حرية – (21/7/2024)
كارين اليان ضاهر
يعشق ملايين الأشخاص من محترفين وهواة حول العالم لعبة الشطرنج التي حققت انتشاراً واسعاً في العقود الأخيرة، إذ تعتمد على ميزات عديدة للاعب، إضافة إلى الممارسة والدراسة المتواصلة، وبعد أن كانت تحقق رواجاً بين فئات معينة بدا واضحاً أن أعداد عشاقها زادت في مختلف أنحاء العالم.
وفي اليوم العالمي للشطرنج، نتساءل حول ما إذا كانت هذه اللعبة لا تزال صامدة في الأعوام الأخيرة، في ظل التطورات التكنولوجية الحديثة، وما إذا كان الاهتمام فيها قد تراجع مع ظهور تغييرات عديدة فيها؟
لعبة قديمة المنشأ
ليست هناك معلومات دقيقة حول منشأ لعبة الشطرنج ومن اخترعها، لكن ثمة اعتقاداً بأنها ظهرت أولاً في الهند قبل القرن السابع ميلادي. أما اسمها، فقد يكون مشتقاً من اسم لعبة الشطورانجا التي تعد أساس الألعاب الاستراتيجية، مثل الشطرنج الصيني والشطرنج الكوري وغيرها. آنذاك انتقلت لعبة الشطورانجا إلى بلاد فارس، ومن بعدها الدول العربية، ولاحقاً إلى إسبانيا ومنها انتشرت في أوروبا. عندها تغيرت قوانين اللعبة وظهرت بأسلوبها الحديث في أواخر القرن الـ15 قبل أن تثبت القوانين الخاصة باللعبة في القرن الـ19. في الفترة ذاتها، حصل النمسوي وليام شتاينيتز على لقب أول بطل شطرنج في العالم في عام 1886.
ومنذ عام 1948 أصبح الاتحاد الدولي للشطرنج يحدد القوانين الرسمية الخاصة باللعبة، ويدير بطولة العالم للشطرنج كهيئة دولية حاكمة للعبة، فينظم بطولات لمختلف الفئات كالأطفال والنساء والكبار، وبطولة العالم للشطرنج السريع والخاطف وأولمبياد الشطرنج، إضافة إلى بطولة العالم للشطرنج بالمراسلة، وبطولة العالم في شطرنج الحاسوب. وفي مرحلة لاحقة توافرت لعبة الشطرنج عبر الإنترنت، مما فتح باب المنافسة بين اللاعبين من محترفين وهواة، وأسهم ذلك في انتشار أكبر للعبة مع ظهور متغيرات عديدة فيها.
وجود الكمبيوتر لعب دوراً بارزاً في تطوير مهارات اللاعبين بالشطرنج
مرحلة التغيير مع الكمبيوتر
في النصف الثاني من القرن الـ20 تطورت لعبة الشطرنج على الكمبيوتر وتطورت قدرة الحاسوب على المعالجة. ومنذ عام 1990 أسهم الكمبيوتر إلى حد كبير في تطوير نظريات الشطرنج والاستراتيجيات التي تقوم عليها اللعبة. وفي عام 1997 تمكن الحاسوب للمرة الأولى من التغلب على بطل العالم في الشطرنج غاري كاسباروف. وحصلت نهضة في هذه اللعبة التي تعتمد على لوحة مكونة من 64 مربعاً باللونين الأبيض والأسود. ومع ظهور محركات الشطرنج التي يمكن تشغيلها على أجهزة محمولة على اليد زادت المخاوف من الغش في المباريات والبطولات، فهل بقيت اللعبة صامدة في ظل التطور التكنولوجي؟
أمين صندوق الاتحاد اللبناني للشطرنج واللعب الدولي علي تشاويش قال، إن الكمبيوتر يلعب دوراً أساساً في لعبة الشطرنج ولوجوده أثر إيجابي مهم للاعبين، فعندما تبرز موهبة اللاعب يساعده الكمبيوتر على تطوير مهاراته عبر متابعة تحليل الحاسوب والخطط والاستراتيجيات. في المقابل أي لاعب يغش معتمداً على الكمبيوتر يعاقب، خصوصاً أنه متوافر له للدراسة والمتابعة والمساعدة على التحليل.
