حرية – (23/6/2024)
لنبات القات في إثيوبيا تاريخ حافل، على رغم أنه لم يُعرف زمن محدد لاكتشافه لكن بعضهم يردونه إلى الروحانيات والذكر والعبادة وينسبونه إلى الصالحين، ومنهم من يرجعه إلى نبي الله الخضر عليه السلام أو ينسبه إلى الرجل الصالح ذي الكفل الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، ويقال عن أول استخدام له كان لدى الفراعنة المصريين بوصفه وسيلة لإطلاق أخيلتهم.
وفي الإطار التاريخي القريب ترجع المصادر اكتشافه إلى القرن الـ13 الميلادي، ويقول المدير السابق لجامعة أفريقيا العالمية والمختص في الشأن الأفريقي حسن مكي محمد أحمد، إن “تاريخ القات في إثيوبيا قديم، وفي كتاب (فتوح الحبشة في بداية القرن الـ15) عن سيرة القائد الحبشي أحمد بن إبراهيم القران، ورد أن (جيش القران) في حروبه ضد الأحباش كان يمر بمروج من نبات القات يرتع فيها جنوده، فإذا كان أحمد القران قد قتل عام 1532 وفق المصادر التاريخية، فذلك يعني أن القات ربما كان معروفاً ومستخدماً منذ أكثر من 1000 عام”.
هناك من يقول إن جلسات تخزين القات بالنسبة إلى الشباب لها فوائد على رغم عيوبه من تبذير للمال وضياع للوقت
ونبتة القات مسببة لحال النشاط الفوري والتنبه والنشوة ويصاحب ذلك فقدان للشهية، كما تسبب لبعض متعاطيها ارتفاعاً في ضغط الدم وتسارعاً في نبضات القلب، وصنفته منظمة الصحة العالمية منذ عام 1973 مخدراً من المستوى المتوسط، أي أقل عن غيره في القوة والإدمان.
ويأتي القات في إثيوبيا حالياً في مقدمة الصادرات، وترسله إثيوبيا إلى عدد من الدول مثل الصومال وكينيا وتنزانيا وجيبوتي واليمن، كما يهرب إلى بلدان أخرى في أوروبا وأميركا وآسيا، وتشير مصادر إلى أنه ما بين عامي 2019 و2022، شكل دخله للدولة نحو 10 في المئة من قيمة الصادرات، بحسب أرقام البنك المركزي، وفي موسم 2022- 2023 بلغ ستة في المئة بما يعادل 217.17 مليون دولار.
وتمثل الزراعة بالنسبة إلى إثيوبيا 81 في المئة من الصادرات وحوالى 40.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
عون على الذكر
يقول الشيخ حسين الصوفي، “عرف تناول القات في إثيوبيا داخل أوساط المسلمين لدى الشيوخ وكبار السن وارتبط في البداية بالأجزاء الشرقية من البلاد، لينتشر أخيراً في معظم أنحاء إثيوبيا ويجتمع على جلساته المسلمون في المناسبات الخاصة والدينية ولقاءات الأهل والأقارب في الأفراح والأتراح.
ويضيف “كثير ينتظمون يومياً أو أسبوعياً في جلساته ليعينهم على الذكر وأداء الصلوات، وقد اعتاد المسلمون تخزينه (مضغه والاحتفاظ به على إحدى جوانب الفم) خلال الأعياد، وفي موسم شهر رمضان المبارك يسهر عليه بعض حتى بزوغ الفجر، في حين يتوقف آخرون عن تناوله”.
ويتابع، “في الأوان الأخيرة أصبح انتشار القات ملحوظاً لدى كل الإثيوبيين، وانتشرت محاله من دكاكين كبيرة وصغيرة ورواكيب في مختلف الأماكن، وهناك أحياء معروفة ببيعه في العاصمة أديس أبابا مثل منطقة روندا وهيا هوليد وأولمبيا وغيرها من الأماكن، والإقبال الكبير عليه دفع إلى رفع أسعاره لتتنافس المحال في عرض عدد من أنواعه والترويج له”.
يشير عبدالرحيم يحيى أدوس من إقليم هرر، إلى أن هناك أنواعاً عدة من القات تزرع في الوديان وبين التلال بالإقليم، وتنتشر المزارع على مساحات واسعة إلى جانب مناطق أخرى خارج الإقليم مثل أوداي، ووند قنت، وغرب ووسط إثيوبيا، وفي جنوب البلاد يزرع في منطقة قراقي وغيرها”.
