حرية – (15/7/2024)
يعدّ اختراع النظارات خطوة حاسمة إلى الأمام في التاريخ الثقافي للبشرية، فهو أحد أهم الاختراعات منذ أن اكتشف البشر النار وابتكروا الكتابة، إذ تمكن ملايين الأشخاص ممن لديهم مشكلات في الإبصار من التمتع برؤية جيدة، وباتوا قادرين ليس على القيام بدور نشط في الحياة اليومية فحسب، بل أيضاً على الدراسة لفترة أطول وتوسيع معارفهم ثم نقلها إلى الآخرين.
فضل ابن الهيثم
كان العالم العربي ابن الهيثم (965-1040) أول من درس عدسة العين وأقسامها وتشريحها ورسمها وأطلق عليها أسماء أخذها الغرب أو ترجمها إلى مختلف لغاته، ومنها القرنية (Cornea) والخلط الزجاجي (Vitreous Humour) والشبكية (Retina) والخلط المائي (Aqueous Humour)، وهو أيضاً أول من توصل إلى أن الزجاج المصقول قد يساعد شخصاً يعاني ضعف الإبصار.
بعد تجارب عدة باستخدام أجهزة خاصة من العدسات والمرايا، وضع ابن الهيثم أفكاره الجديدة حول الضوء والرؤية في كتابه “المناظر” المكون من سبع مجلدات، وقال إن الأشياء المرئية التي نراها من خلال انكسار الضوء عبر المواد السميكة مثل الماء والزجاج تظهر أكبر من حجمها الحقيقي.
تعود صناعة النظارات لعام 1280، وكان أول من صنعها الفيزيائي الإيطالي سالفينو دويلي أرماتي
كان لنقاش ابن الهيثم حول كيفية استخدام العدسات المحدبة لإنشاء صور مكبرة للأشياء دور فاعل في اختراع النظارات التي حلت سريعاً محل ما كان يسمى “أحجار القراءة” في إيطاليا خلال القرن الـ13 الميلادي، وهي العدسات نصف الكروية المصنوعة من الزجاج أو البلور الصخري التي تكبّر الحروف عند وضعها فوق المخطوطة، ويعتقد العلماء بأن من المحتمل أن الإطار المفاهيمي الأساس الذي أدى في النهاية إلى نظرية يوهانس كيبلر (1571 – 1630) للصورة الشبكية كان الفضل فيه يعود لإنجازات ابن الهيثم.
فكرة عربية وصناعة إيطالية
لم يتم تطبيق فكرة ابن الهيثم باستخدام أجزاء من كرة زجاجية للتكبير البصري إلا بعد أعوام عدة حين تُرجم كتابه إلى اللاتينية في 1240 ووجد طريقه إلى قرّاء من المجتمعات الرهبانية، وهنا أصبحت أفكار ابن الهيثم حقيقة واقعة، فخلال القرن الـ13 طوّر الرهبان الإيطاليون عدسة شبه كروية مصنوعة من الكريستال الصخري والكوارتز، وعند وضعها على قطعة من الكتابة تكبّر الحروف، فكان “حجر القراءة” هذا نعمة حقيقية لكثير من الرهبان الأكبر سناً الذين يعانون طول النظر الشيخوخي وحسّن بصورة ملحوظة نوعية حياتهم.
ظهرت النظارات التي نراها ونرتديها اليوم في نهاية المطاف في بداية القرن الـ18
وفي حين ساعدت أحجار القراءة الناس على الرؤية اليومية، فإنها كانت لا تزال بعيدة كل البعد من النظارات، وتعود صناعة النظارات الطبية لعام 1280، وكان أول من صنعها الفيزيائي الإيطالي سالفينو دويلي أرماتي، إذ تعرض أثناء قيامه ببعض تجاربه العلمية لضرر شديد في عينيه أفقده القدرة على رؤية الأغراض بوضوح، ففكر في صنع شيء يمكّنه من الرؤية بطريقة أفضل، وما كان منه إلا أن صمم زوجاً من العدسات الزجاجية، وجرب النظر من خلالهما إلى الأشياء حوله ليجد أنه يرى بوضوح أكبر، مما دعاه إلى إخبار جيرانه وأصدقائه بما توصل إليه، ثم ما لبث اختراعه أن انتشر ليس في مدينته وحدها، بل في إيطاليا كلها.
جزيرة الزجاج السري
كانت بداية صناعة الزجاج في البندقية، لكن عام 1291 ونظراً إلى اندلاع الحرائق المدمرة المتكررة التي أشعلتها أفران تصنيع الزجاج في هذه المدينة المبنية بمعظمها من الخشب، أمر المجلس الأعظم في البندقية بنقل جميع الأفران المستخدمة في تصنيع الزجاج إلى جزيرة مورانو، وهي جزيرة صغيرة تقع إلى الشمال من البندقية، واعتبرت لفترة طويلة مركزاً لتصنيع الزجاج.
