حرية – (10/6/2024)
كان ناقد الطعام أنطوان إيغو أحد الشخصيات المحورية التي تضمنها فيلم الأنيميشن الشهير الحائز أوسكار “راتاتوي”، إذ كان يظهر في مشاهده مهيباً بنظرات عميقة ونظارة صغيرة منضبطة تليق بقارئ نهم شديد الاطلاع، يأكل في صمت ويدفع ثمن وجبته ويغادر بعد أن يكون أربك جميع من يعملون بالمطعم إذا ما تم كشف أمره بطبيعة الحال.
وأية هفوة تحدث في الوصفة أو طريقة التقديم قد تؤثر في رأيه بالمذاق أو أسلوب الضيافة، ومن ثم يكتب مقالاً سلبياً يحول حياة أصحاب العمل إلى جحيم ويجعل الزبائن يحجمون، وبالعكس فإن وجهة نظره الإيجابية تجلب الحظ والسعادة وتعلي من شأن المطعم، بل ويحصل على النجوم والإشادات، وتصبح تجربة الأكل به محل تقدير، حتى لو قدمها عمل فني كارتوني بشيء من المبالغة.
وحتى 10 أو 15 عاماً مضت كانت صورة ناقد الطعام تنحصر في أن لديه معرفة بالطهي وشغفاً بالتجارب، وفي رصيده دراسات متعلقة بالطبخ وفنون الاتصال وكتابة المحتوى وأصول الضيافة، وعلى اطلاع بأنواع المطابخ العالمية المختلفة.
واشتهرت صحف عدة بتقديم تلك الأبواب التي يتناوب عليها محررو أعمدة الطعام وبينها “لوس أنجليس تايمز” و”نيويورك تايمز”، وكانت المهمة تختلف تماماً عن مهنة “الذواقة” الذي يتلخص عمله في تقييم الأطباق.
والآن انقلب الأمر، إذ بات ناقد الطعام الكلاسيكي في تراجع كبير بخاصة لدى منافذ تقديم الطعام الحديثة، التي تهتم بجذب مستهلك تلائمه طرق مختلفة تماماً، باعتباره يقضي غالب وقته يتصفح منصات التواصل الاجتماعي ويبحث عن توصيات من مصادر يثق في تجربتها لتناول وجبته، إذ حدثت ثورة في عالم نقد الطعام وتحول صاحبها إلى “فودبلوغر”، وتبدو مهامه ظاهرياً بسيطة ويسيرة ومسلية، إذ يتنقل بين منافذ تقديم الطعام سواء عربات الشارع أو المطاعم ذات المقاعد الوثيرة أو تلك التي تضع طاولاتها على رصيف المشاة، ويلتهم شتى الأصناف معلقاً على زيادة الصلصة هنا ونقص التوابل هناك، أو مبدياً استياءه من أسلوب ترتيب الأصناف هنا أو معبراً عن إعجابه بطريقة تزيين الطبق هناك.
ولم يعد مطلوباً أن يكون لديه بعض من الدرس أو التدريب أو الخبرة العملية، بل الشرط الأساس هو وجود عدد ضخم من المتابعين فكلما زادوا ارتفع أجره، وكلما كان أسلوب عرضه شيقاً أو كوميدياً حقق شهرة وتأثيراً أكبر.
تراجع دور ناقد الطعام الكلاسيكي
الفيلم الكارتوني الشهير الذي كتبه وأخرجه براد بيرد كان يحرك أحداثه ناقد الطعام وليس فقط طموح الفأر المحب لعالم الطبخ، وقد ترجم مدلول اسمه إلى العربية أكثر من مرة، وسمي “خلطبيطة بالصلصة” ومرة “الفأر الطباخ” إذ حققت نسخته المدبلجة إلى اللهجة المصرية شعبية كبيرة.
وكانت قصته تدور حول فأر عاشق للطهي وروائح الطعام الشهي يستقر به المقام في أحد مطاعم فرنسا المتشددة فيما يتعلق بمستوى الطهاة، ويصبح هو العقل المدبر لوصفات الطباخ البشري عديم الخبرة، الذي يفاجئ من حوله بأنه ينتج وصفات مذهلة من دون أن يعملوا أن من وضع أسسها الفأر الصغير.
