حرية – (27/7/2024)
هادي عزيز علي
كان قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 ومازال مرجعية لتنظيم احكام الاسرة واستقرارها ضمن تغطية تشريعية شملت كل الاحكام المتعلقة بالاسرة من الزواج والبنوة والنفقة والفرقة والحضانة والمواريث وسواها من الاحكام الاخرى ولمدة زادت على الستة عقود في التطبيق، وقد تماهى القضاء العراقي مع نصوص المدونة تلك فكانت له اجتهادات مشهودة ساهمت في ذلك الاستقرار من خلال الاحكام القضائية المعززة لمضامينه النصية. هذا القانون كان احد قوانين البناء المؤسسي للدولة العراقية الحديثة، وما يحسب له ايضا هو تعامله مع القواعد الشرعية وانتقاء الافضل منها ومن دون التقيد بمذهب معين ومن ثم صياغتها على شكل قواعد قانونية هدفها ترسيخ هوية المواطنة والابتعاد عن الهويات الفرعية اذ جاءت احكامه مستوفية لاسباب التشريع من حيث رصانة العملية التشريعية وصدق الصياغة القانونية فكان لها قصب السبق في المحيط الاقليمي الذي كثيرا ما تمنى باللحاق بهذا المنجز التشريعي العراقي. يحسب له ايضا مع هذاالعمر المديد ان لا شكوى تناولته لا من اطراف الدعاوى ولا من المؤسسة القضائية او اصحاب الشأن القانوني من اكاديميين او باحثين حتى مجيء دعاة الهويات الفرعية والنزوع نحو تغليب الهوية الطائفية فكثرت مشاريع القوانين الموظفة لهذا الغرض واخرها المشروع الحالي المعروض امام مجلس النواب اذ في حالة اقراره فاننا قطعا سنواجه الاثار الاتية:
اولا – ترسيخ الهوية الطائفية ومغادرة الهوية الوطنية ودفع البلد الى مرحلة ما قبل الدولة، فبدلا من الدولة ومؤسساتها وحكم القانون فان نصوص المشروع سوف توزعنا على الهويات الفرعية لنكون نهبا للمختلف عليه في الاراء الفقهية التي تنشر ثقافة الذي يجوز ولا يجوز وتتحكم بمستقبل العائلة ضمن منظور فقهي ضيق بعيدا عن الاحكام التي اقرها الدستور المتعلقة بالوظيفة الاجتماعية للاسرة كونها اساس المجتمع في الدولة والمكفولة من قبلها من حيث الامومة والطفولة والشيخوخة المادة (29) من الدستور. يضاف الى ما تقدم فان نصوص المشروع تخول رسميا رجال الدين لابرام عقود الزواج رغم ثبوت كونهم السبب الرئيس في زواج القاصرات، فضلا عن ثبوت عوزهم المعرفي في الامور الشرعية المتعلقة بعقود الزواج الموثقة من قبلهم اذ كثيرا ما تتجه محاكم الاحوال الشخصية الى عدم تصديقها للمخالفات الشرعية فيها.
ثانيا – المشروع يعطل المساواة امام القانون الواردة في المادة (14) من الدستور.على سبيل المثال ان الزوجة على المذهب الجعفري لا ترث مما يتركه الزوج من الاراضي لا عينا ولا قيمة وهذا ما هو مثبت في مشروع قانون الاحوال الشخصية الجعفرية المحتفظ به لدى مجلس النواب، في حين ان الزوجة على المذهب الحنفي ترث من زوجها الاراضي استنادا لاحكام المواريث الواردة في سورة النساء، هذا مثال على عدم المساواة امام القانون، ومثال اخر على عدم المساواة هو ان المذهب الحنفي يشترط شاهدين عدلين على عقد الزواج اذا لا ينعقد الزواج من دونهما، في حين ان المذهب الجعفري لا يشترط الشهود على عقد الزواج ويعد الزواج منعقدا ومستوفي لاسبابه الشرعية من دون حاجة الى الشهود. يلاحظ ان قانون الاحوال الشخصية 188 لسنة 1959 اشترط في عقد الزواج شهادة شاهدين عدلين متمتعين بالاهلية القانونية وطيلة فترة تطبيق القانون فان اي من اتباع المذهب الجعفري الذي يروم أبرام عقد الزواج امام المحكمة يأتي بشاهدين عدلين طاعة للقانون اولا ومن اجل التوثيق والاشهار على العقد المذكور ثانيا، وبهذا النهج يكون القانون قد ارسى ثقافة المساواة امام القانون.
ثالثا – لاسيادة للقانون مع وجود هذا المشروع – سيادة القانون تعني ان المواطنين ومن يحكمهم ملزمين بطاعة القانون، وسيادة القانون جاءت نصا في احكام المادة (5) من الدستور. فأذا اقر مشروع التعديل من قبل مجلس النواب واصبح قانونا نافذا فان للمذهب الجعفري احكامه وللمذاهب السنية احكامها ايضا واي منهما غير معني بالنصوص القانونية التي تخص الاخر ولا يلزم بطاعة قانون الاخر. فعلى سبيل المثال ان للمذهب الجعفري احكاما خاصة به في عدة المطلقة ولديهم ان: (لا عدة للمطلقة اذا كانت صغيرة لم تكمل الـ (9) سنوات هلالية من عمرها) فهذا النص لا طاعة له في المذاهب السنية لعدم الجواز الشرعي بالزواج في هذا العمر وعندما تكثر النصوص غير القابلة للطاعة تتوقف وظيفة سيادة القانون لابل ان القانون يتخلى عن التعريف الذي اشتهر به والذي ينص على انه: (مجموعة القواعد القانونية العامة المجردة التي تنظم العلاقات بين الافراد او بينهم والدولة ويلزم مخالفها الجزاء). اذ لم يعد القانون قاعدة عامة تلزم المواطنين كافة ويسقط القانون عن تعريفه اعلاه ولا يلزم قطاعات واسعة من المواطنين.
رابعا – السلطة التشريعية الرديفة – مشروع القانون يخلق سلطة تشريعية رديفة موازية لمجلس النواب وهي فتاوى واراء الوقفين الجعفري والسني فالفتاوى لديهم (تشريع) وبذلك تكون هناك سلطة تشريعية اخرى تكون لفتاواها نفس القوة القانونية للتشريعات التي يصدرها مجلس النواب رغم ان الوقفين المذكورين هما مؤسستين حكوميتين منسوبتين الى السلطة التنفيذية بموجب قانونيهما ولا ينتسبان الى المؤسسة الدينية حسبما يفهم من نصوص التاسيس. يلاحظ ان فتاوى الوقفين تعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية وتخالف احكام المادة 88 من الدستور اضافة الى انه يهدر مبدأ الفصل بين السلطات.