حرية – (2/7/2024)
يعد الإدمان أحد أكثر القضايا الصحية والاجتماعية المعقدة، وهي مثار جدل مستمر بين العلماء، ومتخصصي الرعاية الصحية، وصانعي السياسات؛ فبعضهم ينظر إلى الإدمان باعتباره خياراً، فيما يراه آخرون مرضاً دماغياً مزمناً.
ويقول أنصار منظور “الاختيار” بأن الإدمان ينتج عن سلسلة من القرارات السيئة، وليس عن اضطراب دماغي متأصل، وهم يعتقدون أن الأفراد لديهم السيطرة على أفعالهم، وأن الإدمان، في الأساس، مسألة اختيار تتأثر بالقيم الشخصية، والبيئة الاجتماعية، والظروف الفردية.
في المقابل، يفترض منظور “مرض الدماغ المزمن” أن الإدمان حالة طبية متجذرة في التغيرات العصبية والاستعدادات الوراثية، ويدعم هذا الرأي بحث مكثف يوضح كيف تغير المواد المسببة للإدمان وظيفة المخ، مما يؤدي إلى السلوك القهري، وفقدان السيطرة.
مقاربة جديدة للإدمان
بين هؤلاء وأولئك، تقول دراسة موسعة، صدرت في كتاب بعنوان: “مقاربة جديدة للإدمان والاختبار”، إن الإدمان لا يُمكن اعتباره مرضاً مزمناً، ولا خياراً شخصياً؛ ففي بعض الحالات القليلة فقط يمكن اعتباره مرضاً دماغياً مزمناً، إلا أنه في معظم الحالات يجب اعتباره “اختياراً متحيزاً”.
ويقول أستاذ علم الأمراض النفسية التنموية في جامعة أمستردام، راينوت ويرز، وهو مؤلف الكتاب إن اعتبار الإدمان مرضاً مزمناً يمكن أن يحد من خيارات العلاج، ويزيد من وصمة العار، كما يقول إن تصوير الإدمان على أنه مرض مزمن في الدماغ يقلل من الثقة في إمكانية التغيير الدائم، سواء في المدمن نفسه، أو في المعالج.
مفهوم الإدمان
على مر السنين، تغير مفهوم الإدمان، في كل من المجتمع العلمي وبين عامة السكان، فحتى القرن الثامن عشر، كان الإدمان يعتبر قضية أخلاقية لا يمكن “معالجتها” إلا من خلال معاقبة الفرد، وتغيرت هذه الفكرة على مر السنين، ومنذ التسعينيات، تم وصف الإدمان على أنه مرض دماغي مزمن، خاصة في الدراسات الطبية الحيوية، وعلم الأعصاب.
بعد مراجعة شاملة لتلك الدراسات، يقول البروفيسور “ويرز”، إنه رغم وجود دليل واضح على أن الدماغ يتغير استجابة لتعاطي المخدرات، وأن هذه التغييرات يمكن أن تجعل التعافي أكثر صعوبة بالفعل، إلا أن هذا لا يكفي لتصنيف الإدمان على أنه مرض دماغي مزمن.
ورغم أن الدراسات تُظهر أن الدماغ يتغير تحت تأثير الإدمان، إلا أن الدماغ يتغير خلال كثير من الأحيان خلال فترة الحياة، تحت تأثير العديد من الأنشطة المختلفة، لذا فإن السؤال هو: إلى أي مدى تكون هذه التغييرات فريدة بالنسبة للإدمان وتساهم في حدوثه؟ وكذلك مدى قدرة هذه التكيفات في الدماغ على العودة إلى طبيعتها مرة أخرى بعد الشفاء.
مرض مزمن أم خيار؟
أظهرت الأبحاث أن تعاطي المخدرات لفترة طويلة يمكن أن يؤدي إلى تغييرات كبيرة في بنية الدماغ ووظيفته، وخاصة في المناطق المتعلقة بالمكافأة، والتحفيز، والتحكم في النفس، ويمكن لهذه التغييرات أن تخلق دافعاً قوياً للاستمرار في تعاطي المواد، مما يجعل من الصعب للغاية على الأفراد الإقلاع عن المخدرات من تلقاء أنفسهم.
