حرية – (18/7/2024)
تحكي أسطورة يونانية قديمة قصة بروميثيوس أحد حكماء “التيتان” الذي أقدم على تعليم البشر الفنون الجميلة للحضارة لتحدي الآلهة الأولمبية بسرقة سر النار من جبال الأوليمبوس وتقديمه للبشر، فزود بذلك البشرية بمعرفة غير مسبوقة، وكان متأكداً أنهم عندما يكتشفونها سيحسنون استخدامها ويصنعون بها العجائب.
تعكس هذه الأسطورة بصورة قاطعة اهتمام الحضارة اليونانية وغيرها من الحضارات القديمة بمسألة اكتشاف النار نظراً إلى أهميتها في تغيير حياة الإنسان وأنها أكثر الإنجازات التحويلية التي حققها أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ واستفادوا منها لتعزيز الهيمنة البشرية على المعمورة.
ومثل المعالم الأخرى التي تميز المسار التطوري البشري كإتقان صناعة الفؤوس الحجرية أو إتقان ممارسات الصيد المتقدمة تطورت المعرفة اللازمة لصنع واستخدام النار والسيطرة عليها تدريجاً وتحسين تقنيات صنعها بمرور الوقت لتحدث ثورة تغير كثيراً من تفاصيل حياتنا. وقبل إتقان التحكم فيها مر البشر الأوائل بمرحلة استخدموا فيها النار المشتعلة بأسباب طبيعية كالبرق والاحتراق التلقائي، وما إلى ذلك. وفي هذه الأثناء قادهم الفضول إلى استكشاف الخصائص الغامضة للنار والبحث عن طرق لإتقان أسرارها، ووصلوا إلى مرحلة باتت فيها تشكل النواة لبعض التكنولوجيا المتقدمة.
التفسير العلمي للنار
بادئ ذي بدء لا بد لنا أن نشرح أن النار من أهم العناصر على الأرض ومصدر مهم للتطور والصمود لا يمكن استبداله، وكثيراً ما عد استخدام البشر لها بمثابة خاصية محددة للذكاء تميزنا عن الحيوانات. وهناك حاجة إلى ثلاثة مكونات رئيسة لتوليدها، فأولاً يجب أن يكون هناك وقود للحرق، وثانياً يجب أن يكون الأوكسجين متاحاً كون الاحتراق هو في الأساس عملية أكسدة تنتج الحرارة والضوء، وثالثاً يجب أن يكون هناك مصدر للحرارة أو الاشتعال يسمح بإشعال النار.
انطلاقاً من هذا التعريف العلمي المبسط يقول العلماء “لا يمكن أن نتوقع حريقاً على أرض قاحلة، إنما يجب أن تكون هناك حياة نباتية على الأرض توفر مصدراً للوقود، كما لا يمكن أن تحدث حرائق النباتات إلا بعد أن يصل مستوى الأوكسجين في الغلاف الجوي إلى نسبة 21 في المئة، ولهذا السبب نقوم بإخماد النار ببطانية أو رمل، أو عبر ضخ ثاني أكسيد الكربون عليها، أو حتى غمرها بالماء لقطع الأوكسجين”. ويعتمد دليلنا على وجود النار في السجل الأحفوري بصورة أساسية على وجود الفحم، وهنا يقول العلماء إن التعرف على أقدم حريق على كوكب الأرض كان من الفحم الموجود في الصخور التي شكلت خلال أواخر العصر السيلوري منذ نحو 420 مليون عام. وعلى رغم انتشار النباتات على الأرض في تلك المرحلة فإن تقلب مستويات الأوكسجين في الغلاف الجوي يعني أن أولى حرائق الغابات واسعة النطاق المسجلة جاءت في وقت لاحق إلى حد ما، ويعود تاريخها إلى نحو 345 مليون عام مضى، أي في العصر الكربوني المبكر.
