حرية – (15/6/2024)
يعرف حتى أبسط المتابعين لتاريخ الفكر الفلسفي في العالم أن أرسطو كان تلميذاً لأفلاطون طوال سنوات من حياته كان فيها يدرس في أكاديمية ذلك الأب الشرعي للفلسفة العقلانية، لكن أرسطو لم يتبع أستاذه في أفكاره بالطبع، بل كان في معظم ما كتب نقيضاً له أو مصححاً لتلك الأفكار، إلى درجة أن خطين فلسفيين متعارضين إلى حد لا بأس به سارا على طول تاريخ الفلسفة في خطين يكادان يكونان متوازيين، ينتمي أحدهما إلى الأول وثانيهما إلى الآخر، ليصلا مثلاً إلى هيغل وكانط، ويذوبا في الفلسفات الحديثة. ونعرف هنا أن رسام عصر النهضة الكبير رافائيل جمع أرسطو وأفلاطون في نقطة المركز من لوحته الشهيرة “مدرسة أثينا” التي حضر فيها فيلسوفنا العربي ابن رشد، في من حضر من كبار مفكري التاريخ وعلمائه.
لكن رافائيل جمع الفيلسوفين الإغريقيين الكبيرين في لوحته، ليفرق بينهما فكرياً إذ حدد أحدهما أفلاطون بكونه فيلسوفاً إلهياً وفيلسوف المثل، فيما عرف الثاني أرسطو بصفته فيلسوف العقلانية والواقع وخصوصاً الأخلاق ويمكن أن نقول “الأخلاق الوضعية استناداً، مثلاً، إلى كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس”.
الفارابي جمعهما بدوره
والحال أنه إذا كان رافائيل جمع أرسطو وأفلاطون في لوحة واحدة، فإن فيلسوفاً مسلماً هو الفارابي جمعهما ليس في أي صورة وليس ليفرق بينهما ويركز على تمايزات كل واحد منهما، بل ليوحد آراءهما بعضها في بعض، وكان ذلك في كتابه التالي في الشهرة لـ”آراء أهل المدينة الفاضلة” ونعني به “كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين” الصادر في طبعات وتحقيقات عدة طوال الأعوام الـ100 الماضية.
وكان الفارابي وضعه أواسط القرن الميلادي الـ10 انطلاقاً من دهشة أبداها، في ذلك الحين وفي خضم قراءته لكتب الفلسفة اليونانية واشتغاله عليها، من أن أهل زمانه “يقولون إن بين الحكيمين اختلافاً كبيراً”.
والفارابي يقول لنا في “كتاب الجمع بين رأيي الحكيمين”” إنه لا اختلاف جوهرياً بينهما، ويبرهن على هذا بالتفصيل المقنع، لكن المشكلة الأساسية مع هذا الكتاب تكمن في أن الفارابي استخدم لعرض آراء أرسطو كتاباً منحولاً لأرسطو، هو في الحقيقة جزء من “تاسوعات” أفلوطين كانت ترجمت إلى العربية على اعتقاد مترجميها بأنها كتاب لأرسطو.
وجوهر المشكلة هنا يكمن في أن أفلوطين صاحب “التاسوعات” كان من أصحاب النزعة الأفلاطونية لا الأرسطية، ومن هنا سيكون من المنطقي القول إن الفارابي إنما قارن جزئياً في الأقل بين أفلاطون وأفلوطين “الأفلاطوني” للبرهنة على وحدة الفكر بين أفلاطون وأرسطو.
قيمة تاريخية كبيرة
ومن هنا، إذا كان عدد كبير من المفكرين والباحثين المعاصرين بخاصة الذين اطلعوا على حقيقة الأمر ظلوا على اهتمامهم بالكتاب فإن هذا لم يكن نابعاً لديهم من اقتناع بأنه محق في موضوعه ومقارنته بل لاعتبارهم، كما يقول أحدهم وهو ألبير نصري نادر إن “لهذا الكتاب قيمة تاريخية كبرى إذ إنه يوضح لنا مدى اطلاع الفارابي على الترجمات العربية لبعض كتب الفلسفة اليونانية لا سيما كتب أفلاطون وأرسطو ولو أنه اطلع أيضاً على بعض “تاسوعات” أفلوطين من دون أن يعلم أنها له، كما أن هذا الكتاب يبين لنا كيف استخدم الفارابي هذه الترجمات في التوفيق بين رأيي الحكيمين”.
والحقيقة أن هذا التوفيق لم يكن في زمنه لهواً فكرياً أو مسألة أكاديمية خالصة بل كان وهذا هو المهم في الموضوع أمارة عن صراع فكري وديني عنيد كان قائماً، وفحواه ضرورة العقل أو الفلسفة. وهي المعركة الفكرية نفسها التي سيخوضها الإمام أبوحامد الغزالي وتحديداً ضد الفارابي وبعده ابن سينا في كتابه الأشهر “تهافت الفلاسفة” الذي يرد عليه لاحقاً ابن رشد في “تهافت التهافت”.