ويوضح، “أنواع القات تأخذ مسمياتها عادة من الأماكن التي ينتج فيها مثل بلجا، ووندو، وأوداي والمناطق الشرقية من إثيوبيا مثل إقليم هررجي مشهورة بجود أصناف القات.
وهناك مناطق وأسواق معروفة لعرضه بكميات تجارية، ويساعدها في ذلك قربها من المزارع المنتجة مثل مدينتي دريدوة وأوداي وغيرهما”.
ويشير إلى أن “نبات القات سريع النمو، ويحتاج إلى كميات من المياه عند زراعته وأثناء نموه، وتكون أوراقه نضرة في حال توفر الماء بخاصة خلال موسم الأمطار، ويقطع منتوجه من السيقان الرقيقة والأوراق على ثلاث مرات خلال العام لتجدد شجرته إنتاجها من جديد، وهذا العامل في سرعة الإنتاج جعل بعض المزارعين يفضلونه في الزراعة على البن الهرري (أربيكا) الذي تشتهر به المنطقة.
أبو مسمار
أما فرحات وندسا وهو صاحب محل، فيقول إن محال القات تروج لأصناف عدة منه مثل “أبو مسمار” و”البلجا” و”متشجو” و”أوادي” و”الهرنا” و”القراقي”. وهناك عدد من المحال تعرض صنف “البلاجا” لكثرة رواده واعتدال سعره، مضيفاً أن “المحال الكبيرة لترويج القات معروفة بزبائنها الذين يدفعون بسخاء، وكثير من المتعاطين له لا يشغلهم سعر القات أكثر مما يشغلهم الصنف الذي يحقق لهم المزاج (المرغنة) وفق مصطلح المتعاطين”.
صنفته منظمة الصحة منذ عام 1973 مخدراً من المستوى المتوسط، أي أقل عن غيره في القوة والإدمان
ويوضح فرحات أن لديه زبائن خاصين يدفعون مبالغ طائلة وهؤلاء بالطبع أثرياء من طبقة التجار وأصحاب الأعمال، مشيراً إلى أنه باتت هناك محال وأماكن مجهزة لجلسات القات والتخزين تنتشر في الأحياء الراقية والشعبية، وهي مجهزة بمجالس عربية أو غير ذلك، إلى جانب ما توفره هذه المحال من متطلبات أخرى لتصبح ذات دخل منافس حتى للبارات وأماكن الشراب التقليدية.
ومن الملاحظ أن معظم المحال الشعبية في تسويق وترويج القات تديرها نساء وفتيات، سواء في العاصمة أديس أبابا أو عدد من المدن الأخرى، إذ يقمن بعرض بضاعتهن في الغالب بعد الظهر حين وصول الإنتاج الجديد، وتشتهر منطقة روندا في أديس أبابا، التي تسكنها غالبية من قومية الصوماليين والأرومو، بالأصناف الغالية الثمن، وتزدحم المنطقة بالسياح العرب بعد الظهر في حركة غير عادية للراجلين من البائعين وسيارات تتكدس في الطرقات وتتعالى أصوات منبهاتها لترويج البضاعة.
تقول إكرام نقادي (27 سنة) وهي صاحبة مفرش للعرض، إنها تستقبل يومياً ما يقدر سعره بـ10 آلاف بر توزعها على زبائنها ليخلص لها نصيبها اليومي من الربح، مشيرة إلى أن لها تجاراً خاصين في أماكن الإنتاج مثل غيرها من النساء البائعات يرسلون إليها يومياً كوتات متفق عليها من أصناف القات.
منافسة الشباب
بالأمس ارتبطت نبتة المزاج في إثيوبيا بالشيوخ وكبار السن، إذ يعقدون جلساته في المناسبات الدينية وغيرها متعللين بأنه ينشّط الذكر والدعاء، واليوم دخل عنصر الشباب من الجنسين منافساً للشيوخ في مضغ النبتة مما يعني تجاوزه جلسات الذكر إلى حلقات الشباب.
يقول م. ن (26 سنة) إنه اكتشف القات بواسطة أحد أصدقائه منذ أكثر من عام، وظلا يداومان على التخزين معاً خلال عطلات الأسبوع، وفي أحيان أخرى تتسع دائرة اللقاءات لتضم أصدقاء آخرين يمضون وقتاً في النقاشات البريئة والونسات أو مشاهدة مباريات كرة القدم، ومنهم من يعقدون له الجلسات بهدف التفكير في ما يشغلهم من أعمال تجمعهم، سواء في التجارة أو غيرها. وفي كل الأحوال تتكرر لقاءات التخزين بين الأصدقاء في شتى الظروف.