وانطلاقاً من ذلك، يؤكد تشاويش أن وجود الكمبيوتر لعب دوراً بارزاً في تطوير مهارات اللاعبين بالشطرنج وجعلها أكثر رواجاً بعد. فما كان له أثر كبير على اللعبة هو الكمبيوتر لأنه يتميز بإمكانات الحفظ مع قدرة تحليل فائقة للجولة، ما يسمح بالاعتماد عليه لتعلم الاستراتيجيات لتطوير المهارات في اللعبة. وعلى رغم أنه منذ ظهور لعبة الشطرنج حصل تغيير في قواعدها، فإنها ثابتة من فترة طويلة على قواعدها.
أما حول طرق المشاركة في البطولات، فيشير تشاويش إلى أن كل شخص يشارك في مباراة مصنفة دولية يحصل على رقم دولي. هذا، فيما لا يشارك في بطولة لبنان إلا اللاعبين اللبنانيين ويمنع لأي شخص آخر المشاركة. وعندها من الممكن التأهل في التصنيفات.
يكمن سر لعبة الشطرنج في التدريب المستمر والتحليل للجولات، والمراقبة للجولات القوية، فهذا ما يساعد على تطوير الموهبة. وإضافة إلى الدراسة، يفترض باللاعب المشاركة في مزيد من المباريات لتطوير مهاراته. علماً أن لاعب شطرنج شخص يتميز بالصبر بامتياز والتأني، لما لذلك من أثر مهم على اللعبة.
انتشار اللعبة مع انتشار كورونا
حصل الانتشار الأكبر للعبة الشطرنج في فترة انتشار جائحة كورونا، وفق المدرب الدولي وصاحب أكاديمية شامية للشطرنج سيد شامية. لم يحصل ذلك على صعيد محلي فحسب، بل على مستوى العالم. في ظروف الحجر، اتجه الكل إلى لعب الشطرنج لتمضية الوقت مما أسهم في رواج اللعبة. وفي لبنان، بدأ شبان وشابات بتطوير مهاراتهم كمجموعة، وتوسعت الدائرة حتى أصبح هناك جيل من اللاعبين يصفه شامية بالرائع، وتزايدت الغيرة الإيجابية بين الأهل ليشجعوا أطفالهم على اللعب، وانتشرت اللعبة بين الراشدين أيضاً.
ولعب الاتحاد دوراً في التشجيع على اللعبة وفي اختيار لاعبين يشاركون في بطولات عالمية، فيما تشارك الأكاديمية مع أكاديميات في خارج لبنان للدمج بين المهارات في لبنان وتلك التي في الخارج، مما يساعد على انتشار اللعبة وتطوير المهارات.
أما شامية فكان يلعب منذ الطفولة مع والده الذي كان لاعب شطرنج وتعلمها منذ أعوام عديدة، لكن في ذاك الوقت لم يكن من الممكن الاعتماد على الكمبيوتر لتطوير المهارات، ولم تكن اللعبة تحظى بهذا الرواج، ومعظم الذين تعلموها سافروا إلى خارج لبنان إذ كانت تحظى بمزيد من الاهتمام. وبعد أن نقل والده إليه وإلى إخوته هذا الشغف، انتقل إلى شباب المنطقة وتوسع فيه، لكن لم تكن هناك معرفة كافية باللعبة ولم يكن الاتحاد ناشطاً آنذاك.
يقول المدرب الدولي، “شجع أحدهم والدي على مشاركتنا في إحدى المباريات، وهذا ما حصل. فزنا وبدأت مسيرتنا مع هذه اللعبة التي عشقناها. حتى إن والدي غاص أكثر فيها وأجرى دراسات ليطور مهاراتنا بصورة أفضل. وكنا نتابع البطولات العالمية لنحللها ونأخذ منها أفكاراً ومعلومات تساعدنا على النمو في هذا المجال”.
ساعدت فترة الإغلاق بسبب كورونا على انتشار اللعبة عالمياً ولبنانياً
في مرحلة لاحقة لعبت التكنولوجيا دوراً أساساً في تطوير مهارات الشباب الذين وجدوا أنفسهم يغوصون أكثر فأكثر في اللعبة التي تأخذ حيزاً مهماً من أوقات من يلعبها. استطاعوا أن يطوروا أنفسهم وتوسعت الحلقة. وبحسب شامية أسهمت التكنولوجيا إيجاباً من ناحيتين أساسيتين، إذ خففت مجال حصول خطأ بسبب الاعتماد على تحليل الكمبيوتر، كما قلصت الوقت اللازم للتحليل بما أن تحليل الكمبيوتر سريع.
