حرية – (8/7/2024)
أليكس دي وال
يعاني السودان حالياً من أسوأ أزمة جوع في العالم وهي من صنع الإنسان. وحتى الآن يحتاج أكثر من نصف سكان البلاد البالغ عددهم 45 مليون نسمة إلى مساعدات إنسانية عاجلة. وفي مايو (أيار) الماضي حذرت الأمم المتحدة من أن 18 مليون سوداني يواجهون “الجوع الشديد” بمن في ذلك 3.6 مليون طفل يعانون “سوء التغذية الحاد”، فيما أصبحت منطقة غرب دارفور حيث التهديد الأكبر شبه معزولة عن المساعدات الإنسانية. ويشير أحد التقديرات إلى أن ما يصل إلى خمسة في المئة من سكان السودان قد يموتون نتيجة الجوع بحلول نهاية العام.
وهذا الوضع المزري لا يرجع إلى ضعف موسم الحصاد أو نقص الغذاء الناجم عن الظروف المناخية، بل هو النتيجة المباشرة لتصرفات طرفي الحرب الأهلية المروعة في السودان. منذ أبريل (نيسان) 2023 تخوض القوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان صراعاً مدمراً مع قوات “الدعم السريع”، وهي مجموعة شبه عسكرية مدججة بالسلاح بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف باسم حميدتي. وبينما يتصارع الحليفان السابقان من أجل الهيمنة، توسل كلاهما عمداً بأساليب التجويع لتحقيق أهدافهما الحربية. وفي الواقع يعمل مقاتلو قوات “الدعم السريع” مثل الجراد البشري، فيجردون المدن والأرياف من جميع الموارد المنقولة [أي الموارد التي يمكن نقلها أو أخذها بسهولة، ويشمل ذلك الإمدادات الغذائية والماشية والمنتجات الزراعية وغيرها من السلع القيمة]. وباعتبارهم خلفاء ميليشيات الجنجويد السيئة السمعة (التي ضمت المقاتلين العرقيين العرب الذين ارتكبوا المذابح والمجاعة في دارفور بين عامي 2003 و2005 مما أسفر عن مقتل أكثر من 150 ألف مدني) هم يستخدمون هذا الأسلوب من النهب لتغذية نيران آلة الحرب الخاصة بهم. وقد قررت القوات المسلحة السودانية وهي القوة المهيمنة في حكومة السودان المعترف بها من الأمم المتحدة، أن تمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق الشاسعة من البلاد الخاضعة لسيطرة قوات “الدعم السريع”.
وفي شهر مايو الماضي قال المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان للمرة الأولى إنه يحقق في جرائم تجويع مزعومة ارتكبها طرف في أحد النزاعات المسلحة. وطلب إصدار أوامر اعتقال دولية ضد مسؤولين إسرائيليين كبار بتهمة جريمة “تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب” في قطاع غزة، مقدماً أدلة دامغة على الحرمان من الغذاء والوقود والمياه والتهديدات الموجهة إلى عمال الإغاثة، والقيود الصارمة المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية خلال الحملة الإسرائيلية هناك التي استمرت ثمانية أشهر. وإذا وافقت المحكمة على أوامر الاعتقال فقد يشكل ذلك سابقة مهمة بالنسبة إلى السودان إذ تتعرض أعداد أكبر من الناس لتكتيكات وأساليب مماثلة، وحيث لا تزال المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بولاية قضائية بموجب قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2005. وفي الـ11 من يونيو (حزيران) الجاري أعلن خان أنه يضاعف الجهود الرامية إلى إجراء تحقيق عاجل في جرائم الحرب في السودان.
ولكن حتى الآن لا يظهر مسؤولو المساعدات الدولية أية رغبة تذكر في الكشف عن الأشخاص المسؤولين عن التجويع المنهجي لأطفال السودان، وقد يذهب البعض إلى أن على الجهات الخارجية تجنب إلقاء اللوم والاتهامات إذ عليها إقناع الجنرالين نفسهما اللذين توجه أصابع الاتهام إليهما بالسماح بدخول المساعدات. وهذا نهج خاطئ. فمن غير المرجح أن يتوقف أي من الطرفين من تلقاء نفسه، فالتجويع تكتيك غير مكلف وفعال ومن دون ضغوط دولية كبيرة يتوقع الزعماء الإفلات من العقاب. وفي الواقع من المرجح أن المفاتيح التي تشرع البلاد أمام المساعدات تكمن في أيدي دول تتنافس على النفوذ في القرن الأفريقي.