ومثله أعمال كثيرة دارت قصصها حول الصراع لنيل رضا ناقد الطعام الأكثر تأثيراً لتحقيق المجد في هذا العام شديد التنافسية، إنها مهنة تقدم خدمة مزدوجة لصاحب المطعم وللزبون على السواء، فيما يتقاضى صاحبها أجراً من المؤسسة التي يعمل بها، فالمعروف أن ناقد الطعام كان يذهب سراً من دون أن يخبر أصحاب المطعم مسبقاً ويحاول الحفاظ أيضاً على سرية هويته، ويتناول وجبته بصورة اعتيادية ويدفع ثمنها ويسجل تجربته كاملة من دون أن يحصل على خدمة خاصة لتتحقق صدقيته مع المتلقي، وهنا الفارق أساس وجوهري فعلى رغم أن بعض مدوني الطعام بدأوا مسيرتهم كهواة ينقلون تجربتهم الشخصية سواء بالكتابة أو الفيديو من دون طلب من أية جهة، ويسردون الجوانب السلبية والإيجابية على السواء كما اختبروها وبخاصة أن وجوههم لم تكن معروفة من الأساس، فإن الأمر عندما تحول إلى احتراف اختلف تماماً.
الشيف والمدون محمد حازم ترك الصيدلة للتفرغ لشغفه في مجال الطعام
وبحسب المتداول في هذه السوق بمصر، فإن المطعم يتعاقد مع مدون الطعام مقابل مجموعة من الامتيازات وهي أن يدفع له مقابلاً مادياً يتراوح ما بين “1500 إلى 2000 دولار أميركي” للفيديو وبعض التدوينات عبر التواصل الاجتماعي، كما أنه من حق المدون أن يتناول وجباته مجاناً في المكان بصورة دائمة، وأيضاً أن يصطحب معه من يشاء من معارفه، إضافة إلى وجبات تصل إلى منزله متى يشاء من دون مقابل.
وبالطبع عليه أن يقدم محتوى إيجابياً يمتدح في مستوى الطعام والضيافة بصورة عامة، وهنا تكمن النقطة التي تجعل التجربة محل تشكيك من قبل بعض المتابعين الذين يرون أنه من غير المنطقي أن يكون كل شيء مثالياً، لكن مع ذلك تتراجع المهنة بصورتها التقليدية ليقبل أصحاب المشاريع على التعاقد مع المدونين المعروفين على “السوشيال ميديا” لأنهم يصلون إلى جماهير مليونية في وقت قصير، ويحققون هدفهم بسرعة بعيداً من الجمهور المحدود لمنصات الكتابة المعتادة سواء وسائل إعلام أو مواقع شخصية.
وتدريجاً أصبح هناك من يقدم خدمة معاكسة فهناك من يسارعون لسرد تجارب سلبية تماماً عن المطاعم نفسها التي تمت الإشادة بها فيما قبل، فتعلو وتيرة الاتهام بالكذب والدعاية المضللة، وتتحول الساحة إلى حرب.
واللافت أن بعض “الفودبلوغرز” حققوا شهرتهم بالطريقة المعاكسة أي من طريق سرد تجارب شديدة السوء والسلبية عن مطاعم شهيرة مشهود لها بالكفاءة، فأصبحوا أيضاً متهمين بالكذب والعمل لمصلحة منافذ أخرى منافسة، وأن وسيلتهم الضاغطة هنا تتسم بالابتزاز والتشهير، فهل تحول المضمون إلى مجرد إعلان جعل هذا العالم محل جدل وتشكيك على الدوام.
اتهامات بالتشهير
لم ينف “الفودبلوغر” محمد حازم وجود نوع من الابتزاز في بعض مراجعات المطاعم التي يقوم بها “اليوتيوبرز” المحسوبين على المجال، مشيراً إلى أنه مثل كل مجال به الجيد والرديء، ومرجعاً سبب اهتمام الجمهور بصورة عامة بـ”الإنفلونسرز” في مجال الأكل إلى أنه الأكثر جذباً، إذ يقول إن هناك أنواعاً كثيرة من المؤثرين سواء مهتمين بعالم الموضة أو الجمال أو العقارات أو الرياضة وغيره، لكن التركيز بصورة أكبر على مدوني الطعام، لأن الأكل نشاط يجمع كل الفئات والطبقات والتوجهات، بعكس باقي المجالات التي لديها جمهور نوعي، وبالتالي تحدث حالة من الهجوم شبه الدائم عليهم.
وأشار إلى أن البعض من المنتسبين إلى هذه المهنة يحبون التغريد خارج السرب والاختلاف دون سند لجمع مزيد من المتابعين، كأن يذهب أحدهم إلى مطعم شهير ومعروف بجودته وبارتفاع أسعاره على سبيل المثال ويقدم مراجعة سلبية للغاية، لمجرد أن يبدو مختلفاً، وأن يوهم الجمهور أنه يتمتع بصدقية عالية وغير مهتم بتحسين علاقته بأصحاب المكان.
