حرية – (20/7/2024)
رشيد الخيون
قد يأتي السّؤال: تكتبون وتثيرون الضجةَ على قتل امرأة، أو مجموعة نساء، ألم يُقتل الرّجال، فلماذا قتلهنَّ يكون قضية مميزة دون الرّجال؟
نعم، القتل هو القتل، إنْ نُفّذ بالنّساء أو بالرّجال، وعند الحساب قتلى الذُّكور أكثر عدداً. فمن غير القتل في الحروب، المواجهات مع وبين المنظمات المسلحة، الدّينية وسواها، يُقتلون اغتيالاً، وموتاً في السُّجون، وإذا حسبنا القتلى منهم في العراق، بعد نيسان (أبريل) 2003، فالحساب هائل، قياساً بأعداد القتيلات من النّساء.
فحسبك قتل ثمانمئة مطالب ومطالبة – غالبيتهم من الشباب الذّكور – بالحقوق المعاشية والوطنية، وحسبوا من قتلى “الجن”، لا داعي ولا مدعي بهم، ثُكلت بهم أمهات، ورُملت نساء، زوجات وخطيبات وحبيبات، ويُتّم أطفال، وفوق هدر دمهم حاولوا تلويثهم بالتّهم الباطلة، بل القتلة عدوا أبطالاً.
لكنّ لقتل للنساء أعرافاً اجتماعيّة وقوانين رسميّة، تتبناها العشائر والحكومات معاً، تنفيذ العقوبة بهنّ بلا ضوابط وأُصول، بما يخصُ التّجاوز على العفة و(الشّرف)، وهذا يمارسه مَن يريد دفاعاً عن الفضيلة، كما هو الظّاهر، أما في الباطن فإنّ للقتل دوافعَ وأسباباً شتى، ومنها ما يتعلق بأسرار الجماعات والأفراد، التي تخترقها النّساء، ومآرب أُخر.
في ما يخص قانون الفضيلة العشائريّ، المسكوت عنه من قِبل الفقهاء، وما يعتبرونه عُرفاً بمثابة القانون، أنّ المرأة معرضة للقتل به، بيد أبيها أو أخيها أو ابن عمها، وعذر القاتل في ارتكاب جريمته الذّود عن شرفه، وهذا ما يُسمى، في العديد مِن الدّول العربيّة، بـ”غسل العار”، أو “الدّفاع عن الشّرف”، وهو يخص النّساء دون الرّجال.
لذا؛ عندما تُقتل المرأة، لأيّ سبب كان، أول التفسيرات والتكهنات تتعلق بأخلاقها وسلوكها، وكأن هذا النّوع من القتل مباحٌ، حتّى وإنْ قُتلت وهي مغتصبة، أو اغتصبها قريبها القاتل نفسه، وفي القوانين المُغتصب إذا قبل بالزّواج من ضحيته تسقط عنه العقوبة، فتصوروا فوق اغتصابها عليها القبول بالاقتران بمغتصبها، والمبرر “الستر” عليها! يجري هذا في أنظمة ومجتمعات العقد الثّالث من الألفية الثّالثة، من تاريخ البشريّة، وفي أنظمة تطرح نفسها “ديموقراطيّة”!
صدرت كتب عديدة، وعُقدت مؤتمرات لإبطال حماية مرتكبي جرائم قتل النساء غسلاً للعار؛ ولكن لم تستجب الدّول التي تشرع تلك الحماية، إلا بعض الدول التي ساوت بين الدّماء، ورفعت من قاموس عدالتها ما يسمى بـ”غسل العار”، فيُعاقب الجاني على جريمته كجريمة قتل بلا مبرر الشّرف، “النَّفس بالنَّفس”.
جمعت إحدى النّاشطات من أجل حقوق المرأة، ومن أجل إلغاء المادة (409)، من قانون العقوبات العراقيّ، التي تحمي القاتل، وأقصى عقوبة ينالها السجن ثلاث سنوات. جمعت غرائب ما يحدث، وفق عُرف “غسل العار”، منها ما يتعلق بطفلات، وما يتعلق باستغلال القاتل العُرف السائد لمآربه.