المعركة كلها كانت قائمة حول العقل الذي كان يربط بفلسفة أرسطو العقلانية، ومن هنا كان يهم الفلاسفة المسلمين أن يبينوا أن العقل لا يتنافى مع الدين، ولئن أتى ابن رشد لاحقاً ليفصل المقال “في ما بين الفلسفة والشريعة من اتصال”، فإن الفارابي سبقه ليجعل من تقريبه بين أفلاطون “الإلهي” وأرسطو “العقلاني” سلاحاً يحمي الفلسفة.
الفارابي يبرر تدخله
يدخل الفارابي موضوعه قائلاً “فإني لما رأيت أكثر أهل زماننا خاضوا وتنازعوا في حدوث العالم وقدمه، وادعوا أن بين الحكيمين المقدمين المبرزين خلافاً في إثبات المبدع الأول، وفي وجود الأسباب منه، وفي أمر النفس والعقل، وفي المجازاة على الأفعال خيرها وشرها، وفي كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية، أردت في مقالتي هذه أن أشرع في الجمع بين رأييهما والإبانة عما يدل عليه فحوى قوليهما ليظهر الاتفاق بين ما كانا يعتقدانه ويزول الشك والارتياب عن قلوب الناظرين في كتبهما، لأن ذلك من أهم ما يقصد بيانه، وأنفع ما يراد شرحه وإيضاحه”.
وإذ يقول الفارابي معرفاً الفلسفة هنا بأن حدها وماهيتها العلم بالموجودات بما هي موجودة، يفصل أن المسائل التي يبحثها “وهي المسائل التي يقال إن أفلاطون وأرسطو اختلفا فيها”:
حدوث العالم وقدمه
إثبات المبدع الأول ووجود الأسباب عنه
أمر النفس والعقل
المجازاة على الأفعال
كثير من الأمور المدنية والخلقية والمنطقية
ويقسم الفارابي مسائل البحث في شتى هذه الأمور على 13 فقرة، وهو بحث يقوده في نهاية الأمر إلى أن يقول “فمن تأمل ما ذكر أنه من أقاويل هذين الحكيمين، ثم لم يعرج على العناد والصراع، أغناه ذلك عن متابعة الظنون الفاسدة، والأوهام المدخولة واكتساب الوزر، بما ينسب إلى هؤلاء الأفاضل مما هم منه براء وعنه بمعزل”.
نص للدفاع عن العقل
والحال أن هذا الكتاب، على رغم تكلفه الظاهر كما يؤكد أحد محققيه ألبير نصري نادر متبعاً في ذلك نظرة تحليلية استندت إلى تهافت المقارنة أو استنادها أصلاً إلى كتاب أفلوطين المنحول، كان ذا مكانة كبيرة لأنه أكثر مما اعتبر كتاباً معرفياً أو تاريخياً، اعتبر نصاً يدافع عن العقل ليقول إنه لا يتعارض مع الشريعة، وكان هذا هو دأب كبار الفلاسفة والحكماء عهد ذاك.
ومن هنا يتسم الكتاب كما حال كل كتاب “أيديولوجي” من هذا النوع، بكثير من التأكيدات السطحية والأفكار المسبقة الساذجة، إذ إن الفارابي يعتمد فيه أحياناً، وفق تعبير نادر على “التأويل للألفاظ والمعاني أكثر من اعتماده على روح المذهب عند كلا الفيلسوفين”، ثم إنه “ضلل حين اعتمد على كتاب منحول منسوب خطأ إلى أرسطو”.
صحيح أنه يمكن القول هنا إن الفارابي الذي اعتمد في مقارنته على أربعة كتب لأفلاطون منها طيماوس و”السياسة” الذي هو أصلاً كتاب “الجمهورية”، اعتمد على كتب عدة لأرسطو كانت معروفة ومترجمة في زمنه، لكن المشكلة أنه ضرب الصفح عن معظم تلك الكتب، وعن كل ما تبديه من تمايز جذري عن فكر أفلاطون، ليركز على الاقتباس من “أثولوجيا” المنحول عن “تاسوعات” أفلوطين.
سيرة ما لـ”المعلم الثاني”
والفارابي أبوالنصر محمد بن طرخان بن أوزلغ والملقب عند العرب بـ”المعلم الثاني” على اعتبار أن أرسطو هو “المعلم الأول” ولد عام 870 في مدينة فاراب في إقليم خراسان التركي لأب فارسي الأصل وأم تركية، ومنذ صباه درس لغات عدة إلى جانب العربية الفارسية والكردية والتركية، وعند شبابه جاء بغداد التي استوطنها معظم سنوات حياته، وقرأ فيها أمهات الكتب الفلسفية، وأسهم في حياتها الثقافية ودرس على بشر بن متى قبل أن ينتقل إلى سوريا ويلتحق ببطانة سيف الدولة الحمداني في حلب.
كان الفارابي في صحبة سيف الدولة خلال حملة عسكرية له حين مات عام 950 عن عمر 80 سنة، وهو وضع طوال سنوات نشاطه الفكري كثيراً من الكتب والرسائل في شتى أنواع المعرفة، وكان معظمها شروحاً على أرسطو وجالينوس وأفلاطون.
ومن أشهر كتب الفارابي خصوصاً “آراء أهل المدينة الفاضلة” و”كتاب تحصيل السعادة” و”السياسات المدنية” و”إحصاء العلوم” لا سيما “كتاب الموسيقى الكبير” وغيرها.