تعتقد البلوغر روبي المنفلوطي أن مجال التدوين حول المطاعم يتمتع بعدم المصداقية
ويضيف حازم “بعد فترة يكتشف الجمهور اللعبة وهي أن هذا المدون كل ما فعله كان بغرض الضغط والابتزاز ليس أكثر”، ويصف المؤثر الذي لديه اهتمام أصلاً بتقديم الوصفات والطهي بصورة عامة هؤلاء بأنهم دخلاء على المهنة، وليس لديهم مؤهلات تناسب المجال وهم السبب الرئيس في تشويه سمعة “الفودبلوغرز” في المنطقة.
وتعتقد “الإنفلونسر” روبي المنفلوطي أن “ضرب المنافسين” تصرف شائع للغاية في هذا الوسط، مضيفة أن كثيراً من محترفي مراجعات المطاعم يبحثون عن المال، ولا يهتمون بإبراز الجوانب السلبية والإيجابية بصورة عادلة في التجربة، لكن فقط يعبرون عن رأي من يدفع لهم من أجل الإضرار بمطعم منافس، ورغم ذلك فهي من خبرتها في مجال “السوشيال ميديا” والتي تجاوزت 10 أعوام ترى أن الأمور بدأت تتكشف، ولم يعد من السهل خداع المتابعين لوقت طويل، وهو سبب اختفاء عدد منهم كانوا ملء السمع قبل أعوام، واصفة رواد المجال الأكثر صدقية بأنهم قليلون للغاية.
وتعتقد روبي التي باتت تمتلك مطعماً خاصاً بها وتعرف نفسها بأنها حفيدة الأديب المصري الراحل المتحدر من صعيد مصر مصطفى لطفي المنفلوطي، أن المحتوى الصادم يحقق مشاهدات سريعة و”فرقعة” ولكن حينما يتم التأكد من أهدافه المغرضة يختفي تدريجاً، وتنوه بأن تلك المهنة مربحة جداً وتتنوع فيها الأسعار إذ تختلف المراجعة الترويجية وفقاً لمستوى الفيديو ومدته، وهل هو فيديو خاص منفصل أم يأتي ضمن جولة كاملة تتضمن الدعاية لمنتجات مختلفة.
ابحث عن المتابعين
ومن جهته يشرح متخصص الإعلام الرقمي والتسويق الإلكتروني بالجامعة الأميركية بالقاهرة فادي رمزي مجموعة من العوامل التي أضرت بسمعة هذه النوعية من المؤثرين، وفي رأيه أبرزها أن الاهتمام لا يكون بجودة ومستوى المحتوى ولكنه ينصب على عدد “الفانز”، مشيراً إلى أن أي شخص يقدم خدمة سواء طعام أو غيره يبحث عن الشخص الأكثر متابعة، لضمان المشاهدات الكبيرة، ومن ثم التفاعل والاقتناع والتجريب وأي معايير أخرى تأتي في مرتبة ثانية.
وتابع “المدون الأكثر متابعة يتهافت عليه أصحاب المطاعم للترويج لمطابخهم وأطباقهم الشهيرة”، وينوه أيضاً إلى أنه لم يعد مدون الطعام يهتم كما في السابق بفكرة النظام الغذائي ومدى ملاءمة أطباق بعينها للمصابين بأنواع من الحساسيات، أو مناسبته للأطفال وكبار السن وغيره، وهنا يعود إلى بداية فكرة التدوين في عالم الأكل عموماً، قبيل انتشار “السوشيال ميديا” ومنصاتها المتنوعة وسيطرتها على يوميات الجماهير.
وذكر أن المدونين قديماً كانوا يخاطبون جمهوراً مستهدفاً محدداً مهتماً بتفاصيل الوصفات، والأنظمة الغذائية المناسبة لكل فئة سواء الرياضيين أو أصحاب أمراض معينة، وكذلك نصائح للمطاعم الملائمة للأسرة متعددة الأفراد والأذواق ويعطون معلومات وفقاً للحاجات، ثم تحوّلت تلك المدونات المكتوبة المدعومة بصور وفيديوهات بسيطة إلى محتوى منفصل قائم بذاته على السوشيال ميديا مثل “يوتيوب” و”إنستغرام” و”تيك توك”، وتدريجاً اكتسحت هذه الصورة المرئية وأصبحت متعارفاً عليها، لأنها الأكثر ملائمة لطبيعة مجال مثل الأكل، إذ يحقق مبدأ أساس وهو مشاهدة الوصفة الشهية كما هي وليس مجرد شرح نظري، وهي ميزة لم تكن متحققة في هذه الصورة المبهرة القوية فيما قبل.