هذا، ويشير إلى أن لعبة الشطرنج قد تعتمد على الحفظ في جزء منها، لكن التكرار ليس مطلوباً فيها بل ثمة عناصر عديدة لا بد من التركيز عليها للتطور. وقد يكون اللاعب ذكياً ولا يبرع فيها، لأنها تستند في الواقع بصورة أساسية على القدرة على التحليل إضافة إلى الذكاء والحفظ. فمن يتمتع بهذه المواصفات يدرك أن وضعيات معينة في اللعبة وخطوات قد لا تنجح ويجب عدم الاعتماد عليها تجنباً للفشل، كما أن عشق اللعبة من العناصر الأساسية ليبرع فيها اللاعب، إضافة إلى التدريب المستمر والتزامه الاحتراف. فمما لا شك فيه أنها لعبة تستدعي تخصيص كثير من الوقت يومياً لاحترافها. في المقابل، من الآثار السلبية للعبة أن معدلات التوتر ترتفع فيها في البطولات لأنها ذهنية ولا يقوم اللعب بأي حركة، بعكس ما يحصل في الرياضات الجسدية إذ يزول التوتر مع بداية اللعبة.
ينصح شامية بالبدء بالتشجيع على اللعبة منذ الطفولة لتطوير المهارات فمن الممكن تحفيز الطفل منذ عمر العامين عبر التمرين في المنزل، وتعريفه إلى اللعبة، فيعتاد على القطع ويحفظ أسماءها، إذ يساعد البدء من عمر صغير على تطوير الذكاء وتنميته مع التحليل والحسابات. أما أكاديمياً فينصح بالبدء من عمر أربع أو خمس سنوات. هذا، وفي عمر أكبر لها فوائد لا تعد ولا تحصى في الحياة، كإدارة الوقت، والقدرة على تجنب الخطر، والقدرة على التحليل والتعامل مع الاحتمالات والظروف بصورة أفضل، هذا كله من دون أن يشعر اللعب بأنه يتعلم، بل هو يستمتع بلعبة يظهر تعلقاً وعشقاً لها مع مرور الوقت فيكتسب مهارة من خلالها ويطبقها في حياته، ويكون أكثر اطلاعاً في الحياة.
تتطلب الشطرنج من اللاعب أن يخصص لها جزءاً مهماً من أوقاته ليبرع فيها
ويقول، “مباشرة، يمكن ملاحظة الفرق بين طفل يلعب الشطرنج وأي طفل آخر. حتى إنها تعلمه الصبر تلقائياً، فهو يفكر ملياً قبل اتخاذ أي قرار ولا يتسرع حتى لا يخسر. ما دام الشغف موجوداً فيها يمكن بلوغ أعلى المستويات إلى جانب الحرص على التدريب. ولا حدود للعمر فيها، فيمكن للمسنين لعب هذه اللعبة واحترافها، ولهم فئات خاصة في البطولات”.
لم يكتشف ميلاد لواق شغفه بلعبة الشطرنج في سن مبكرة بل ابتداء من سن 12 سنة عندما بدأ والده ينقل حبه لها. هذا إلى أن أصبح اليوم شاباً بارعاً فيها إلى درجة أن والده يعجز عن منافسته في اللعب. تعلق ميلاد بهذه اللعبة خصوصاً أنه يميل أصلاً إلى كل ما يتعلق بمعالجة العمليات والحسابات، وإيجاد الحلول لها، فأظهر ميلاً إلى كل ما له علاقة بالاستراتيجيات والتحليل والدراسة والتخطيط، وهذا ما تقوم عليه لعبة الشطرنج فعلياً.
