حرية – (23/6/2024)
بأزقتها الضيقة وبيوتها التراثية ذات الشرفات الخشبية وكنائسها ومساجدها القديمة، تعد نظران والمحال السكنية الصغيرة المجاورة لها المنطقة الوحيدة في مدينة البصرة التي لم يعبث الزمن كثيراً بملامحها العمرانية، ومع قليل من الاهتمام المتأخر صارت المنطقة فسحة رحبة للأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية، وبدأت تكتسب أهمية سياحية متنامية.
صلبان ومآذن
تضفي الكنائس والمساجد المتجاورة رونقاً من نوع خاص على المنطقة، ومن منظور اجتماعي فهي شاهد على عمق التسامح الديني والتعايش السلمي، ومنها مسجد عزيز آغا الذي بناه أحد متسلمي البصرة خلال العهد العثماني، ومسجد الزهير الذي يعود لعام 1893، وجامع ذي المنارتين الذي بني عام 1878، وعلى بعد 70 متراً عنه توجد كنيسة القديسة توما التي شيدت عام 1880، وعلى مقربة منها توجد كنيسة العائلة المقدسة للسريان الكاثوليك، وكذلك تضم المنطقة كنيسة القديسة مريم العذراء للأرمن الأرثوذكس، وهي أقدم كنيسة لا تزال أجراسها تقرع في البصرة، إذ تعود لعام 1736.
وتعتبر محلة الباشا المحاذية لنظران من أقدم محال البصرة، وفي بداية السيطرة العثمانية على البصرة عام 1546 كان فيها مقر الحكومة (السراي)، وسميت بمحلة الباشا لكثرة الباشوات الذين استقروا فيها من ولاة البصرة وحكامها وأعيانها، ويربطها بنظران “جسر الغربان” الذي شُيد في 1885، واكتسب اسمه من الغربان التي كانت تحتشد حول مخازن الحبوب القريبة منه، وقد رحلت الغربان عن البصرة قبل أعوام كثيرة وبقي الجسر محتفظاً باسمه في الذاكرة الشعبية، مثلما ظلت محلة الباشا معروفة باسمها العتيق على رغم إلصاق البلدية اسماً آخر عليها.
بيوت الشناشيل
تكتسب المنطقة قيمتها الجمالية الراهنة من بيوت الشناشيل التي تجسد طرازاً معمارياً مميزاً تمتزج فيه بتجانس فنون العمارة العربية والتركية والفارسية والهندية، وهي حلقة وصل بين العمارة البصرية بطابعها القديم ونسقها الحديث، وكلمة “شناشيل” تعريب للكلمة الفارسية “شاه نشين” التي تعني الشرفة أو الشرفات البارزة من القصر التي يجلس فيها الملك، كما جاء في معجم نفيسي للأديب واللغوي الفارسي علي أكبر خان.
هذا النسق من البناء الفاخر كان محبباً لأثرياء البصرة خلال القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20، ويؤكد متخصصون أن انتشار الشناشيل خلال تلك الفترة يستند إلى مبررات موضوعية ذات خصوصية محلية، فالبصرة معروفة برخاوة تربتها وارتفاع مناسيب مياهها الجوفية، وبيوت الشناشيل خفيفة نسبياً لاعتماد بنائها أكثر على الخشب الذي كانت تنقله السفن من الهند وجنوب شرق آسيا، وكذلك مناخ البصرة اللاهب صيفاً يجعل توظيف الخشب حلاً رشيداً لمواجهة قسوة الطبيعة.
شخصيات بارزة
وكانت بيوت الشناشيل في منطقة نظران والمحال المجاورة لها مستقراً لبعض أشهر الأسر والشخصيات البصرية، ومن الذين سكنوا فيها يوسف باشا الزهير الذي تولى مشيخة الزبير عام 1822، والسياسي والقاضي مصطفى علي الذي كان وزير العدل من عام 1958 إلى 1961، والمحامي والصحافي سليمان فيضي الذي كان عضواً عن البصرة في مجلس المبعوث العثماني، ثم عضواً في المجلس النيابي العراقي خلال العهد الملكي، وكذلك بعض أفراد أسرة الصباح الكويتية ومنهم الشيخ محمد صباح المحمد الصباح.
ومن أبرز الشخصيات اليهودية التي نشأت في المنطقة رجل الدين عوفاديا يوسف الذي كان الزعيم الروحي لحزب “شاس” اليميني المتشدد، والحاخام الأكبر للـ “سفارديم” في إسرائيل حتى وفاته عام 2013.
وكانت المحلة تضم دار استراحة الملكة عالية، ملكة العراق من 1933 إلى 1939، وفيها كانت القنصلية اليونانية التي تحولت إلى مقر لدائرة الآثار والتراث، أما قصر أمير المحمرة الشيخ خزعل الكعبي فصار قصراً حكومياً للثقافة والفنون، وبيت عبداللطيف المنديل أصبح مقراً لجمعية الفنانين التشكيليين، والمنديل كان وكيل عبدالعزيز آل سعود، سلطان نجد آنذاك، كما شغل منصب وزير التجارة في أول حكومة عراقية عام 1920، ثم وزيراً للأوقاف في عام 1921، بينما تحول بيت الوجيه البصري عبدالسلام المناصير إلى مقر لاتحاد الأدباء والكتاب في البصرة.