لذلك، من الضروري أن تكشف الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عن أزمة الجوع المروعة في السودان على حقيقتها، باعتبارها هدفاً متعمداً تسعى إليه الأطراف المتحاربة، وأن تضغط على القوى الخارجية المؤثرة القادرة على إجبار الطرفين على إنهاء التكتيكات التي تقود هذه المجاعة. ربما فات الأوان لوقف الانزلاق إلى مجاعة، بيد أن التحرك السريع لفرض توزيع المساعدات يمكن في الأقل أن يحول دون النتائج الأكثر كارثية.
المعاناة في سبيل الغذاء
وبدأت الحرب في السودان في أبريل 2023 عندما انقلب حميدتي على البرهان حليفه السابق في المجلس العسكري الحاكم في السودان آنذاك. وقبل 18 شهراً أطاح الزعيمان العسكريان بالحكومة المدنية السودانية وسيطرا معاً على الحكومة، لكن التحالف انهار وحاول حميدتي مع قوات “الدعم السريع” التابعة له الاستيلاء على السلطة، وكانت النتيجة صراعاً مسلحاً شرساً أدى بسرعة إلى إشعال فتيل حملة تطهير عرقي شنتها قوات “الدعم السريع” في دارفور، ولا تزال متواصلة الفصول حتى يومنا هذا. وفي الوقت الحاضر تسيطر قوات “الدعم السريع” على شطر كبير من البلاد غرب نهر النيل فيما تفرض القوات المسلحة السودانية سيطرتها على الأراضي في الشرق، ولا تزال الخرطوم منطقة متنازع عليها. وتعرف قوات “الدعم السريع” بارتكاب المجازر والنهب والاغتصاب، في حين تشتهر القوات المسلحة السودانية بقصف مناطق مدنية. وحالياً تضيق قوات “الدعم السريع” الخناق على آخر موقع للقوات المسلحة السودانية في دارفور بمدينة الفاشر، مما يهدد بوقوع كارثة. وفي الأسبوع الثاني من يونيو هاجمت تلك القوات المستشفى الأخير المتبقي هناك وأغلقته.
وكان من المتوقع أن هذه الحرب ستؤدي إلى أزمة غذائية. وحتى قبل اندلاع القتال توقعت منظمات الإغاثة الدولية أن ثلث سكان السودان سيحتاجون إلى المساعدات الإنسانية عام 2023، إذ كان لا يزال هناك عدة ملايين من النازحين بسبب الحرب التي اندلعت في دارفور قبل 20 عاماً، فيما عانى كثر غيرهم بسبب الأزمة الاقتصادية المتفاقمة الناجمة عن انفصال جنوب السودان الغني بالنفط عام 2011. والآن مع اجتياح الحرب للبلاد بالكامل، انهارت كل ركائز الاقتصاد الغذائي الوطني أو أصبحت على حافة الانهيار.
وكان محصول العام الماضي في المزارع التجارية الكبرى ضعيفاً، وانخفض بسبب نقص القروض والوقود والأسمدة. علاوة على ذلك في نوفمبر (تشرين الثاني)، اجتاحت قوات “الدعم السريع” منطقة الجزيرة جنوب العاصمة التي تعد سلة غذاء السودان، ونهبت المزارع ومطاحن الأغذية والجامعة الزراعية في المنطقة. وطرد المزارعون أصحاب الأملاك الصغيرة من منازلهم وسرقت حيواناتهم وأصبحت أسواقهم الآن مهجورة. ومعظم قطعان الماشية مملوكة الآن من عصابات التجار والجنود إما بالسرقة أو بواسطة شرائها من الرعاة اليائسين بأسعار بخسة، مما يؤدي إلى احتكار تجارة التصدير المربحة، إضافة إلى ذلك توقفت شحنات القمح من أوكرانيا التي كانت تستخدم لتغذية المدن السودانية لأن الحكومة لا تستطيع تحمل كلفها، وانهار الاقتصاد الحضري مما دفع ما لا يقل عن مليون سوداني من الطبقة المتوسطة إلى البحث عن ملجأ في الخارج.