ولم يجرِ تشارك خبرة الحرفيين في صناعة الزجاج مع الغرباء، إذ كانت التركيبات سرية للغاية، وكان يُحظر على صناع الزجاج مغادرة الجزيرة، ووصل حرصهم على مهنتهم إلى درجة كان من الممكن معها إعدام أي شخص يتم ضبطه وهو ينتهك هذه القواعد، وخلال هذه الفترة كان العالم بأسره يتطلع إلى إيطاليا لأن الزجاج الأبيض اللازم للحصول على المساعدات البصرية لم يكُن ينتج إلا في مصانع زجاج مورانو.
وعلى رغم كل جهود صانعي الزجاج، لم يكن من الممكن الحفاظ على جميع أسرار صناعة الزجاج سرية، ولضمان بقاء البندقية رائدة السوق في هذا المجال، سُمح فقط لأولئك الذين يلتزمون تماماً شروط صانعي الزجاج بتصنيع “نظارات العين” بعد عام 1300، وبمرور الوقت شقت نظارات المسامير طريقها إلى ألمانيا حيث اكتشف أقدم مثال في دير فينهاوزن في الجزء الشمالي من البلاد.
تصاميم عبر قرون
في نهاية القرن الـ13 نجح صانعو النظارات في وضع عدستي زجاج داخل حلقة خشبية ذات عمود وربطهما بمسمار، وهكذا صمم أول زوج من النظارات، لكنها لم تزود بأية وسيلة لربطها برأس مرتديها، فكان عليه أن يحمل قطعة الزجاج المزدوج أمام عينيه.
مع مرور السنين، استبدل عمود الزجاج المثبت بالمسامير بقوس والإطارات الخشبية بالرصاص، وكانت النتيجة بمثابة خطوة أخرى مهمة في تطور أدوات المساعدة في الرؤية، نظارات ذات أذرع تشبه إلى حد كبير تلك التي نعرفها اليوم. واستُخدمت فيها مواد متنوعة بصورة متزايدة، وبدءاً من القرن الـ16 تم تحويل الجلود وقشور السلاحف والقرون وعظام الحوت والحديد والفضة والبرونز إلى إطارات، وكلها مواد لم يستطِع سوى الأثرياء تحمل كلفتها.
في عام 1784 ابتكر بنجامين فرانكلين عدسات ثنائية البؤرة
ظهرت النظارات التي نراها ونرتديها اليوم في نهاية المطاف في بداية القرن الـ18، وكانت إحدى فوائد “نظارات الأذن” أو “نظارات الصدغ” مقارنة بالنماذج السابقة، أنها كانت تتميز بجسر أنف وذراعين لتثبيت النظارات في مكانها عبر الأذن.
عام 1784 ابتكر بنجامين فرانكلين عدسات ثنائية البؤرة، وهي السلف للعدسات متعددة البؤر اليوم، ولهذا السبب لا تزال تلك العدسات تُعرف باسم “نظارات فرانكلين”.
تطورات العالم الرقمي
في ما بعد تحسنت النظارات الطبية إلى حد كبير في الأسواق الأوروبية والأميركية، وظهرت العدسات الملونة للمرة الأولى في الصين خلال القرن الـ12، ولم تكُن تستخدم لحماية العيون من الشمس، بل لمنع الناس من رؤية تعبيرات عيون القضاة الصينيين أثناء جلسات المحكمة.
بحلول القرن الـ20، كانت النظارات الملونة تُستخدم بصورة متزايدة لحماية أولئك الذين لديهم عيون حساسة. وفي العشرينيات أصبحت النظارات الشمسية شائعة على نحو أكبر عندما أصبح نجوم السينما من رواد الموضة، فوضعت النظارات الدائرية المصنوعة من صدفة السلحفاة التي ارتداها نجم الأفلام الصامتة هارولد لويد معياراً جديداً للموضة.
مع تطور عالم البصريات، اخترعت عام 1948 العدسات اللاصقة التي توفر وسيلة بديلة لتصحيح الرؤية بدلاً من النظارات التقليدية، وظهرت بعدها بسنوات العدسات التقدمية في 1959، مما أدى إلى تغيير وظائف النظارات، فاليوم تُصنع معظم عدسات النظارات من بلاستيك خفيف الوزن ومقاوم للكسر، وظهرت العدسات الضوئية التي تصبح داكنة اللون في ضوء الشمس وتفتح في الأماكن المغلقة للمرة الأولى في أواخر ستينيات القرن الـ20، ومنذ ذلك الحين تطورت إلى مجموعة من الألوان توفر الأناقة والحماية من الشمس.
وطوّرت نظارات الضوء الأزرق في الستينيات من القرن الـ20، لكنها لم تكتسب شهرتها حتى العقد الأول من القرن الـ21 لمكافحة التحديات البصرية الجديدة في العصر الرقمي مثل إجهاد العين من الشاشات المضيئة.