حرية – (17/7/2024)
كثيرة هي الأسباب التي أغرقت لبنان في وحول زراعة وإنتاج وتصدير المخدرات منذ أكثر من نصف قرن ولا تزال، فيما صنفت الأمم المتحدة البلاد كثالث منتج للحشيش في العالم بعد أفغانستان والمغرب، على رغم أن زراعته محظورة ويعاقب عليها القانون اللبناني بالسجن والتغريم المالي.
ووسط تحذيرات من جهات ودول عربية وغربية عدة، خلال السنوات القليلة الماضية، من تحول لبنان إلى “منصة” لتهريب المخدرات إلى أوروبا والخليج، تتزايد وبشكل ملحوظ أعداد المتعاطين ومدمنين المخدرات في لبنان، بخاصة حبوب الكبتاغون أو “كوكايين الفقراء”، فيما يرتبط ازدياد وتيرة التهريب من لبنان بالحرب السورية، إذ نقل قسم من المهربين السوريين نشاطهم إلى لبنان خلال السنوات العشر الأخيرة.
وفي هذا الإطار تكشف “اندبندنت عربية” تفاصيل ملف “المخدرات في لبنان” الذي رفع الأرشيف الوطني البريطاني السرية عنه في 27 مارس (آذار) الماضي، ويتكون من تقارير ومراسلات دبلوماسية تعود لوزارة الخارجية البريطانية، ويحمل رقم الاستدعاء FCO 93/7808.
يتضمن هذا الملف وثائق تكشف عن الأنشطة الدولية، لا سيما البريطانية منها، التي تتعلق بمكافحة المخدرات في لبنان بين 1 يناير (كانون الثاني) و31 ديسمبر (كانون الأول) 1994، والتوسع في المساحات المزروعة وطرق تهريب المخدرات ومشتقاتها في عدد من دول الشرق الأوسط منها أفغانستان وإيران وتركيا وسوريا والأردن.
ولا تغفل هذه الوثائق عن تورط الفصائل والمجموعات المتحاربة خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) بشكل مباشر في تجارة المخدرات إلى حد ما لتمويل تنظيماتها، ودعم سوريا لأنشطة المخدرات وإنتاجها بشكل مربح في المناطق الخاضعة لسيطرتها داخل لبنان.
بدايات زراعة المخدرات في لبنان
يتوقف التقرير عند أهمية موقع لبنان جغرافياً في هذه التجارة غير الشرعية، وكذلك بدايات زراعة المخدرات في الأراضي اللبنانية والاتجار بها.
رفع الأرشيف الوطني البريطاني السرية عن ملف “المخدرات في لبنان”
ومما جاء في الوثائق “يقع لبنان على الطرف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط وبجواره سوريا من الشمال والشرق وإسرائيل من الجنوب، ويقدر عدد سكانه (حينها) بـ 3.3 مليون نسمة. يوجد في البلاد العديد من الأقسام والطوائف الدينية المتنوعة، مما يجعل لبنان مزيجاً ملوناً ومتقلباً في بعض الأحيان. اللغة العربية هي اللغة الرسمية على رغم أن الفرنسية يتم التحدث بها على نطاق واسع”.
في عام 1975 اشتعلت في لبنان الحرب الأهلية بين اللبنانيين أنفسهم ومجموعات فلسطينية مسلحة، بعد سنوات من أزمات أمنية وسياسية معقدة، ووضع شرق أوسطي ترك أثره المباشر على الساحة الداخلية في لبنان.
سوريا ومخدرات لبنان
توقفت أحداث الحرب الدامية ومعاركها بين عامي 1990 و1991، واستقرت البلاد في حالة من الهدوء النسبي، إلا أن القوات السورية بقيت موجودة في جزء كبير من لبنان، ضمن قوات ردع عربية حضرت عام 1976، فيما تقول دمشق إن هذا الوجود أتى استجابة للنداءات الموجهة من المجموعات اللبنانية المناهضة للفدائيين الفلسطينيين في لبنان.