وتوقفت عمليات تسليم المساعدات الغذائية التي كانت تدعم وتعين عادة السكان النازحين الذين يعيشون في مخيمات تحولت إلى مدن عشوائية فقيرة حول بلدات دارفور. وفي غضون أسابيع قليلة سيطرح بداية موسم الأمطار تحديات إضافية. في الأعوام السابقة، كان بإمكان برنامج الأغذية العالمي تخزين الإمدادات في المناطق التي يصعب الوصول إليها. ولكن هذا العام ومع تباطؤ الطرق المؤدية إلى المناطق الريفية المتضررة بشدة أو حتى عدم إمكانية عبورها فلن تكون هناك احتياطات يمكن الاعتماد عليها. وتعد مدينة الجنينة في دارفور أبعد عن أي ميناء بحري من أية مدينة أفريقية أخرى، وحتى في أوقات السلم يستغرق وصول الشاحنات إليها أسابيع. وهي الآن تواجه احتمال العزلة التامة.
وقد تبنى كلا الجيشين التجويع كسلاح من أسلحة الحرب. ففي الأشهر القليلة الماضية وحدها تسببت قوات “الدعم السريع” في نزوح ما يصل إلى مليون شخص من سكان دارفور، ولجأ عدد كبير منهم إما إلى مدينة الفاشر المحاصرة أو إلى جبال جبل مرة، التي تسيطر عليها حركة جيش تحرير السودان وهي جماعة متمردة مستقلة. ولا توجد موارد متاحة لدعم هؤلاء اللاجئين. وسبق أن سيطرت قوات حميدتي على خزان المياه في الفاشر، وهددت بقطع إمدادات المياه عنها، ونهبت المستشفى الأخير المتبقي فيها. وفي الوقت نفسه تلعب القوات المسلحة السودانية لعبة مراوغة أكثر. لقد حرصت على أن تكون أزمة الغذاء في مناطق شرق السودان التي تسيطر عليها أقل حدة: فهذه المناطق قريبة من بورتسودان المركز الرئيس لواردات البلاد، وتريد القوات المسلحة السودانية توفير الغذاء لهؤلاء الناس هناك، ومع ذلك فهي مستعدة لترك سكان المناطق الخاضعة لسيطرة قوات “الدعم السريع” يتضورون جوعاً، وحتى لعرقلة الجهود الدولية الرامية إلى معالجة الأزمة.
لنأخذ مبادرة “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” Integrated Food Security Phase Classification، وهي معيار دولي لقياس المجاعة، يعرف باسم “أي بي سي” (IPC). بصفتها محكمة عليا معنية بالمواضيع الإنسانية، ومن المقرر أن تقوم لجنة مراجعة مسألة المجاعة التابعة لمبادرة “أي بي سي” بتقييم الوضع السوداني قريباً. لكن مجموعة عمل “أي بي سي” في السودان تخضع لسيطرة الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، ولدى القوات المسلحة السودانية مصلحة راسخة في تجنب الإعلان بصورة رسمية عن المجاعة في دارفور لأن ذلك من شأنه أن يزيد الضغط للسماح بدخول المساعدات إلى المناطق التي تهيمن عليها قوات “الدعم السريع”. ويبدو أن الأرقام الأخيرة الصادرة عن “أي بي سي” تشير إلى أن 750 ألف شخص يعيشون في وضع غذائي “كارثي”. لكن معظم الخبراء المستقلين في المجال الإنساني يعتقدون أن الوضع أسوأ من ذلك بكثير، ومن المحتمل أن تكون المجاعة بدأت بالفعل في عدة مناطق.