كتبت تبارك عبد المجيد: “الفتاة فاطمة (وهو اسم مستعار)، من سكنة قضاء بيجي شمال محافظة صلاح الدين، شعرت بوعكة صحية تطلبت مراجعتها لطبيبة، وبعد فحصها تبين أنّ الفتاة حامل، ولهذا السبب تم قتلها، لكنّ الصدمة كانت عندما اكتُشف أنّ التشخيص لم يكن دقيقاً، وأنّ الفتاة كانت تعاني ورماً في معدتها؛ وفي سياق الحفاظ على الشّرف، في محافظة بغداد، قتلت طفلة تبلغ من العمر ثلاث سنوات، من قبل ذويها لأنها تعرضت للاغتصاب من منتسب في وزارة الداخلية، الذي اغتصب طفلة أخرى تبلغ من العمر سبع سنوات. أما في ميسان، فبعد رفض الفتاة التنازل عن حصتها في الورث عند طلب الأخ أن تتنازل له، قام برمي مادة النّفط الأبيض عليها، محاولاً حرقها، ليدعي في ما بعد أنها جريمة الحفاظ على الشّرف” (تبارك عبد المجيد، جرائم يساندها القانون ويفلت منها الجاني، جريدة المدى العدد: 11/10/2022).
أما القتل غسلاً للعار في محافظات إقليم كردستان – العراق فأخباره كثيرة، وليس من رادع للقتلة، لأنهم محتمون بالعرف العشائري المذكور، وبالمدة القانونية المذكورة. تُنفذ المادة (409) من قانون العقوبات العراقي، مع أنّ المادة الرّابعة عشرة مِن الدّستور العراقي تقول: “إنّ العراقيين متساوون أمام القانون بغض النّظر عن الجنس”.
فما قيمة الدستور الذي لا ينفذ، ولا يجد مَن يحرص على تطبيقه؟!
إن نسيتُ فلا أنسى المرأة التي أتى بها إخوتها الثلاثة، وأنزلوها على جزرة وسط الهور، يحيط بها الماء، ووجهوا إليها بنادقهم، منفذين شرعية غسل العار بها أمام الملأ، ثم حُملت جثتها إلى مركز الشّرطة، ولم يستدع القتلة، حتّى على سبيل السؤال والاستفسار، كان ذلك في أوساط الستينيات من القرن الماضي.
جمع الكاتب والناشط، في الدفاع عن المرأة، المحامي أحمد صوان في كتابه “جرائم بذريعة الشرف” (دار ممدوح عدوان للنشر والتّوزيع)، قصصاً يشيبُ لهولها الولدان، في دراسة مُحكمة، بالمصادر والإثباتات، عن قتل النّساء في البلاد العربيّة، ومنها ما تستر القتلة فيه بالدفاع عن الشّرف، بينما الحقيقة كانت خلافاً على الميراث مع الأخت، أو الاعتداء من قِبل القريب على قريبته، باغتصابها، فيقوم بقتلها مدعياً دفاعاً عن الشّرف، كي يخفي جريمته؛ وكم من أب وأخ مارس ذلك، وقتل ابنته أو أخته، ونجا من العقوبة على جريمة مزدوجة، الاغتصاب والقتل، ناهيك بجرائم الرّجم، التي راح ضحيتها مئات النّساء إعداماً بالحجارة، وكان الرَّجم عقوبة وضعها الفقهاء، وادعوا أنها قرآنية، على أنّ آية الرّجم نُسخت تلاوة وثبتت حكماً، جرى هذا ضمن ما عُرف بعلم النّاسخ والمنسوخ.
غير أنّ الفضيحة المدوية اعتراف الجامعة العربية بهذا الحكم الجائر؛ في دائرتها القانونيّة (راجع كتابنا: العقاب والغلو في الفقه والتراث الإسلاميّ/ مركز المسبار للدراسات والبحوث، الباب الأول، الفصل الثالث: عقوبة الزّناة رجماً). غير أنّ هناك دولاً ألغت الحكم المخفف للقاتل بذريعة الشّرف، واعتبرت جريمته جريمة قتل ينزل بها القصاص، كأي جريمة قتل، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة التي أعلنت في (7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2020) إلغاء المادة (334) التي تخفف الحكم عن القاتل بذريعة الدّفاع عن الشّرف، وجاء في التغيير “إلغاء المادة التي تمنح العذر المخفف، في ما يسمى بـجرائم الشّرف، بحيث تُعامل جرائم القتل وفقاً للنصوص المعمول بها في قانون العقوبات” (صحيفة العرب 8/11/2020). أي يحاكم كقاتل بلا تمييز. تجري المطالبات في البلدان التي تعترف بغسل العار، وإعفاء القاتل من تطبيق المساواة بالدّماء، لكن العديد منها ماض في تطبيق هذا الظلم، الواقع على النّساء.
