حرية – (30/6/2024)
نشأت الحركة “الدادائيّة” أو حركة “دادا” الفنية، في زيورخ، وتحديدا، أثناء تجمّع فنيّ وقع في كاباريه ” فولتير”، أثناء الحرب العالميّة الأولى، استنكر فيه روّاد الفنّ الطلائعيّ ورائداته، ما عبّر عنه المنسّق الفنيّ يوري شتاينر، ب”إفلاس العقلانيّة”، فتولّدت خيبةُ أمل أدّت إلى ثورة على القيم الثقافيّة السائدة آنذاك، بدت من خلال أشكال فنيّة مختلفة: شعرا، ورسما، وموسيقى، وعروضا…
وسرعان ما انتشرت الروح الدادائية في أرجاء أوروبا والولايات المتحدة، ولعبت دوراً بارزاً في التمهيد للسرياليّة التي أصدر في شأنها أندريه بريتون، في باريس، عام 1924، بيانا، يعلن فيه انطلاقها .
وقد تلاشت هذه الحركة في سويسرا تدريجيّاً، رغم استمرار ظهور الحركات الفنية المستوحاة منها في الخارج، مثل حركة “الواقعيينرابط خارجي رابط خارجيالجددرابط خارجي” (رابط خارجيNouveauxرابط خارجي رابط خارجيRéalistesرابط خارجي)رابط خارجي و”الوضعيةرابط خارجي” (رابط خارجيSituationismرابط خارجي)رابط خارجي و”الحرفيةرابط خارجي” (رابط خارجيLettrismرابط خارجي)رابط خارجي و”فلوكسسرابط خارجي” (رابط خارجيFluxusرابط خارجي)رابط خارجي، وظل كاباريه “فولتير”المبدع،لعقود عديدة، يعاني الإهمال والركود، كحانة وناد للرقص، تُقام فيه من حين لآخر بعض العروض الفنيّة المُجدِّدة.
ولم يتردّد صدى الحركة، في سويسرا، من جديد، إلا بعد عقود من الزمن، لعدّة أسباب، يوضّحها يوري شتاينر، مدير متحف الفنون الجميلة في لوزان (MCBA). شارك شتاينر في تنظيم معرض دادا الشامل المميز، في متحف “لانديس موزيوم” (Landesmuseum) في زيورخ عام 2016، ويشارك في تنظيم معرض السريالية الحالي في لوزان ، تحت عنوان “اللعبة الكبرى”.
لم يبق من رائدات الدادائيّة وروّادها، بعد الحرب، في سويسرا، إلا القليل، من أمثال الكاتب الرومانيّ تريستان تزارا، المساهم في تأسيس الحركة وترويجها، وإليه يُرجع شتاينر فضل استمرار الحركة ونجاحها الفنيّ، فيقول: “لقد أطلق الآن، نظاماً تسويقياً فعالاً لنشر حركة “دادا”، ولئن كان من الطبيعيّ فهم الفنّ وتقديره عالميّا، فإنّ الفضل في ذلك يعود إلى الدادائية والسريالية في استخدام وسائل الاتّصال لتطوير الفكر الفنيّ ونشره”.
أحفاد البانك ودادا
“لم يعد سلوك الفنان أو الفنانة في زيورخ، يخضع لطقوس تقليدية مثل: شرب الخمرة، وارتداء القبّعة، والتشبّه بماكس بيل، والانتماء إلى حركة “تسورخر كونكريت” (مدرسة الفنّ التجريدي في زيورخ)، وأهمّ الحركات الفنيّة آنذاك”.
وقد نشأ الفنّ التجريديّ، نتيجة استجابة الحركات الفنيّة السويسريّة، إثر تراجع الدادائيّة، لتوجّهات الحداثة السائدة منذ ثلاثينات القرن العشرين، وحتى لأعمال الشغب الشبابية في أوائل الثمانينات. وأصبح التيارالفنيّ الأهمّ، رغم تعرّضه لانتقادات شديدة في الأوساط المحافظة.
وتطالب حركات الشغب الشبابية بإنشاء مراكزمستقلّة للفنون، عبرأشكال جديدة من وسائل الإعلام، مثل: الفيديو، وتقنية الكولاج، والملصقات الرسومية، على طريقة الحركة الدادائيّة نفسها.
يقول شتاينر: “انطلقت حركة “البانك” السويسريّة، من العفويّة في التعبير الفنيّ”، مقدِّما نموذجا على ذلك، لفنانة بيبيلوتي ريست، عازفة فرقة البانك النسائية: “الملكات المستقبليات” ( Les Reines Prochaines)، قبل أن تصبح فنانة فيديو كبيرة، في الساحة الفنيّة السويسريّة المعاصرة. ويعتبر أن وسيلة فنية جديدة مثل الفيديو، يمكنها أن تحرّر الفنانات من الشكل التقليدي، الذي كان يهيمن عليه الذكور، ويتيح لهنّ وسيلة تعبيريّة جديدة ليعبّرن عن أنفسهنّ بطرق مبتكرة ومختلفة.