حتى في الأسابيع الأولى من الحرب حذرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية من أزمة وشيكة في مخيمات النازحين السودانية، ففي الخرائط الملونة المستخدمة كنظام إنذار مبكر للمجاعة غيرت الوكالة تصنيف هذه المخيمات من اللون الأصفر الذي يشير إلى “التوتر” [أو “التعرض للضغوط”، وهو الوضع الذي تحصل فيه الأسر على الحد الأدنى من الاستهلاك الغذائي الكافي ولكنها غير قادرة على تحمل بعض النفقات الأساس غير الغذائية]، إلى الأحمر الذي يشير إلى “حالة الطوارئ” [وهو وضع ترتفع فيه معدلات سوء التغذية والوفيات]. وفي الواقع في أحد هذه المخيمات، مخيم زمزم قرب الفاشر، أفاد العمال المحليون في المجال الإنساني بأن الأطفال يموتون يومياً من الجوع والعدوى. وبصورة عامة فإن 90 في المئة من الأشخاص الأكثر عرضة للخطر موجودون في دارفور وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها قوات “الدعم السريع”. وبعد مقارنة المخزون الغذائي الوطني في السودان مع الحاجات الغذائية للسكان حذر معهد كلينغنديل في لاهاي الشهر الماضي من أن نحو خمسة في المئة من السكان، أي ما يوازي 2.5 مليون شخص، قد يموتون قبل نهاية العام.
السلاح الأقل كلفة
ويبدو أن معاناة أطفال البلاد تعود بالنفع على الطرفين المتحاربين، وهذه واحدة من أقسى المفارقات في حال الطوارئ الغذائية في السودان. في الغرب يحكم حميدتي أرضاً يسودها الجوع لكن قادته يزدهرون وجنوده يحصلون على الطعام، وأولئك الذين يتضورون جوعاً هم جماعات “المساليت” و”الفور” و”الزغاوة” العرقية، التي تعرضت للتطهير العرقي على يد قوات “الدعم السريع” أو التي غزا أراضيها مقاتلو حميدتي واستولوا على كل ما يمكن سرقته أو أكله. وقد أدى الدمار الواسع النطاق الذي لحق بالمزارع ومطاحن الدقيق والأسواق والمستشفيات إلى تشويه سمعة قوات “الدعم السريع” بصورة كبيرة في أوساط شريحة كبيرة من السكان. والآن، أصبحت قوات “الدعم السريع” مستعدة للاستفادة من الوضع عبر استغلال المساعدات الغذائية بحد ذاتها كوسيلة ابتزاز، من خلال مطالبة التجار ووكالات الإغاثة برسوم عالية بالدولار، مقابل كل شاحنة تسمح لها بالمرور. وهذا يضع الجهات المانحة للمساعدات في مأزق: ما هو مستوى الدعم الذي ينبغي عليها تقديمه للمحرضين على المجاعة من أجل إطعام ضحاياهم الجوعى؟
وفي الوقت نفسه يعتقد الجيش السوداني أنه من خلال فرض المجاعة في مناطق قوات “الدعم السريع”، فإنه قد يتمكن من تدمير قاعدتها. ووفقاً لهذه النظرية مع حرمانهم من الموارد فإن المقاتلين الرحالة الذين يشكلون القوات الأساس لحميدتي سيصبح من الصعب التحكم بهم وسوف يتمردون عليه. لذلك، استخدمت القوات المسلحة السودانية سلطتها باعتبارها الحكومة المعترف بها دولياً لمنع الأمم المتحدة من إيصال شحنات المساعدات من الشرق، أي من المناطق التي تسيطر عليها عبر خطوط القتال إلى دارفور ومن الغرب، عبر الحدود التشادية مباشرة إلى الأراضي التي تهيمن عليها قوات “الدعم السريع”. ولاستثناء الوحيد الذي سمحت القوات المسلحة السودانية به هو ممر واحد إلى الفاشر، لكنه أصبح من المتعذر استعماله بسبب الهجوم العنيف الذي شنته قوات الدعم السريع. ومن المرجح أن تؤدي معركة واسعة النطاق للسيطرة على الفاشر إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين وحدوث مجاعة.
