حرية – (23/7/2024)
خلال الأعوام الأخيرة، أصبحت منصة “لينكد إن” للتواصل المهني مليئة بقصص شخصية مفرطة وصور “سيلفي” أصحابها يبكون واستعارات رياضية غريبة. في ما يلي استعراض لكيف تحولت المنصة إلى مساحة لإثارة الإزعاج المهني
إذا تجولت على صفحات “لينكد إن” LinkedIn أخيراً، فربما لاحظت أن الأمور أصبحت غريبة بعض الشيء. في السابق، كانت هذه المنصة المهنية مكاناً تتصفح فيه إعلانات الوظائف، وتضيف تفاصيل عن ترقيتك بعد بضعة أشهر من حصولها، ثم تنتظر تدفق تعليقات “أحسنت!” من أشخاص قابلتهم في أول أسبوع لك في الجامعة (والذين لا علاقة لهم بتطورك المهني). ربما كنت تتلقى استفسارات متفرقة من مستقطبي الموظفين، أو إذا كنت تمتلك درجة الإصرار الاستثنائية التي يتمتع بها المشاركون في برنامج “المتدرب المهني” Apprentice فقد ترسل بعض الرسائل تطلب فيها “التواصل” من أشخاص في مجال عملك. كان كل شيء رسمياً ورتيباً: كانت “لينكد إن” تبدو مثل الشقيق الأكبر الممل للمنصات الأكثر إثارة مثل “إنستغرام” و”تويتر”.
لكن الآن، تغيرت الأجواء تماماً. فقد طغت على التحديثات المهنية المباشرة موجة من المنشورات الطويلة والمتشعبة، فيشارك المدراء والمدربون التنفيذيون والقيادات العليا قصصاً مشحونة بالعواطف من حياتهم الشخصية، ليصدموك بنقلة مفاجئة في السرد ليخبروك كيف علمتهم هذه الأحداث مبادئ القيادة أو استشارات الإدارة. علاقات رومانسية، أمراض خطرة، وأشياء لطيفة قالها أطفالهم لهم – لا شيء مستثنى من قائمة استخراج مواعظ العمل من قصص الحياة اليومية كتلك التي تسمعها في مدونة “يوميات مدير تنفيذي” الصوتية Diary of a CEO. والأدهى من ذلك أن المنشورات من هذا النوع تحصد بانتظام آلاف الإعجابات والمشاركات. يبدو أن “لينكد إن” دخلت بلا شك حقبة إثارة الاشمئزاز. إذاً، كيف وصلنا إلى هنا، وهل أصبحت هذه الاستراتيجية في الإفراط بالمشاركة هي القاعدة الجديدة للتواصل المهني؟.
عام 2003، انطلقت منصة “لينكد إن” (نعم، لقد سبقت “فيسبوك” وحتى “ماي سبيس”)، وظلت بسيطة إلى حد ما في دورها كمنصة للبحث عن وظائف جديدة وعرض السير الذاتية أمام رؤساء العمل المحتملين. بالطبع كان هناك بعض المستخدمين الذين ينغمسون في سرد قصصهم عن تحديات الأعمال، لكنهم كانوا الاستثناء وليس القاعدة. كما أنهم غالباً ما كانوا أشخاصاً تعرفهم بالفعل، بدلاً من مدربي إنتاجية عشوائيين يظهرون بصورة غير مرغوب فيها على نشرتك. كان مستخدم “لينكد إن” العادي يميل إلى أن يكون شبيهاً بالنسخة التي تتحدث خلال الاجتماعات الكبيرة في العمل: مهذباً قليلاً وأكثر ميلاً إلى استخدام مصطلحات طنانة فارغة من أجل إضافة حيوية على الأجواء المملة.
لكن خلال انتشار جائحة كورونا، بدا أن هناك تحولاً واضحاً حدث. وجد كثيرون منا أنفسهم يعملون من المنزل للمرة الأولى، مما أدى إلى تداخل حياتنا المهنية والشخصية من دون حدود واضحة (حتى في المكالمات الجماعية عبر تطبيق “زووم” مع الرؤساء التنفيذيين الرفيعين، كان يمكنك سماع نباح كلب في الخلفية أو رؤية طفل يمر بالصدفة أمام الكاميرا). ومع مواجهة الجميع صعوبات في إنجاح العمل من المنزل، أصبح نشر قصص عبر الإنترنت حول تجارب فترات الإغلاق طريقة سهلة لتجسيد شخصيتك المهنية من خلال مشاركة شيء من ضعفك. وجد بعض الأشخاص أنفسهم يواجهون التسريح أو عدم الاستقرار المهني: وبدلاً من الاكتفاء بالبحث عن شواغر في “لينكد إن”، راحوا يكتبون بصراحة عن وضعهم آملين في أن يلفت ذلك انتباه أحد أصحاب العمل المحتملين.