وعلى حد قوله، تستند لعبة الشطرنج على التخطيط، بمساعدة المدرب الذي يوجه أولاً، لكن في مرحلة ما لا بد من الاعتماد على الكمبيوتر والاستناد إلى خططه واستراتيجياته. يساعد ذلك على الاطلاع على خطوات الكمبيوتر لو كان في الموقف ذاته فتكون هناك محاولات لحفظ استراتيجيات، وتحليلات الكمبيوتر غيباً. وهنا يضيف “منذ طفولتي، انضممت إلى أنشطة تعلم الشطرنج مع مدرب خاص، قبل أن أنضم لاحقاً إلى الاتحاد اللبناني للشطرنج، وصرت أشارك في بطولات عالمية سواء أونلاين أو حضورياً. علماً أن البطولات أونلاين تقام يومياً وأشارك فيها كلها، فيما تقام تلك الحضورية أسبوعياً. أتمرن نحو ست ساعات في اليوم أخصصها للعبة الشطرنج التي تأخذ جزءاً مهماً من وقتي حتى أصبح أكثر براعة فيها، لكن لا مشكلة لي في ذلك كوني أعشقها”.
أما أديب أركحدان فأظهر من تلقاء نفسه اهتماماً بلعبة الشطرنج على الكمبيوتر منذ الطفولة في عمر ثمانية أعوام، إلى أن بدأ ميله هذا يتزايد. ويشير والده إلى أنه كثيراً ما كان يعطي وقته كاملاً واهتمامه لما يحبه. بالفعل هذا ما حصل، فكان يمضي معظم أوقاته في لعب الشطرنج، إلى درجة أن والده كان يراه نائماً أحياناً ولوحة الشطرنج بقربه. بدأ يحترف اللعبة مع مدربين ويطور مهاراته فيه. حتى إن مدربه لفت نظر والده بعد أشهر قليلة، إلى هذه المهارات الخاصة واللافتة التي يتمتع بها، فصار والده يركز أكثر على تطويرها.
يقول الأب، “أصبحت اللعبة تسيطر في أجواء المنزل، وكل أفراد العائلة يلعبونها. لكن على رغم أن أولادي كلهم باتوا يلعبونها وهم أبطال فيها، فإن أديب تمتع دوماً بقدرات تميزه، وبعشقه الزائد لها. صار لديه في المنزل أكثر من 20 لوحة شطرنج، ويتدرب أكثر من سبع ساعات في اليوم ويحقق نتائج لافتة، وأصبح بطل لبنان والعرب في فئات معينة”.
يساعد الكمبيوتر على تطوير مهارات اللاعب وتعليمه استراتيجيات متعددة
في العام الماضي احتل أديب المركز الأول عن فئة الرجال وهو أصغر أبطال لبنان سناً عن هذه الفئة، لكن من المؤسف، على حد قول أركحدان إن الدعم ينقص في البلاد لهذه اللعبة كما في مختلف الرياضات. وكل ما يمكن تحقيقه يقوم على جهود فردية فحسب حتى إن تحقيق التوازن صعب فيها بين الدراسة واللعب، وإذ اضطر أديب إلى إهمال دراسته للسفر مرات عدة في عام واحد للمشاركة في بطولات، تأثرت نتائجه المدرسية قبل أن يعود ويصب اهتمامه في الدراسة حتى أصبح الأول في صفه في صف البكالوريا فكان هذا مفاجئاً لأهله بعد أن كانت نتائجه في أدنى المستويات.
وعلى رغم أن الموهبة أساسية في لعبة الشطرنج فإنها لا تكفي وحدها والتدريب ضروري فيها بما لا يقل عن خمس أو ست ساعات يومياً بوصفه شرطاً أساسياً للتميز. وكان الإصرار الذي يتمتع به أديب ما أوصله إلى هذه المراتب سواء في الدراسة أو في لعبة الشطرنج، حتى حاز البطولة في أعوام متتالية وعن فئات عدة، فمنذ طفولته اعتاد على أن يحقق هدفاً ما أن يضعه أمامه، وقريباً سيشارك في الأولمبياد، بعد أن شارك مرتين في بطولة العالم.
ويختتم حديثه، “هي لعبة رائعة تحفز من يلعبها على التحليل ووضع استراتيجيات وعلى السعي جاهداً لتحقيق هدفه، لكن في لبنان من الممكن أن تزيد صعوبة التطور فيها لأنه ثمة حاجة إلى مدربين بمستويات أعلى بعد أن بلغ أديب هذه المرحلة. أنا أشجعه على السفر ليتابع هذا الشغف خارجاً، خصوصاً أنها لعبة تحظى بكثير من الاهتمام والدعم في الخارج، ويجري التشجيع عليها من الطفولة”.