ويذكر أن عمال الإغاثة القدامى يعرفون هذه الاستراتيجيات من حروب السودان السابقة. ففي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي حاولت الخرطوم تجويع جنوب السودان، ثم أغرت الفصائل المحبطة من المتمردين للانقلاب على رفاقهم في السلاح من خلال عرض المال عليهم وإطلاق يدهم في أعمال النهب. وكان الهدف هو السيطرة على المناطق الجنوبية الغنية بالنفط والخالية من السكان، وقد أدت هذه الحملات في نهاية المطاف إلى مقتل ما لا يقل عن مليون شخص. وحتى يومنا هذا فإن الجنرالات الذين قادوا تلك الجهود يتأسفون لأن المساعدات الإنسانية الدولية أحبطت خططهم الرامية إلى إتمام استراتيجيتهم المتمثلة في استخدام التجويع كسلاح. وبدلاً من ذلك، هم يعتقدون أن شحنات الإغاثة الغذائية أصبحت بمثابة حصان طروادة المؤدي إلى انفصال جنوب السودان، فقد أبقت المساعدات الثورة على قيد الحياة، وأصبح عمال الإغاثة متعاطفين مع قضية الثوار وكانت النتيجة استقلال جنوب السودان عام 2011.
ولكن الآن بعد أن أصبحت الأخطار أكبر بكثير سيتجنب كبار قادة القوات المسلحة السودانية تكرار أخطاء الماضي. وفي ذلك الوقت كان المتمردون الجنوبيون بعيدين من الخرطوم، لكن اليوم أصبحت العاصمة على جبهة الصراع الأمامية، فكادت قوات حميدتي تجتاح المدينة العام الماضي وما زالت متحصنة هناك. ومن المؤكد أن قوات “الدعم السريع” التي لم تهزم تعد لشن هجوم جديد.
وعلى رغم الدلائل المتعددة التي تشير إلى وجود أزمة فإن الجهود الدولية الرامية إلى الحد من المجاعة لم تحرز تقدماً يذكر. وفي غضون أسابيع من بدء الحرب في العام الماضي، بدأت الولايات المتحدة والسعودية محادثات لوقف إطلاق النار بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات “الدعم السريع” في جدة. وفشل هذا الاجتماع في وقف القتال إلا أن الجانبين وقعا على إعلان للالتزام بحماية المدنيين في السودان، ووعدا رسمياً بالتوصيل الآمن للمساعدات الإنسانية واستعادة الخدمات الأساس، وحماية المدنيين وسط الصراع المستمر. ولكن منذ ذلك الحين تجاهل الطرفان هذا الإعلان، ولم تحقق مبادرات الوساطة الأخرى نجاحاً أكبر. وفي فبراير (شباط) الماضي وجهت الأمم المتحدة نداء عاجلاً لجمع 2.7 مليار دولار للسودان، لكنها لم تجمع سوى 15 في المئة من هذا المبلغ.
sudan2.jpg, by نساء وأطفال نازحون قرب الفاشر، السودان، يناير 2024
وأصبحت الشركة العائلية لحميدتي التي تحمل اسم “الجنيد” مورداً مهماً للذهب إلى الإمارات العربية المتحدة. واليوم، هناك مؤشرات تشير إلى أن الإمارات العربية المتحدة تسلح قوات “الدعم السريع” وتمولها، وهي اتهامات نفتها أبوظبي. وهذا النوع من التدخل من كلا الجانبين يعني أن أي تقدم في شأن وقف إطلاق النار سيتطلب عملاً مشتركاً تقدم عليه دول عربية.
ومع عدم وجود نهاية للحرب في الأفق، قامت جهات خارجية أخرى بصب الزيت على النار. ففي أواخر العام الماضي أرسلت إيران طائرات من دون طيار إلى القوات المسلحة السودانية في إطار جهودها لإحياء علاقاتها مع الإسلاميين السودانيين الذين يدعمون القوات المسلحة السودانية. وفي مايو اتخذت روسيا خطوات نحو التوصل إلى اتفاق مع القوات المسلحة السودانية في شأن منشأة بحرية في بورتسودان. ومع استمرار ارتباط مجموعة فاغنر شبه العسكرية التابعة لروسيا ارتباطاً وثيقاً بقوات “الدعم السريع” فإن موسكو تربطها الآن مصالح مع كلا الطرفين المتقاتلين. وفي نهاية شهر مايو عندما اتصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بالبرهان للضغط عليه من أجل حضور محادثات السلام المستأنفة في جدة، رفض البرهان بسرعة وعوضاً عن ذلك أرسل نائبه مالك عقار لعقد اجتماعات في روسيا من أجل وضع اللمسات الأخيرة على مجموعة من اتفاقات التعاون (كانت الصفقة الأساس هي الأسلحة الروسية مقابل قاعدة البحر الأحمر). ومن الواضح أن محادثات جدة التي كان من المفترض أن تسفر عن سلام شامل فشلت.