تعدد الزبائن أدى إلى توسع رقعة انتشار القات داخل المدن والأطراف والانتقال به إلى الأماكن السياحية
من جانبه، يقول أرقواي نصرو (32 سنة) إن جلسات وتخزين القات بالنسبة إلى الشباب لها فوائد على رغم عيوبه من تبذير للمال وضياع للوقت، مشيراً إلى أن “هناك أعمالاً إنسانية تمارسها بعض المجموعات من الأصدقاء والأقارب في تفقد بعضهم بعضاً، ومساعدة المحتاجين من الأهل وأصحاب الظروف الصعبة”.
ويضيف، “في جانب آخر تجمع مناسبات وجلسات القات عدداً من الأهل، وتتم في أحيان كثيرة مصالحات بين متخاصمين، وتحل عدداً من المشكلات بين الأهل والأصدقاء”.
توظيف المزاج
يشير التاجر فرحات وندسا إلى أن “دخول عنصر الشباب وصغار السن خلال الأوان الأخيرة بوصفهم مشترين للقات أصبح هو الغالب، إذ يشترونه على مدار الأسبوع وبسخاء، خصوصاً في الإجازات الرسمية ويومي السبت والأحد”.
ويضيف أن تعدد الزبائن أدى إلى توسع رقعة انتشاره داخل المدن والأطراف والانتقال به إلى الأماكن السياحية، إذ أصبح هناك محال عدة في مدن خارج العاصمة مثل “دكم”، و”دبرزيت”، و”نازريت” و”وندو قنت”، وغيرها من مناطق سياحية، كما أن تعاطي القات لدى بعض الشباب أصبح مرتبطاً بتدخين الشيشة، مما زاد من استهلاك القات ودخول مزاجيين جدد إلى قائمة الزبائن، وأصبح هناك عدد من الأماكن التي يرتادونها بهدف توظيف المزاج، مما يصطدم أحياناً بالقانون الذي يكافح انتشار تدخين الشيشة في أوساط الشباب.
خطر اجتماعي
يقول الباحث الاجتماعي عباس محمد كوركي، “واحد من الأسباب الرئيسة في إقبال الشباب على تعاطي القات هو الفراغ، وعدم توفر البديل الذي يشغل أوقاتهم مثل النوادي الثقافية والمكتبات العامة والأنشطة الرياضية والاجتماعية المختلفة”.
ويشير إلى أن “هناك وعياً بالطبع لتأثير القات في نشاط الفرد، فمن الملاحظ في متعاطي القات أنهم لا يتقنون ما يوكل إليهم من أعمال، على رغم ما يقال عن النشاط الزائد للمتعاطين، وذلك بسبب انشغالهم به بوصفه أولوية، لذلك تجد في الشروط غير المعلنة للتوظيف في بعض الجهات، أن يكون الشخص غير متعاطٍ للقات كشرط لتوظيفه مما يضمن لجهة العمل إقباله بكليته على المهمات المطلوبة، ومن جهة أخرى يمكن أن نؤكد أنه يتسبب في تفشي البطالة كمرض اجتماعي”.
ويضيف كوركي، “سهولة الحصول على القات في عدد من الأماكن يجعله في متناول الكبار والصغار، وهناك خطر اجتماعي يتمثل في الإدمان وزوغان العقل لبعض الضعفاء الذين أصبح القات بالنسبة إليهم بديلاً من الطعام”.
ويتابع، “من الملاحظات الواضحة أننا نجد في الأماكن التي يتوفر فيها القات أعداداً كبيرة من مختلي العقل، وهذا مؤشر خطر ومهم ينبغي أن يكون سبباً كافياً لمكافحة انتشار القات، وكان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حث المسلمين على ترك القات لما يسببه من ضياع للأموال والوقت”.
ويوضح كوركي، “هناك بالطبع معادلة صعبة في توفيق الدولة ما بين حاجتها للمال الذي يشكل فيه القات رقماً محسوباً للموازنة والحد منه لما يمثله من خطر اجتماعي على مستقبل الشباب، ولكن إذا أخضع الأمر لدرس جدي فمن الممكن أن تتوصل الدولة إلى حلول اجتماعية تحفظ مسار المجتمع من الانحراف، وتضمن كذلك الحد المعقول من الكسب الاقتصادي”.