من أفسد المجال؟
منذ نحو 10 أعوام تقريباً انطلقت شهرة الفنان مراد مكرم من خلال برنامج “الأكيل”، إذ عرف كأكيل يتذوق الأطباق في المطاعم ويقدم ملخصاً حول مستواها، وحقق وقتها انتشاراً كبيراً، لأن فكرة المحتوى بهذه الصورة لم تكن رائجة حينها فاستحوذ على الاهتمام، وبالتوازي معه كان يحاول عدد من نشطاء “السوشيال ميديا” تقديم تجربة مشابهة، وكان من بينهم محمد حازم الذي ترك عمله كصيدلاني ناجح وتفرع لما يحب وهو الطهي ومراجعات الأصناف المختلفة.
وأشار إلى أنه يرى أن “الفودبلوغر” الجيد هو من لديه معرفة بفنون الطهي، ومن يقدم أفكار فيديوهات متنوعة كأفضل أماكن تقدم أصناف المشاوي مثلاً أو السلطات أو السندوتشات السريعة، إضافة إلى ابتكار وصفات طعام مميزة، لكنه بعد كل هذه الأعوام في المجال أصبح يلاحظ أن هناك احتقاناً شديداً تجاه من يمارسون هذا العمل، نظراً إلى أن البعض يتعامل معهم على أنهم إما يسعون إلى تشويه مشروعات بعينها أو كل مهمتهم تتلخص في الأكل المجاني وترديد بعض الكلمات والتعبيرات المكررة على سبيل المبالغة ثم تقاضي المال، لافتاً إلى أنه قبيل فترة كورونا كان عدد مدوني الطعام محدوداً للغاية ولكن في فترة الحظر المنزلي ارتفع عددهم بصورة كبيرة، إذ كان الراغبون في تحقيق الشهرة يصورون الفيديوهات منزلياً بعد طلب خدمة توصيل الطعام.
يواجه الفودبلوغرز اتهامات بالمجاملة وعدم الصدقية
وعن فكرة اتهامه أو غيره بالمجاملة وعدم الصدقية مقابل الحصول على المال، يفسر محمد حازم ما يحدث معه قائلاً “الحقيقة أنني إذا وجدت أن مطعماً ما يقدم خدمة سيئة فلن أصنع محتوى عنه بالسلب أو بالإيجاب، لأنني ضد إفساد مشروعات الآخرين والإضرار بهم، فقد يكون هذا مجرد استثناء حدث معي بينما خدمتهم متميزة على الدوام، ولن أضر أي شخص لمجرد أن ذوقي في الأكل مختلف عما يطهيه، كما أنني أتلقى عشرات العروض لحملات دعائية شهرياً ولا أنفذ سوى عدد قليل منها للغاية بعد أن أتأكد من مستوى الأصناف وكذلك مدى ملاءمته مع الجمهور والطبقة التي استهدفها، كما أنني قبل كل شيء لم أدع أنني ناقد طعام متخصص ولا صاحب الرأي الأول والأعلى، فأنا هاو طبخ ولدي شغف بما أفعله”.
ويعود المتخصص الإعلامي الرقمي فادي رمزي ليقول إن مسألة تحقيق الربح هي التي حسمت في البداية تحول فكرة تدوين الطعام من الكتابة إلى تصوير الفيديوهات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن مصر في رأيه لديها خصوصية تتعلق بأن بها قطاعاً كبيراً من الأجيال الأصغر سناً أو من ينتمون للجيل “زد”، وهي فئة عمرية تعد المرئيات والفيديوهات والصور والأجهزة الذكية شيئاً أساسياً في حياتها، فهذه هي طبيعة يومهم وبالتالي من السهل جداً عليهم أن يكونوا مدوني طعام لأنهم يتنزهون ويتناولون أطباقهم في الخارج، وبالتالي يعيدون استغلال جزء من النزهة في صناعة فيديو سريع يحمل مراجعة لتجربتهم في الطعام ويدر عليهم المال، وتدريجاً تحول الأمر إلى مهارة عرض وتصوير وسرد مشوق وكوميدي ولطيف، وهو بعيد كل البعد من الطريقة القديمة التي كانت تعتمد على العلم وأصول التغذية، فالتفاصيل المعمقة في رأي رمزي باتت أقل بكثير.