كما أشارت الدراسات إلى أن الوراثة تلعب دوراً مهماً في الإدمان؛ فالأفراد الذين لديهم تاريخ عائلي من الإدمان أكثر عرضة للإصابة باضطرابات تعاطي المخدرات، ما يشير إلى وجود عنصر وراثي يتجاوز الاختيار الشخصي.
ويدعو نموذج “الأمراض المزمنة” إلى العلاجات الطبية، مثل العلاج بمساعدة الأدوية، لمعالجة المشكلات العصبية الحيوية الأساسية؛ إذ يمكن أن تساعد الأدوية مثل الميثادون، والبوبرينورفين، والنالتريكسون في إدارة أعراض الانسحاب، وتقليل الرغبة الشديدة، ما يدعم التعافي على المدى الطويل.
في الوقت نفسه، تقول الدراسات العلمية التي تدعم وجهة نظر “الاختيار الشخصي” إن اعتبار الإدمان خياراً يؤكد أهمية المسؤولية الفردية، ويمكّن الناس من اتخاذ قرارات أفضل، كما يؤكد أيضاً على قدرة الأفراد على اختيار تجنب الإدمان، أو التغلب عليه من خلال قوة الإرادة، والانضباط الذاتي.
ويقول مؤيدو وجهة النظر تلك إن الإدمان غالباً ما ينشأ من التعرض لبيئات يكون فيها تعاطي المخدرات أمراً طبيعياً، أو يتم تشجيعه، ومن خلال تغيير بيئة الفرد ودائرته الاجتماعية، يمكن للأفراد تقليل خطر الإدمان.
تأثير الإدمان على الدماغ
يؤكد علم الأعصاب وجود خلل في شبكات الدماغ عند المدمنين، وتُظهر الدراسات كيف يتطور الإدمان من خلال أنظمة نفسية عصبية طبيعية لها وظائف مفيدة تطورياً.
على سبيل المثال، في المراحل الأولى من تعاطي المخدرات، يشير الدماغ إلى مكافأة قادمة، ويحفز الجهود للحصول عليها، وهي عملية “الرغبة” الطبيعية.. هذه عملية مختلفة عن “الإعجاب” بشيء ما، ورغم تطابق الاثنين عادة، فإن المواد المسببة للإدمان كالمنشطات، والمواد الأفيونية، والكحول، والنيكوتين تجعل آليات الدوبامين العصبية (رد فعل الرغبة) أقوى، حتى عندما لا يحب الشخص، أو حتى يرغب في التوقف تماماً.
هناك عملية دماغية أخرى مرتبطة بالإدمان تتضمن الانسحاب، حيث يتكيف الدماغ مع الدواء، ويجهز الجسم برد فعل مضاد يقلل من تأثيرات النشوة، ويؤدي بسهولة إلى تصاعدها، ما يعني أن هناك حاجة إلى المزيد من المادة الإدمانية لخلق التأثير المتوقع.
تشمل المناطق الدماغية الأخرى المشاركة في الإدمان شبكة تكوين العادة، والشبكة الدماغية البارزة التي تحدد ما يعتبره الأفراد مهماً، وشبكة وظائف التحكم التنفيذية التي تؤثر على التثبيط، والذاكرة العاملة.
“لذلك لا ينبغي أن يكون هناك أي خطأ: الاستهلاك المفرط للكحول على المدى الطويل له آثار سلبية على الدماغ في جميع مناطق الدماغ تقريباً، ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للمخدرات الأخرى”، يشرح “ويرز”.
معارضة اعتبار الإدمان مرضاً
على مدى العقد الماضي، تزايدت الأصوات المعارضة لنموذج أمراض الدماغ المزمنة، ويقول أصحاب وجهة النظر تلك أن الدماغ عضو يخضع لتغير مستمر، وحقيقة وجود تغييرات مرتبطة بالإدمان لا تثبت في حد ذاتها أن الإدمان مرض دماغي.