استخدامها للمرة الأولى لدى البشر
إلى ذلك تنسب الدراسات العلمية الحديثة الفضل في اكتشاف الإنسان كيفية إشعال النار للمرة الأولى بواسطة احتكاك قطعتين من الخشب أو حجرين من الصوان إلى سلالة من البشر الأوائل عاشت خلال العصر الحجري القديم الأدنى، وهي سلالة أنتجت مجموعة رائعة من الأدوات التي تنتمي إلى ما يسمى “المجمع الصناعي الأشوليني” الذي ظهر في أفريقيا قبل 1.7 مليون سنة، بيد أن إشعال النار ليس الإنجاز الرائد الوحيد الذي يمثل فترة حكم الشعوب الأشولينية هذه التي دامت 1.4 مليون عام، إذ إنه طوال هذا الوقت صنعوا أشياء معقدة للغاية وأتقنوها، ووثقت أثرياً في صورة أدوات حجرية عظمية. وقد سهلت هذه التقنيات توسع هذه المجموعات في أوراسيا، إذ استمروا بإتقان وتنويع مجموعة الأدوات التي منحتهم مزايا التكيف وتحسين قدرتهم على التكاثر والازدهار. وبعد هذه المرحلة بمليون عام تقريباً توثق بعض السياقات الأثرية إتقان صناعة النار خارج أفريقيا، إذ تؤكد أدلة دامغة يرجع تاريخها إلى نحو 780 ألف عام في موقع “جسر بنات يعقوب” الأشوليني في وادي الأردن أن البشر الأوائل لم يشعلوا النار فحسب، بل كانوا أيضاً يطهون الأسماك. وفي الوقت نفسه في أماكن بعيدة مثل الصين وفي إطار زمني مماثل، أي منذ 600 إلى 800 ألف عام هناك دليل في موقع الكهف الأشوليني الشهير في تشوكوديان على أن الأفراد الذين ينتمون إلى سلالة آسيوية من البشر الأوائل كانوا أيضاً يقومون بإجراء تجارب ناجحة على إشعال النار والتحكم بها.
تغير نمط الحياة
وعلى رغم وجود هذه الأدلة النادرة والقديمة على اكتشاف الإنسان للنار، فإن المؤشرات إلى أن البشر الأوائل كانوا يولدون النيران ويتحكمون فيها أصبحت أكثر انتشاراً بعد نحو 400 ألف عام من نهاية المرحلة الأشولينية، ثم أصبحت أكثر تواتراً مع انتقالنا إلى العصر الحجري القديم الأوسط الأوراسي والعصر الحجري الأوسط الأفريقي، وهنا عثر عدد كبير من علماء الأثار على مساكن غالباً ما تكون في الكهوف وفيها هياكل الاحتراق أو المواقد التي يمكن التعرف عليها بسهولة.
لذا، وفي حين ينسب الفضل إلى البشر الأوائل في بدء ثورة إشعال النار في وقت ما خلال المراحل الأولى من العصر الأشوليني، فإن إنسان ما قبل النياندرتال والأشكال الأخرى من الجنس البشري، هي التي بدأت التجارب المكثفة على النار لاكتشاف إمكاناتها الهائلة. وهكذا منذ نحو 350 ألف عام، ومع التحول من العصر الحجري القديم الأدنى إلى العصر الحجري القديم الأوسط، يشير انتشار المواقد في مساحات المعيشة في عصور ما قبل التاريخ إلى تغييرات مهمة تحدث في أنماط حياة البشر.
وقد تشابك إشعال النار مع تطورات اجتماعية وسلوكية عدة أحدثت تغييرات كبيرة ستشكل مستقبل البشرية من تلك النقطة فصاعداً. وفيما تشير السجلات الأثرية التاريخية بصورة مدهشة إلى حد ما إلى أن النار لم تكن شرطاً لتوسع البشر الأوائل إلى المناطق الواقعة في خطوط العرض العليا، فإنها كانت تساعد في تسهيل قدرتهم على ترسيخ جذورهم في المناطق التي تهيمن عليها الظروف المناخية القاسية أو غير المستقرة.
أما فيما يتعلق بالصيد فكان لدى البشر الأوائل الذين يستخدمون النار مزايا هائلة مقارنة بالأنواع الأخرى من الحيوانات آكلة اللحوم التي تنافسوا معها على الموارد، كما ضمن إشعالهم النار والتحكم بها سلامة وحماية مجتمعاتهم.
تحولات جذرية
مع مرور الزمن أدرك أسلافنا أهمية قدرة النار على تحويل خصائص المواد الأخرى المتوافرة في الطبيعة، وتعلموا في النهاية استخدام النار لتحسين أسلحتهم فباشروا بذلك تسخين حجر الصوان لتحسين جودة التقطيع واستخدام مواد لاصقة محضرة بالحرارة مثل القطران والمغرة. وإضافة إلى ذلك أحدث طهي الطعام تحولاً جذرياً في النظام الغذائي للبشر الأوائل، مما قلل من احتمالية الإصابة بالأمراض البكتيرية والطفيليات الموجودة في اللحوم والمواد الغذائية الأخرى، وفتح مسارات مبتكرة نحو توسيع النظام الغذائي القديم.
ومن بين جميع التغييرات المذهلة التي أتيحت لبشر ما قبل التاريخ من خلال السيطرة على النار، ربما يكون الأكثر أهمية والأكثر صعوبة في التقييم الأثري هو التأثير الاجتماعي لها. فمع تحكمهم فيها تمكن البشر أخيراً من التخلص من الظلام الحالك والبقاء بثقة في الليل متجمعين معاً قرب المواقد التي توفر لهم الدفء والضوء والراحة، وهذا يقودنا إلى افتراض ولادة مجموعة متنوعة من الأنشطة الاجتماعية في تلك المرحلة مثل رواية القصص أو الطقوس المجتمعية الأخرى.