وجود القوات السورية استمر حتى عام 2005، وكان مركزاً بشكل كبير ضمن منطقة إنتاج المخدرات الخصبة في وادي البقاع، بحسب الوثائق، التي أتى فيها أن الفصائل المتحاربة في لبنان منخرطة في شكل من أشكال نشاط المخدرات لتمويل منظماتها، و “سوريا ترعى أنشطة المخدرات وتتلقى أرباحاً من إنتاجها في المناطق التي تسيطر عليها. وخلال عملية تقييم الأخطار، قدر أن منطقة عالية الخطورة في شمال لبنان (طرابلس) لا يمكن استخدامها إلا من قبل المهربين بموافقة سورية”.
منطقة عالية الخطورة في شمال لبنان (طرابلس) لا يمكن استخدامها إلا من قبل المهربين بموافقة سورية
وتضيف الوثائق أن “عمليات الإنفاذ اللبنانية تُعَرقل بشدة في المنطقة لأنها لا تملك السيطرة الشاملة على المنطقة. فيما كانت هناك مزاعم سورية كثيرة حول القضاء على المحاصيل ومصادرتها من قبل السلطات، ولكن هذه غير معترف بها من قبل السلطات اللبنانية أو دولياً من قبل وكالات مكافحة المخدرات الرئيسية”.
معالجة كوكايين أميركا الجنوبية
لطالما اعتبر لبنان مصدراً رئيسياً للمخدرات وله تاريخ طويل في إنتاج القنب (الماريجوانا، الحشيش) الموصوف بـ “الذهب اللبناني”، كما أنه منتج رئيسي للأفيون ومعالج للهيروين، وهنا تذكر الوثائق أن إنتاج الهيروين في لبنان كان يقدر في تلك المرحلة (بعد انتهاء الحرب الأهلية) بـ 6 أطنان سنوياً ولا يتأثر إلا بظروف العمل. وتضيف “يتم إنتاج الهيروين من الأفيون المزروع محلياً ومن كميات المورفين المهربة من جنوب غربي آسيا عبر سوريا وتركيا”.
دور لبنان لم يقتصر حينها على زراعة القنب وإنتاج المخدرات فقط، بل تعداه ليصبح محطة لمعالجة الكوكايين الذي يأتي من أميركا الجنوبية، هذا ما يكشفه ملف “المخدرات في لبنان”، وفيه أيضاً أن البلاد باتت منطقة إعادة شحن رئيسية للكوكايين من أميركا الجنوبية، فيما تم ضبط 60 كيلوغراماً من الكوكايين في عام 1993 في مرفأ بيروت.
معاهدة الصداقة بين سوريا ولبنان على قطاع الزراعة
في تلك الفترة، أي بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وقع الرئيسان السوري حافظ الأسد واللبناني الياس الهراوي في مايو (أيار) 1991 معاهدة صداقة بين سوريا ولبنان، تتضمن تعاون البلدين في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والزراعية والأمنية والعلمية، وغيرها. وكذلك تتطرق إلى الوجود السوري العسكري في منطقة البقاع ومناطق أخرى “إن دعت الضرورة”.
لكن هذه المعاهدة كانت لها آثار سلبية و”خطرة”، تحدث عنها تقرير سري أعدته السفارة الألمانية في بيروت، وجاء فيه “في ما يتعلق بالقطاع الزراعي، كانت المعاهدة أكثر فائدة للسوريين. في وادي البقاع وفي مناطق جبلية أخرى من الأرض… من ناحية، يدخل العمال السوريون إلى لبنان نظراً لعدم وجود قوانين للهجرة تمنعهم من القيام بذلك. يوجد حالياً نحو 650 ألف عامل سوري في لبنان والرقم آخذ في الازدياد… لذلك يتم استبدال العمال اللبنانيين، ويترك اللبنانيون القطاع الزراعي مما يهدد الملكية العائلية على الأرض. من ناحية أخرى، تغرق (أسواق) لبنان بالمنتجات الزراعية السورية الرخيصة، التي يمكن أن تتدفق بحرية إلى البلاد. والنتيجة المحتملة هي أن القطاع الزراعي اللبناني لن يكون قادراً على البقاء على قيد الحياة”.
ويتطرق هذا التقرير إلى ما كان عليه الوضع سابقاً، ويقول إن مساحات كاملة من الأراضي الصالحة للزراعة، وبخاصة في وادي البقاع، كانت تستخدم لزراعة الحشيش أو الأفيون، بشكل علني تماماً، حيث كان يزرع على جانبي الطريق الرئيسي المؤدي من بيروت إلى بعلبك. ويضيف “وضعت التأثيرات الخارجية حداً لكل هذا النشاط، ومع ذلك فإن التعويض الذي وعد به المزارعون اللبنانيون كمكافأة على استخدام أراضيهم استخداماً بديلاً لم تكن كافية. لذلك من مصلحة الاتحاد الأوروبي أن يضمن حصول القطاع الزراعي اللبناني على بعض المساعدة وأن يتم حل الصعوبات الحالية في المستقبل المنظور من أجل منع العودة المحتملة إلى الممارسات السابقة”.
إبادة نبات الخشخاش والقنب في البقاع
ومن ضمن الجهود الدولية حينها، والبريطانية تحديداً، لمكافحة زراعة الحشيش في سهل البقاع، مشروع مشترك للأمم المتحدة ومنظمة الأغذية والزراعة بهدف القضاء على الخشخاش والقنب في وادي البقاع وتوفير دخل بديل للمزارعين، بخاصة أن تصريحات عدة خرجت في تلك الفترة عن قيادات شيعية في لبنان، كانت تدعو المزارعين للعودة للممارسات السابقة في ظل أزمة القطاع الزراعي.
مساحات كاملة من الأراضي في وادي البقاع، كانت تستخدم لزراعة الحشيش أو الأفيون
ويؤكد تقرير مديرة إدارة المخدرات والجريمة الدولية في الخارجية البريطانية الصادر في السابع من ديسمبر (كانون الأول) 1994 نجاح هذا المشروع المشترك، وفيه “قامت السلطات السورية واللبنانية بالقضاء على الخشخاش والقنب في وادي البقاع. وطلب من مكتب مكافحة المخدرات والجريمة في الأمم المتحدة UNDCP أن يضع مشروعاً للتنمية الريفية في البقاع من أجل توفير دخل بديل للمزارعين الذين كانوا يعتمدون في السابق على محاصيل الخشخاش والقنب في معيشتهم”، وقد بدأ هذا المشروع بداية عام 1994.
وتكشف برقية تحمل الرقم 557 عن توصية سفراء الاتحاد الأوروبي في بيروت بتوفير 1.4 مليون وحدة تحكم إلكترونية إلى برنامج الأمم المتحدة للمراقبة الدولية للمخدرات، للمساعدة في تمويل هذا المشروع وضمان استمراره.
وبعد سنتين وتحديداً في مارس (آذار) عام 1996، تحدثت مصادر صحافية عن نجاح مشروع مكافحة المخدرات في لبنان، وذلك نقلاً عن تقرير للأمم المتحدة حول زراعة المخدرات في المنطقة العربية. وعنونت بعض الصحف حينها الخبر بـ “لبنان لم يعد مصدر المخدرات في المنطقة” و “إيران وباكستان وأفغانستان المصدر الرئيسي للقنب الهندي”.
طلب من مكتب UNDCP أن يضع مشروعاً للتنمية في البقاع لتوفير دخل بديل للمزارعين
وفي هذا السياق، تكشف الوثائق ما قاله اللواء محمد عباس منصور، نائب رئيس الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات التابعة للأمم المتحدة، عن أن المنطقة العربية لا تشكل مصدر قلق بالنسبة لجهاز مكافحة المخدرات على الصعيد العالمي، بعد استئصال زراعة المخدرات من لبنان بشكل خاص. وأضاف منصور لدى عرض التقرير السنوي للهيئة لعام 1995، أنه بعد الحملات الناجحة للقضاء على زراعة الحشيش في وادي البقاع في لبنان في عامي 1991 و1992، لم تلاحظ أي زراعة غير مشروعة لهذا المحصول هناك. وذكر أن الهلال الذهبي الذي يضم إيران وباكستان وأفغانستان لا يزال يشكل منطقة الإنتاج الرئيسية للمخدرات.
نواب لبنانيون والدعم البريطاني لإعادة إعمار لبنان
وتتوقف الوثائق مطولاً عند محاولات برلمانيين لبنانيين التواصل مع البرلماني البريطاني دوغلاس هوغ، الذي شغل عدة مناصب رفيعة في الحكومة البريطانية قبل أن يصبح وزير الدولة للشؤون الخارجية وشؤون الكومنولث، وذلك بهدف إعادة إعمار لبنان بعد انتهاء الحرب.
ومما جاء في الوثائق “اتصل النائب إيلي سكاف ورئيس اللجنة البرلمانية للزراعة والسياحة النائب خليل الهراوي، بالسيد هوغ، الذي سأل عن اهتماماتهم الرئيسية. فتحدث الهراوي عن الصعوبات التي تواجهها الحكومة اللبنانية في الموازنة. كان هناك برنامج ضخم لإعادة الإعمار (12 مليار دولار) ولكن الإيرادات كانت غير كافية لدعمه”. وقال الهراوي إن “السلام أمر حيوي إذا أريد لعملية إعادة الإعمار أن تنجح… لبنان لا يستطيع إكمال عملية إعادة الإعمار بمفرده”. ورداً على سؤال السيد هوغ عما يمكنهم القيام به للمساعدة، رد سكاف أن لبنان يستعد لمواجهة تحديات عالم ما بعد تسوية السلام. سيحتاج لبنان إلى التركيز على السياحة والخدمات، وأيضاً في الترويج لمنتجاته الزراعية، وكذلك المساعدة في برامج استبدال المحاصيل (الخشخاش والقنب) في المناطق التي يجري فيها مكتب مكافحة المخدرات والجريمة في الأمم المتحدة عمليات إبادة المحاصيل.
حاول نواب لبنانيون التواصل مع برلماني بريطاني بهدف إعادة إعمار لبنان بعد الحرب
عودة زراعة المخدرات والاتجار بها
ما بين هذه الوثائق واليوم نحو 30 عاماً، ووضع مختلف تماماً. فعلى رغم نجاح الحكومة اللبنانية عام 1994 مدعومة من بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، في تطبيق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الهادف إلى إدخال زراعات جديدة مكان القنب الهندي في البقاع اللبناني، فإن هذا المشروع سرعان ما فشل خلال سنوات قليلة، وعاد المزارعون إلى زراعة هذه المادة المخدرة بعد تراجع حضور الدولة اللبنانية وهيبتها.
ويأتي هذا التراجع نتيجة مباشرة لمجموعة أزمات، منها الانفلات الأمني والسلاح غير الشرعي، وحضور “حزب الله” بقوة في منطقة البقاع وسيطرته على المعابر غير الشرعية مع سوريا، التي تعد من الأراضي الخصبة لزراعة الخشخاش والقنب الهندي، ناهيك عن الوضع الاقتصادي والمالي المتردي والفوضى المجتمعية.
وتشكل تجارة المخدرات وتحديداً الكبتاغون مصدر تمويل أساسياً لـ “حزب الله”، وهو ما كشفته تحقيقات صحيفة “لوبوان” الفرنسية قبل أشهر، التي قالت إن المخدرات التي يتاجر بها داعمو الحزب، قد تكون مخبأة في صناديق الأناناس أو شحنات الموز لشحنها إلى أوروبا أو إلى أميركا الشمالية، كما “أن الكوكايين الذي تمثل كولومبيا 70 في المئة من إنتاجه العالمي، أصبح اليوم المصدر الثاني لتمويل “حزب الله”.