ويشير “ويرز” إلى أن النظرة إلى الإدمان باعتباره مرضاً دماغياً مزمناً، حيث يكون الانتكاس هو القاعدة، يعتمد بشكل كبير على دراسات المرضى الذين انتكسوا في معظم الأحيان بعد العلاج، ويعتقد أن العديد من الأشخاص الذين يعانون من الإدمان في مرحلة ما من حياتهم قادرون على التغلب على المشكلة، والتعافي منها بشكل كامل، من دون تلقي مساعدة طبية على الإطلاق، وهي الحقيقة التي لا تنطبق ببساطة على أمراض الدماغ التقدمية مثل الخرف، أو مرض باركنسون.
وتختلف التقديرات حسب المادة المخدرة، ولكن بالنسبة للإدمان الشائع للكحول، والتبغ، والقنب، فإن أقل من 10% من الأشخاص يعالجون من إدمانهم.
ويوضح “ويرز”: “جعل الإدمان مرضاً دماغياً ليس صحيحاً؛ فهو لا ينطوي على خيار مستهجن أخلاقياً للسلوك الإدماني، بالإضافة إلى ذلك، فإن التأثيرات الاجتماعية والبيئية التي تلعب دوراً مهماً، بشكل واضح، في خطر الإدمان يمكن أيضاً صياغتها للتأثير على الاختيارات التي يتم اتخاذها”.
أمراض الدماغ ووصمة العار
ويشير “ويرز” إلى أن أحد الدوافع للابتعاد عن نموذج أمراض الدماغ المزمنة هو الوصمة، فيما تشير الدراسات إلى أن وصف الإدمان بأنه “مرض دماغي مزمن” يقلل من درجة إلقاء اللوم على الأشخاص المدمنين بسبب مشكلاتهم، ولكنه يقود الناس أيضاً إلى رؤية الأشخاص المدمنين على أنهم نوع مختلف تماماً من الأشخاص، وأنهم خطرون ومن الأفضل الابتعاد عنهم.
بالإضافة إلى ذلك، تبين أن منظور مرض الدماغ المزمن يقلل الأمل في التعافي، سواء بين الأشخاص الذين يعانون من الإدمان أنفسهم، أو من حولهم، بما في ذلك مقدمي العلاج، وتفيد دراسات بأن هذا المنظور يؤدي إلى نهج “الكل أو لا شيء” للتعافي، حتى عندما يكون تقليل الاستخدام مفيداً.
ويقول “ويزر” إن منظور الإدمان باعتباره مرضاً دماغياً مزمناً قد يكون صحيحاً بالنسبة لمجموعة صغيرة من الأشخاص المدمنين بشدة، والذين رغم المحاولات المتكررة، غير قادرين على التوقف عن إدمانهم.
وفي هذه الحالات الاستثنائية، قد يساعد أيضاً قبول تشخيص الإدمان المزمن بدلًا من اليأس بشأنه، ولكن بالنسبة للغالبية العظمى من المدمنين، فإن صورة الأشخاص المصابين بأمراض دماغية مزمنة ليست مبررة ولا مفيدة، بحسب المؤلف نفسه.
وفقاً للبديل الذي يقترحه “ويرز” والمتمثل في اعتبار الإدمان “اختيار متحيز”، يتخذ الأشخاص قرارات بناءً على تنبؤات بعواقب أفعالهم، ويمكن أن تتأثر هذه العملية بالعلاج، وبأنواع مختلفة من التدريب المعرفي.
“خلاصة القول أن الدليل على أننا نستطيع التأثير عمداً في سلوكنا هو دليل قوي من الناحية التجريبية؛ فهو مدعوم بعدد ضخم من الدراسات، وتكون التأثيرات أقوى بالنسبة للتأثيرات غير المباشرة، على السلوك اللاحق بدلاً من الاختيار في الوقت الحالي”، يقول “ويرز”.
ويشير أستاذ علم الأمراض النفسية التنموية إلى أن هذه القدرة على توجيه السلوك نحو الأهداف المستقبلية أمر حيوي في معالجة السلوكيات الإدمانية المعاصرة، بما في ذلك استخدام الهواتف الذكية، وتناول اللحوم، وحتى محاولة الحد من تغير المناخ “فقدرتنا على توقع العواقب طويلة المدى لأفعالنا هي قدرة حاسمة على التحفيز، سواء كان ذلك للتغلب على الإدمان، أو لتغيير سلوكنا من أجل مستقبل كوكبنا”.