وفي وقت لاحق، وتحديداً خلال العصر الحجري القديم الأوسط والأعلى، استخدم أسلافنا من البشر ضوء النار للمغامرة في اكتشاف أنظمة الكهوف العميقة وأداء أنشطة طقوسية وإبداعية على جدرانها، مما جعلها تنبض بالحياة. وقرب نهاية العصر الحجري القديم، واصل البشر الأوائل استكشاف الصفات التحويلية القوية للنار، وتعلموا في نهاية المطاف الحصول على درجات الحرارة العالية اللازمة والحفاظ عليها لتحويل الطين إلى فخار، وبعد ذلك صهر خامات المعادن إلى عناصر قابلة للاستخدام، والتي من شأنها مرة أخرى إحداث ثورة في قصة حياة الإنسان على كوكب الأرض.
وبحسب عالم الآثار الأميركي أندرو سورنسن وعالم الرئيسيات البريطاني ريتشارد رانغهام، بدأ الإنسان باستخدام النار والسيطرة عليها بصورة منتظمة وواسعة النطاق قبل 7 آلاف عام فحسب، وشمل ذلك استخدامها في تطهير الأراضي لأغراض الزراعة وكأداة عسكرية في الحروب.
النار في العصر الحديث
سمحت الاستخدامات المختلفة للنار بازدهار البشر خلال التاريخ بطريقة أو بأخرى، ومن دونها لكنا مجرد نسخة عن أسلافنا البدائيين. وبما أن النار تطلق الحرارة كجزء من تفاعلها الكيماوي، فقد استخدمها البشر على مر التاريخ للتدفئة بدءاً بالتجمع حول دفء نيران المخيمات للبشر الأوائل، وصولاً إلى إنشاء تقنيات معقدة مبنية على النار كأجهزة التدفئة في المطاعم والباحات الخارجية التي تعتمد على حرق غاز البوتان لتوليد الحرارة.
ويبقى الطبخ أحد الاستخدامات الأساسية للنار، إذ طورها الإنسان لتصبح أكثر قبولاً وأماناً، وهكذا بتنا نستخدم النار لغلي الخضراوات والبيض وغيرهما من الأطعمة في الماء الساخن لتنقيتها وتليينها للاستهلاك البشري، كما أن التحميص والخبز والشواء كلها طرق يستخدمها البشر لطهي الطعام. وعندما تفكر في الحركة فإنك لا تربطها بالنار على الفور، ومع ذلك فهي أحد استخدامات النار اليومية، وذلك لأنه في منتصف القرن الـ18 تعلم البشر صنع محركات بخارية تقوم بتحويل النار (الطاقة الكيماوية) إلى طاقة ميكانيكية بحيث يقوم البخار الناتج من النار بتدوير عجلة، مما يولد حركة تتحكم بالبكرات والعجلات، وما إلى ذلك، ثم قام البشر بعدها بتشغيل القطارات القديمة بهذه الطريقة.
وفي وقت لاحق أصبحت المحركات أكثر تعقيداً مع تطور محركات الاحتراق الداخلي، وهذه نراها في السيارات على الطرقات اليوم، وتعتمد على شرارة (نار) تشعل الأوكسجين والوقود ضمن مساحة يمكن التحكم فيها. وحتى عملية توليد الكهرباء للنار دور أساس فيها، والعملية تحدث كالآتي: تحرق النار الماء مما يولد دوران المغناطيس حول الأسلاك النحاسية بسرعة عالية ويؤدي إلى توليد تيارات كهربائية، ومن ثم تسري هذه التيارات الكهربائية حول المدينة عبر أعمدة الكهرباء الموجودة في الشوارع. ولا يزال معظم أنظمة التصنيع يعتمد على الأفران للمساعدة في تطوير المنتجات، ومن الأمثلة التي يمكن أن نذكرها هنا استخدام مصانع الصلب موقداً يحرق فحم “الكوك”، إذ يحرق هذا الفرن الفحم على درجات حرارة عالية، وينتج لهباً برتقالياً أو أزرق أو بنفسجياً يذيب الفولاذ إلى سائل نقي ومرن، وبعد ذلك يشكل بالصورة المرغوبة، ثم يبرد مرة أخرى إلى حالته المعدنية الصلبة.
إضافة إلى كل ما سبق يساعد استخدام النار على تنقية المياه عبر غليها، وحتى يومنا هذا إحدى أفضل الطرق لتنقية المياه من الصنبور في منزلك هي بغليها على نار هادئة لمدة خمس دقائق.