لم يكُن إدخال قليل من العاطفة إلى بيئة العمل (الإلكترونية) شيئاً سيئاً بالضرورة. لكن عندما بدأ الناس بإدراك أن الانفتاح والتعبير يؤديان إلى الشهرة على “لينكد إن” (وزيادة جذب الانتباه إلى عملهم نتيجة لذلك)، بدأت الأمور تنحرف بصورة حقيقية. في 2021، كشفت “لينكد إن” عن خيار “وضع صانع المحتوى” الجديد، وهو ميزة ساعدت المؤثرين الناشئين في “لينكد إن” على بناء جمهورهم من خلال توسيع نطاق وصولهم خارج شبكاتهم الموجودة فعلاً. منذ ذلك الحين، اختار 18 مليون مستخدم الانضمام إلى المنصة، وأنتجوا محتوى يثير التساؤلات حقاً، ولاقى الوضع شعبية كبيرة لدرجة أن ميزاته أصبحت متاحة كخيار قياسي الآن.
عام 2022، تمت مشاركة أحد المنشورات الأكثر انتشاراً على “لينكد إن”، حين قرر الرئيس التنفيذي لشركة تسويق يدعى برادن والاك مشاركة صورة له وهو يبكي بعد إقالته اثنين من موظفيه. كتب: “سيكون هذا أكثر شيء جريء أشاركه على الإطلاق”، قبل أن يحوّل إقالتهما إلى قضية شخصية عنه. كانت خطوة غريبة، ولكنها لم تغير كثيراً من الطابع العام على “لينكد إن”. نشر العاملون صوراً لهم وهم جالسون على أسرة المستشفيات ويحتضنون أجهزة الكمبيوتر المحمولة ليثبتوا تفانيهم في العمل، كشفوا عما أظهره موت حيواناتهم الأليفة العزيزة على قلوبهم عن قوة الصمود لديهم. وكنتيجة محتومة، بدأت منشورات في موقع “ريدت” وحسابات على “إكس”/ “تويتر” بتوثيق بعض المنشورات الأكثر إثارة للسخرية على الموقع. حتى إن هناك موقعاً يستخدم الذكاء الاصطناعي يمكنه إنشاء قصة مضحكة تحمل رسالة إيجابية: تقوم بإدخال معلومات عما قمت به اليوم، وما النصيحة الملهمة التي ترغب في إسدائها، وتضبط مستوى إثارة السخرية بين منخفض وعالٍ وتترك بقية المهمة للتكنولوجيا.
كذلك يحب المستخدمون المتحمسون على “لينكد إن” اغتنام لحظات معينة في الثقافة الشعبية واستخدامها لبناء تشبيهات تجارية ضعيفة. على سبيل المثال، أصبح نجاح جولة تايلر سويفت الغنائية “إيراز” Eras منصة لإطلاق آلاف النصوص الركيكة حول قوة العلامة التجارية الشخصية. وكان مسار غاريث ساوثغيت المتقلب خلال بطولة كأس الأمم الأوروبية، بما حمله من لحظات النجاح والفشل والتعلم، مثل وقود ثمين لجمهور تطوير الذات. وأصبحت الركلة الرأسية التي نفذها جود بيلينغهام في الدقيقة الـ95 من المباراة بين إنجلترا وسلوفاكيا مادة خام لأصحاب الأعمال ليستحضروا مقارنات معقدة بين أدائه ونجاحات المبيعات بين الشركات (نعم، هذا ما حدث بصدق).
يبدو أن حال “مؤثري لينكد إن” لن تتغير على المدى المنظور – لكن هل يتعين علينا جميعاً الدخول في هذه الطريقة الجديدة في عملية تصفح الوظائف المحرجة بالفعل؟ هل ينبغي علينا الآن، للحصول على وظيفة جديدة، أن نبتكر قصصاً حزينة كتلك التي يرويها المشاركون في برنامج “إكس فاكتور” X Factor لإثارة إعجاب الموظفين؟. تعتقد خبيرة التسويق صوفي آتوود من شركة “أس أي كوميونيكيشنز” بأنه لا يزال من المهم تحقيق التوازن بين “المصداقية والمهنية” على رغم “التقدير المتزايد للصدق والشفافية” في ثقافة العمل الحالية لدينا.
في حين أن الناس غالباً ما ينجذبون إلى القصص الشخصية، إلا أنه بالنسبة إلى الموظف العادي، قد يكون الإفصاح الزائد ليس مجرد تكتيك مثير للاشمئزاز، بل أمراً محفوفاً بالأخطار: هل سيشكرك قسم الموارد البشرية على تعبيرك عن مشاعرك أمام متابعيك عن الإقالات التي تجري في شركتك؟. تقول آتوود إنها دائماً تنصح عملاءها بـ “كتابة شيء ما [لنشره على “لينكد إن”]، وتركه جانباً، ثم إعادة النظر فيه بعد فترة قصيرة من منظور جديد، إذا كانت لديهم ذرة شك تجاه صحة مشاركته”. لو أن ذلك الرئيس التنفيذي الباكي فعل هذا فقط. حسناً، سأضع جانباً، في الوقت الحالي، قصتي الملحمية التي لم أكتبها بعد عما تعلمته من اسمي صعب التهجئة.