إن الأخطار الجيوسياسية المحيطة بالبحر الأحمر كبيرة، فهو الممر البحري الذي يربط بين أوروبا وآسيا، وسوف تشكل خطوط السكك الحديد المخطط لها من البحر الأبيض المتوسط إلى الخليج حلقة وصل مركزية في الممر الاقتصادي المتصور الذي سيربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
الإجراءات المطلوبة من العالم
استخدم الجنرالات السودانيون التجويع كتكتيك حربي لعقود من الزمن، بما في ذلك في دارفور. حين أدليت بشهادتي كشاهد خبير في القضية الأولى التي حوكم فيها أحد أفراد ميليشيات الجنجويد بتهمة ارتكاب جرائم حرب أمام المحكمة الجنائية الدولية قبل عامين، سلطت شهادتي الضوء على هذا التكتيك باعتباره عاملاً حاسماً. وفي الحرب الحالية يستخدم المتحاربون هذه الاستراتيجية في صراعهم من أجل السيطرة على البلد بأكمله، مما يعرض مزيداً من الأرواح للخطر. ومما يزيد من قسوة هذه المأساة الوشيكة هو حقيقة أنه يمكن إنقاذ أرواح عديدة بإلزام [المقاتلين] بإيصال المساعدات إلى من هم في أمس الحاجة إليها.
ومن المشجع أن التصميم المتزايد على محاكمة تجويع المدنيين باعتباره جريمة حرب يشي بأن المسؤولين الدوليين وزعماء العالم ربما أصبحوا أخيراً على استعداد لمحاسبة الجناة. في الـ11 من يونيو الماضي أعلن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية خان أنه يجمع الأدلة على الهجمات “المتكررة والموسعة والمستمرة” ضد المدنيين في دارفور. وعلى رغم أنه لم يذكر جرائم التجويع تحديداً فإنه يعرف جيداً من يرتكبها وكيف. إن مجرى العدالة بطيء، ولكن حان الوقت لتوجيه تحذيرات لأولئك الذين يتسببون في أزمات الجوع في السودان. وإذا تحركت المحكمة الجنائية الدولية واتخذت إجراءات في هذا الصدد، فيتعين على العالم أن يتحد لدعمها.
ولكن حتى لو قررت المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال رسمية، فقد يكون الأوان قد فات لمنع عشرات الآلاف من الأطفال في السودان وكردفان المجاورة من الموت جوعاً. وهناك حاجة ماسة إلى حلول فورية على وجه السرعة. خلال المجاعة التي شهدتها إثيوبيا في ثمانينيات القرن الـ20 فإن بوب غيلدوف وهو المغني الإيرلندي الذي نظم حفلة “لايف آيد” Live Aid، ناشد المجتمع العالمي “إطعام الجوعى حول العالم”. وفي ذلك الوقت كانت الحكومة الشيوعية في إثيوبيا تشن حرب تجويع ضد المتمردين في إريتريا وتيغراي. وبعد أن تعرض الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف للضغط من أجل اتباع مبدأ الرئيس الأميركي رونالد ريغان بأن الطفل الجائع لا يعرف السياسة، أصدر تعليماته في نهاية المطاف إلى إثيوبيا بالسماح بتسليم مساعدات سرية تنظمها الولايات المتحدة عبر خطوط المعركة.
إن أوان المبادرة إلى خطوات حلول بدأ ينفد، وتعمل إيران وروسيا بالفعل على تعقيد الوضع الجيوسياسي للحرب، وسوف تؤدي المجاعة المتكشفة إلى مفاقمة الفوضى. لكن في الوقت الحالي لا تزال هناك فرصة لمنع حدوث أسوأ النتائج. وبضغط من واشنطن يمكن للسعودية والإمارات العربية المتحدة أن تأخذا زمام المبادرة في إيصال المساعدات الغذائية إلى حيث تشتد الحاجة إليها.
*أليكس دي وال هو المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي.