاء الأربعة تتناول مواجهة معضلات الحاضر باستعادة الماضي، أي معالجة الواقعي بالغرائبي، مما يقيم تعارضاً بين الغاية والوسيلة، ذلك أن الأحداث فيها تجري في مقهى فونيكولي فونيكولا السحري الذي يتيح لرواده الذين يرزحون تحت وطأة الندم العودة إلى الماضي، للتخفيف من ندمهم الذي تختلف أسبابه من شخصية إلى أخرى، والتصالح مع الذات ومتابعة الحياة. وإذا كانت العودة إلى الماضي مدفوعة بندم رواد المقهى على ما فعلوا أو لم يفعلوا، فإن هذه العودة لا تتيح تصحيح ما سبق فعله وما ترتب عليه من نتائج، ذلك أن ما فعل قد فعل، لكنها تتيح للعائد تدارك ما لم يفعله، مما يترتب عليه نتائج جديدة، تتعلق بالشخصية العائدة وليس بالمعود إليها، من قبيل: المصالحة مع الذات، وقبول الحاضر، والاستمرار في المستقبل. على أن المتدارك المفعول قد يكون تكفيراً عن ذنب، أو اعتذاراً عن خطأ، أو اعترافاً بحب، أو قبولاً بعرض، أو اطمئناناً على مستقبل، أو جلاءً لغامض، أو معرفة لمجهول… وبذلك، تقع السلسلة في التنميط الروائي في الخطوط العريضة، وتحقق التنوع في التفاصيل.
تتجاور في “قبل أن نقول وداعاً” أربع حكايات، يجمع بينها حصولها في المكان الروائي نفسه، ومعاناة شخوصها الحالة نفسها، واستخدامهم آلية العلاج نفسها. ويفرق بينها الشخوص وزمن الأحداث وأسباب الحالة، ما يجعلنا إزاء حكايات مستقلة، بعضها عن بعض، ويجعل الكتاب أقرب إلى المجموعة القصصية منه إلى الرواية، ذلك أننا نستطيع تغيير ترتيب الحكايات الأربع فيه من دون أن يختل السياق الروائي، ولكل قصة شخوصها المستقلة عن الأخرى، ومسارها المنفصل عنها، ومآلها المفارق لها.
الرواية بالترجمة العربية
بمعزل عن التجنيس الأدبي تتمحور الحكاية الأولى “الزوج” حول أستاذ علم الآثار ابن الـ67 مونغي كاداغورا، الزوج الفاشل والأب المقصر، الذي يهمل أسرته ويغيب عن منزله أشهراً، وحين يعود يواجهه أولاده بتقصيره، فيما الزوجة ميكو تحسن استقباله كأن شيئاً لم يكن، حتى إذا ما دخلت في غيبوبة طويلة، جراء تعرضها لحادث، ينهشه شعور بالندم لإهماله إياها، فيقصد المقهى السحري، ويعود إلى ما قبل دخولها في الغيبوبة، ويخبرها أنه كان سعيداً معها، ويعتذر عن تقصيره في حقها، ثم يقصد المستشفى الذي ترقد فيه، ويتحدث إليها في غيبوبتها، ويأمل في أن تستيقظ، ويذرف الدموع الغزيرة. وبذلك، يتخلص من الندم، ويشكل الغرائبي وسيلة لترميم الواقعي، ويقوم المتخيل بمعالجة المعيش، فاستعادة الماضي تندرج في إطار التكفير عن تقصير الزوج، وهي لا تغير النتائج المترتبة عليه، ولا تزيل التقصير، لكنها تغير طريقة تعاطي العائد معه وتصالحه مع ذاته.
أمومة مفقودة
وإذا كان التقصير في هذه القصة متعمداً ومتمادياً ويتعلق بإنسان آخر، مما جعل المقصر يغرق في ندمه، فإن التقصير في قصة “الوداع” غير مقصود ولا يتعدى لحظات ويتعلق بحيوان معين، ذلك أن سوناو المرأة العاقر، تتبنى كلباً صغيراً برضا الزوج موتسو، تمارس من خلاله أمومتها المفقودة، وتحيطه بقدر كبير من الرعاية والاهتمام، وحين تتقدم به السن ويمرض ويشارف الرحيل، تلازمه في مرضه، غير أنه يموت في غفلة منها، فلا تغفر لنفسها، وترزح تحت وطأة ندم عميق، حتى إذا ما أخبرها الزوج بأمر المقهى السحري، تمارس تقنية العودة إلى الماضي، وتلتقي بكلبها الراحل، وتبدي أسفها على تقصيرها القصير غير المقصود، فتتخفف من الشعور بالندم، وتشعر بالامتنان، وتواصل حياتها. وهكذا، تغدو العودة إلى الماضي نوعاً من العلاج النفسي لرواد المقهى، يحررهم من ثقل الماضي، ويصالحهم مع الحاضر.
على أن سبب الشعور بالندم في القصة الثالثة “عرض الزواج” يختلف عنه في القصتين السابقتين، ويتمظهر في اتخاذ موقف متسرع تندم عليه صاحبته، وتشكل العودة إلى الماضي تداركاً لهذا الموقف، فتأجيل هيكاري إيشيموري البت في عرض الزواج الذي تقدم به يوغي ساكيتا حين التقيا في المقهى السحري، على رغم العلاقة الحميمية بينهما، يولد لديها شعوراً بالندم لاحقاً، يتنامى بعد وفاته، ويتصادى مع شعور آخر بالغدر ناجم عن تحلله من وعد قطعه لها، زاعماً أنه على علاقة بأخرى. وإذ يثقل الشعور بأن كاهلها، تلجأ إلى المقهى السحري، فتقابل يوغي، وتقبل عرضه، وتعلم أن زعمه العلاقة بأخرى لم يكن سوى ذريعة ليسهل عليها الانفصال عنه، لا سيما أنه كان على وشك الرحيل. والغريب أنه، خلال هذه العودة المتخيلة، يعطيها الخاتم، حتى إذا ما عادت إلى الحاضر، يشكل دليلاً مادياً على تلك العودة المستحيلة. وهنا، يختلط الغرائبي بالوقائعي، مرة أخرى، وتشعر هيكاري بالسعادة بعد أن تداركت موقفاً متسرعاً اتخذته، وتتحرر من الشعور المزدوج بالندم والغدر.
عقوق الأبناء
يتخطى سبب الندم التقصير والتسرع إلى العقوق الذي يمارسه الأبناء بحق ذويهم، حتى إذا ما رحل هؤلاء، يعاني أولئك مرارة الندم بعد فوات الأوان، وهو ما نراه في القصة الرابعة والأخيرة “الابنة”، ذلك أن الطالبة الجامعية ميتشيكو كيغيموتو تضيق ذرعاً باهتمام والدها كينغو كيغيموتو بها، وترى فيه تدخلاً في شؤونها، فتتعمد الانتقال من بلدة يورياغي الساحلية إلى طوكيو للابتعاد عنه، وحين يقوم الأب بزيارتها للاطمئنان عليها تخجل بريفيته وتخشى أن يراه أحد من أصدقائها، لذلك، لا تتورع عن رمي هداياه أرضاً، والطلب إليه العودة من حيث أتى، حتى إذا ما الأب بفعل التسونامي الذي ضرب يورياغي في الـ11 من مارس (آذار) 2011، تغرق في دوامة الندم، وترفض أن تكون سعيدة مع خطيبها يوسوكي، غير أن عودتها إلى الماضي، واعتذارها من الأب، وقيامه بإعطائها الدفتر المصرفي الذي ادخره لزواجها، وإبداء تفهمه لها، تعيد المياه إلى مجاريها بين الأب وابنته، فتتحرر من الشعور بالندم، وتقرر العودة إلى خطيبها واستئناف حياتها الطبيعية. وهكذا، تقول القصة ترفع الآباء عن عقوق الأبناء، وفضل الأبوة على البنوة. فالأهل يهتمون بأولادهم حتى بعد الموت، في المتخيل الروائي، في الأقل.
وعليه، يقترح كواغوشي في سلسلته الروائية، وفي جزئها الرابع، السفر عبر الزمان علاجاً لمعضلات المكان وقاطنيه، وهو اقتراح غير عملي، يدخل في باب المتخيل، من جهة، والمتذكر، من جهة ثانية. على أنه لا بد من الإشارة إلى أن الذاكرة والمخيلة تصلحان آليتي دفاع في وجه الواقع ووقائعه القاسية، على المستوى النفسي، في الأقل، دون أن يترتب عليهما، بالضرورة، تغيير في الوقائع القائمة.
وبعد، إن تعدد القصص في الرواية، وتعدد الأصوات الساردة ضمن القصة الواحدة، وتنوع صيغ السرد، وتجادل السرد والحوار، واستخدام الجمل القصيرة والمتوسطة، وتوخي التلقائية في الحوار، وغيرها من العناصر النصية، توفر للأحداث الواقعية/ الغرائبية خطاباً روائياً رشيقاً يشكل حاضناً مناسباً للحكايات المختلفة.