إذ يمكّن ابتكار اسلوب جديد، في الأداء الفني، من بلوغ العالميّة دون مغادرة البلاد، مع الحفاظ على الطابع السويسريّ الأصيل، وحسّ الفكاهة المميّز. وذلك مثل ريست، وبيتر فيشلي، وديفيد فايس…
ويؤكد شتاينر، إجابةً على سؤال مدى أهمية السريالية في سويسرا اليوم، استمرار تأثيرها العميق في الفن السويسريّ المعاصر، رغم الإعلان الرسميّ عن أفولها عام 1969، بعد ثلاث سنوات من وفاة بريتون.
ويهتمّ التنسيق الفنيّ السويسريّ كثيرا بالسريالية، وخاصة في مجال تنظيم المعارض الفنيّة، شأن هارالد سييمان (1933-2005)، الذي شغل منصب مدير بينالي البندقية في مناسبتين، وبيس كروغر، مؤسس مجلة “باركيت”رابط خارجي (ومقرها زيورخ)، في الثمانينات، إذ يسعى هذا الجيل إلى تعزيز الاتصال الفني بين أوروبا والولايات المتحدة، عبر الأطلس. وقد واصلت كوريغر مسيرتها لتصبح من أوائل مديرات بينالي البندقية.
ويعتقد شتاينرأنّ أحداث اليوم لا تقلّ أهميّة عن تلك الحركة، مثل الحروب، والجوائح، على حدّ تعبيره، ويضيف قائلا: “إنّها لمن المفارقات أن تلهم الصعوبات بالفنون، وتحث اللحظات الحرجة على الافتكار والاعتبار، فتؤدّي إلى الحلم والأمل في غد أفضل”.
وقد ساعد شتاينر، ضمن لجنة، على الحفاظ على كاباريه فولتير، حتىّ يظلّ قائما، ولم يتحوّل عام 2002 إلى صيدلية في الطابق الأرضي، و شقق فاخرة في الأعلى.
فيقول في هذا السياق: “يُعدّ تأمين التمويل الضروريّ لضمان بقائه إنجازاً كبيراً، خاصة إذا علمنا أنّ حركة دادا كانت مُعارضة للبرجوازيّة. إلّا أنّ الحفاظ على هذا المعلم كان ضروريا، لأهميّته ماضيا ومستقبلا”.
نهج جديد
ويشير شتاينر إلى أنّه تفطّن، أثناء التحضير للمئويّة، التي اختار لها، بالتعاون مع بيير-هنري فولون، المنسق الفني المعاصر في متحفرابط خارجي رابط خارجيالفنونرابط خارجي رابط خارجيالجميلةرابط خارجي رابط خارجيبلوزانرابط خارجي (رابط خارجيMCBAرابط خارجي)رابط خارجي، “اللعبة الكبرى” عنوانا، إلى اتّخاذ،عدة معارض الفن السريالي السائد خلال المائوية المنقضية، موضوعا لها، بعضها من تنظيم السرياليين والسرياليات أحيانا،
اقتُبس هذا العنوان من مجموعة منافسة للفن السريالي لم تعمِّر طويلاً من جهة، وتكريماً لمارسيل دوشامب في ولعه بلعبة الشطرنج من جهة أخرى. ونلاحظ تكرّر بعض الموضوعات، في أعمال 60 فناناً وفنّانة معروضة (تتضمّن رموز السريالية) مثل: الغموض، والآلية*، واللاوعي. وتجدر الإشارة هنا، إلى الاهتمام الكبير بالتطورات التي قدمها سيغموند فرويد، في التحليل النفسي، فبدى تأثّر الأعمال المعروضة بأفكاره واضحا.
ويضيف شتاينر قائلا: ” يستمدّ هذا المعرض نجاحه، في نظري، من الأعمال الخالدة، التي لا شيء فيها يعبّر عن عصرها الحقيقيّ غير أُطُرها”.
* “automatism” في سياق السريالية: تقنية فنية تعتمد على إطلاق العنان للعقل اللاواعي دون تدخل من العقل الواعي أو التحكم. تُعتمد من قبل الفنانين والفنانات لإنتاج أعمال فنية بشكل تلقائي، يكون غالباً عن طريق الكتابة أو الرسم دون تخطيط مسبق، بهدف إدراك أفكار ومشاعر مخبأة في اللاوعي.