أحداث فارقة
ولخصوصيتها الاجتماعية وأهميتها السياسية والاقتصادية والإدارية كانت نظران وتوابعها في قلب المحن والكوارث التي عصفت بالبصرة خلال القرون الثلاثة الماضية، وأفدحها الطاعون الذي اجتاح المدينة عام 1773 وفتك بعشرات آلاف البصريين، وفر منه كثيرون إلى الصحراء، ولأن المصائب لا تأتي فرادى فما إن تلاشى الوباء حتى قرر مؤسس الدولة الزندية كريم خان احتلال البصرة، وأرسل عام 1775 أخاه صادق خان على رأس جيش يضم أكثر من 30 ألف مقاتل، وأظهر البصريون على رغم قلة عددهم ووهنهم من تداعيات الطاعون تكاتفاً وصبراً في مواجهة العدوان الذي اتخذ صيغة حصار قطع سبل الحياة عن المدينة.
وعلى مدى أشهر قاسى البصريون معاناة مريرة حتى هب لنجدتهم إمام عُمان أحمد بن سعيد البوسعيدي عندما أمر بإرسال قوة بحرية تتألف من 80 سفينة مجهزة بالمدافع بقيادة قائد الاسطول العماني ماجد بن سعيد الحارثي، ونجحت القوة بعد اشتباكها مع جيش صادق خان في كسر الحصار، وإلى اليوم يستذكر البصريون بامتنان تلك النجدة العمانية الغابرة مع أن صادق خان عاد وحاصر البصرة على نحو أشد بعد مغادرة القوة العمانية، ثم دخلها صلحاً ولم ينسحب منها إلا طواعية عام 1779.
ومن الأحداث الأخرى الفارقة التي شهدتها المنطقة اغتيال حاكم مشيخة الزبير خالد باشا العون عام 1907، واغتيال مدير دائرة الأملاك (الدائرة السنّية) في البصرة منصور المناصير، ويروي الأديب إحسان وفيق السامرائي في كتابه “لوحات من البصرة” أنه “بعد اغتيال المناصير زار أمير المحمرة الشيخ خزعل الكعبي المنطقة، وأبدى استغرابه مما وقع، وطلب يد إحدى بنات المقتول لابنه الأكبر إطفاء للفتنة وتبديداً للشكوك التي كانت تحوم حوله”.
اهتمام دولي
في غضون الأعوام القليلة الماضية بادرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم الثقافة (يونيسكو) بتمويل من الاتحاد الأوربي بترميم 10 من بيوت الشناشيل التراثية في المنطقة، وتخطط لترميم بيتين آخرين ضمن “مشروع إحياء مدينة البصرة القديمة”.
وقال مدير مكتب المنظمة في البصرة المهندس قصي الخفاجي لـ”اندبندنت عربية” إن “المشروع يهدف إلى الحفاظ على بيوت الشناشيل اعتزازاً بقيمتها التراثية”، مضيفاً أن “ثمة طموحاً لإدراج بيوت الشناشيل على لائحة التراث العالمي، باعتبارها تجسد نموذجاً معمارياً فريداً، كما يتعين على السلطات المحلية جعل المنطقة منطقة حفاظ تراثي”.
جلسات فن الخشابة
ويبدو أن ترميم بعض البيوت التراثية التي تمتلكها الدولة سرّع من تحول المنطقة من منطقة منسية عمرانياً ومهملة خدمياً إلى وجهة سياحية ومركز حيوي للأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية، وتماهياً مع ذلك جرى خلال الشهر الماضي افتتاح ملتقى فني يضم معرضاً ومشغلاً للأعمال الفنية المستلهمة من التراث المحلي، وقبل ذلك شهدت المنطقة افتتاح متحف للمقتنيات التراثية، وهي “مشاريع صغيرة ذات طابع تجاري تحفز على تنشيط السياحة التراثية والتاريخية”، كما يرى رئيس نقابة السياحيين في البصرة عبدالرضا العبادي.
جهود حكومية
وتستعد دائرة الآثار والتراث لافتتاح أول متحف للشمع في البصرة داخل مقرها في منطقة نظران، وأفاد مدير الدائرة مصطفى الحصيني بأن “المتحف الجديد يجسد مشاهد لحرف ومهن تراثية وفنون شعبية متنوعة، مثل جلسات فن الخشابة وحمّام الرجال التقليدي وكتاتيب تعليم الأطفال أساسيات القراءة والكتابة، وكانت شائعة قبل انتشار المدارس النظامية”.
أما الحكومة المحلية في البصرة فهي في طور تأسيس “مركز المخطوطات والتراث البصري” الذي خصصت له أحد البيوت التراثية في المنطقة، ومن المقرر أن يحوي معرضاً دائماً حول موروث الملاحة النهرية، ومكتبة عامة تضم كثيراً من الكتب عن البصرة، لتكون أشبه بذاكرة توثيقية للمدينة عبر مراحلها الزمنية المختلفة.
ومن أهداف المركز التشجيع على تحقيق ونشر المخطوطات القديمة ذات الخصوصية البصّرية، وإقامة المعارض الفنية والندوات والمؤتمرات التي تتمحور حول التراث الثقافي.