نفذت جرائم قتل بشعة بنساء خلال الحملة الإيمانيّة بالعراق، في نهاية التسعينات في بغداد، على أنهنّ مومسات، أو سمسارات، بقطع رؤوسهنّ، من قبل ميليشيا رسمية، لحفظ الفضيلة، من دون أخذ ما جنته الحروب والحصار على الوضع الاجتماعي والاقتصادي؛ ولا القسوة التي كان يُعامل بها العراقيون، في الاعتبار، لكنّ ما لا يغتفر أنّ صحيفةً عربيّة، تصدر في أوروبا، نشرت حينها، وبقلم رئيس تحريرها، بجرأة غريبة على الدّماء، مبررةً تلك المقاتل الرّهيبة دفاعاً عن العزّة والشّرف، وما حصل كان مِن حسنات ذلك النّظام.
بعد (2003) تحولت تلك الميليشيا إلى ميليشيا إسلاميّة، مارست قتل النّساء، دفاعاً عن الفضيلة، ومن أفضح المقاتل قتل (27) امرأة (تموز/ يوليو 2014)، عرضت الجثث غارقة في الدّماء، والعذر الدفاع عن الفضيلة. قتلن ولم يجر تحقيق، ولا إدانة، مع أنّ الميليشيا التي نفذت قانون الفضيلة بهنّ معروفة، ولها نواب في البرلمان، وأعضاء في مجلس الوزراء، وتسنمت وزارة لها علاقة ببناء العقل العراقي والثّقافي، كوزارتي الثقافة والتعليم العالي.
آخر المقتولات كانت غفران مهدي سوادي المعروفة بأم فهد، وقصتها غدت مشهورة، وصارت لها مسميات: نجمة “التيك توك”، و”البلوغر” أو “البلوغر”، و”الفاشيسنيستا” العراقية، نزل القاتل من سيارته في وضح النّهار، وأطلق عليها الرّصاص، هذا ما سجلته كاميرات المراقبة، وبثته الوسائل، ولا يحتاج أن يلوذ القاتل بالفرار، فهو يعرف أنه محميٌ، ولا يتجرأ هذه الجرأة، إلا الآمن مِن الملاحقة والعقوبة.
قتل قناصو المتظاهرين، وحماة الفضيلة، من النساء اللواتي شاركن في التّظاهرات، عدداً ليس قليلاً، من غير المختطفات، وصحافيات اختطفنَّ، ومنهنَّ من هربنَ إلى خارج العراق. صحيح أنَّ الرجال تعرضوا إلى أكثر من هذا، لكنَّ تهمة المرأة تصبح مزدوجة، في التظاهر أو النشاط في الحياة العامة، الخروج على القانون والخروج عن الشّرف، ويعد قانون “غسل العار” براءة من دمها، فلا حصانة لدمها، وقد تظاهرن ورفعنَ لافتة تقول: “إنهاء الإفلات من العقاب”، ورفع ترجمتها بالإنكليزية كي يرى العالم ما يحصل لهنَّ، من مختلف الجهات.
صحيح أنّ ما حصل للإيزيديات العراقيات بأيدي تنظيم “داعش” الإرهابي، مِن اغتصاب وأسر، لا يجاريه ظلم وقع على النّساء من عسف جماعي عبر التّاريخ، وهي ممارسات الغزاة عادة، تحت مبرر شرعية العبودية والتسري بالضَّحايا، لكن بشاعة قتل (27) امرأةً جريمة تحسب بحساب لك الجرائم، وهو الفعل المبرر الدّينيّ، قُتلن بإبادة جماعيّة، وقُبرنَ في أخدود جماعيّ، والمبرر الدّفاع عن الفضيلة، مع أنَّ الفساد المالي والإداري والسّياسيّ ينخر الدَّولة والمجتمع، أي الزّنا بالدَّولة ومؤسساتها علانية.
ليس أقبح ممن احتفل بقتل هذا العدد من النساء؛ ولا أقبح ممن اعتبر قتل “أم فهد” نظافة للمجتمع من الرّذيلة، مع أنّ الأسباب تعددت، والدّوافع اختلفت، منها الحرص على الأسرار الفضائح عند هذه المرأة أو تلك، أو الغرض منه إشاعة الرّعب في المجتمع، وتكريس ثقافة العنف، واستعراض القوة بتطبيق الشّريعة، بالتّظاهر بمظهر محاربة الرّذيلة، من قِبل حراس الفضيلة. هذا، ومقاتل النّساء بأيدي حُراس الفضيلة لم ولن تتوقف بوجود ميليشيات منفلتة، وقانون يدعم القتلة، كقانون “غسل العار”.