حرية – (28/7/2024)
قبل نحو 110 أعوام أسفر انعطاف خاطئ لسائق سيارة عن وقوع حادث اغتيال، وهو الأمر الذي تسبب بدوره في أزمة دولية سرعان ما تحولت إلى حرب عالمية راح ضحيتها نحو 20 مليون شخص وأدت إلى سقوط إمبراطوريات وإنشاء دول في مناطق مختلفة من العالم من بينها الشرق الأوسط.
فالحرب العالمية الأولى استمرت لأكثر من أربعة أعوام وشهدت أحداثا ومعارك واتفاقيات دبلوماسية عديدة خلال سياقات متشعبة، يمكن أن يؤدي تسليط الضوء على بعضها إلى فهم طبيعة العالم الذي نعيش فيه اليوم.
اغتيال الأرشيدوق
في يونيو/حزيران 1914 كان ولي عهد إمبراطورية هابسبورغ (التي كانت تضم بالأساس النمسا والمجر)، الأرشيدوق فرانز فرديناند، وزوجته الأميرة صوفيا يزوران مدينة سراييفو، عاصمة البوسنة، التي استقبلته بمحاول اغتياله من قبل مجموعة من القوميين من صرب البوسنة الذين كانوا يدعون إلى ضم البوسنة إلى صربيا.
ولي العهد نجا، بينما أصيب عدد من مرافقيه.
وبعد أن ألقى الأرشيدوق خطابا في قاعة مجلس سراييفو قرر أن يزور مرافقيه الذين كانوا يتلقون العلاج على أن يغادر بعد ذلك سراييفو مباشرة من دون أن يستكمل جدول الزيارة الرسمي، بحسب ما يروي المؤرخ كريستوفر كلارك في كتابه “السائرون نياما… كيف اشتعلت الحرب في أوروبا عام 1914”.
وانطلق موكب ولي العهد في رحلة العودة لكن من دون أن يتم إخطار سائقي سيارات الموكب بالتغيير الذي طرأ على جدول رحلة الأرشيدوق.
وهكذا انعطف قائد السيارة الأولى إلى شارع كان من المفترض ألا يسلكه الموكب لتتبعه السيارة التي كانت تقل ولي العهد وزوجته وحاكم البوسنة أوسكار بوتيريك.
وعندما أدرك بوتيريك أن الموكب يسير في طريق لم يكن يفترض أن يسلكه، طلب من السائق العودة إلى الطريق الصحيح، ليقوم السائق بإيقاف السيارة استعدادا لتغيير مسارها.
لكن المصادفة الغريبة أن السيارة توقفت في مكان بالقرب من غافريلو برنسيب، وهو أحد أعضاء نفس الخلية التي حاولت اغتيال الأرشيدوق في صباح ذات اليوم.
أطلق برنسيب النار على ولي العهد وزوجته ما تسبب في مقتلهما.
وبعد اغتيال الأرشيدوق أعلنت إمبراطورية هابسبورغ في الثامن والعشرين من شهر يوليو/ تموز عام 1914 الحرب على صربيا لتسارع دول أوروبية إلى الانضمام إما إلى معسكر إمبراطورية هابسبورغ أو الانضمام إلى معسكر صربيا التي كانت تربطها علاقات قوية بروسيا.
ويذهب مؤرخون إلى أن حادثة اغتيال الأرشيدوق لم تكن إلا الشرارة التي أشعلت الحرب بين دول كان بينها الكثير من التوتر المرشح للانفجار في أي وقت.
وهكذا صار هناك معسكران للحرب العالمية الأولى، فهناك معسكر قوى “الحلفاء” الذي يضم في الأساس روسيا وبريطانيا وفرنسا في مواجهة معسكر قوى “المركز” المكون من ألمانيا وإمبراطورية هابسبورغ، لكن لاحقا ستتوسع خارطة الدول المشاركة في الصراع، فالولايات المتحدة وإيطاليا ستنضمان إلى معسكر الحلفاء بينما ستنخرط الدولة العثمانية في معسكر المركز في قرار سيكون له تبعات كبيرة على منطقة الشرق الأوسط.
سفن شاردة
ومثلما أدى انعطاف خاطئ لسيارات موكب ملكي إلى اغتيال الأرشيدوق، فإن رسو سفينتين حربيتين في المياه التركية هو ما تسبب في تسارع أحداث انتهت بدخول الدولة العثمانية الحرب.
فقبل سنوات من اندلاع الحرب كانت العلاقات بين الدولة العثمانية وألمانيا في تعاظم وهو ما كان يثير قلق دول أوروبية أخرى خاصة بريطانيا التي كانت تربطها علاقات نفعية قوية مع العثمانيين.
وفي الوقت الذي رأى فيه عدد من رجال الدولة في الحكومة الجديدة في إسطنبول أن من مصلحة بلادهم البقاء على الحياد، كان قادة بارزون آخرون يميلون إلى المعسكر الألماني، وعلى رأسهم أنور باشا وزير الحربية.
وبينما كانت السفن الحربية البريطانية والفرنسية تطارد سفينتين حربيتين ألمانيتين في مياه البحر المتوسط بعد أن قصفتا قواعد فرنسية في الجزائر، قررت السلطات في إسطنبول في العاشر من أغسطس/آب ذات العام 1914 السماح للسفينتين الألمانيتين بدخول المياه الإقليمية التركية، ما أثار حفيظة لندن وباريس.
لكن الدولة العثمانية قالت إنها اشترت السفينتين من ألمانيا لتعويض صفقة تراجعت بريطانيا عن تنفيذها لبناء سفينتين حربيتين لصالح الدولة العثمانية.
ويقول المؤرخ البريطاني يوجين روغان في كتابه “سقوط العثمانيين” إن المسؤولين العثمانيين حاولوا على مدار أسابيع مواجهة الضغوط الألمانية على إسطنبول لكي تعلن الأخيرة انضمامها إلى معسكر برلين في الحرب قبل أن تعلن الدولة العثمانية الحرب في نوفمبر/تشرين الثاني 1914.
رأت ألمانيا في القرار العثماني مكسبا لصالحها ليس لقوة الجيش العثماني بقدر ما يتعلق الأمر بردود فعل المسلمين في المستعمرات الخاضعة لحكم بريطانيا وفرنسا.
“جهاد صنع في ألمانيا”
جاء إعلان الدولة العثمانية الحرب ضد بريطانيا وفرنسا وروسيا في مشهد حمل بعض التناقضات، إذ مزجت مراسم الإعلان بين السياسة والدين بشكل يبدو بعيدا عن التوجهات الأيديولوجية العلمانية لجماعة الاتحاد والترقي التي كانت قد أطاحت بالسلطان عبد الحميد الثاني في عام 1909 قبل أن تسيطرعلى الحكم.
فالسلطان محمد الخامس، الذي لم يكن يملك أي سلطة فعلية، أعلن الجهاد ضد من وصفهم بـ”الكفار” من أعداء الإسلام بعد أن قلده شيخ الإسلام- أعلى منصب ديني في الدولة العثمانية – مصطفى خيري أفندي ما قال إنه سيف النبي.
وعقب إعلان الحرب وبدء المواجهات بين الجيوش العثمانية والروسية، بدأت ألمانيا في الترويج لحملة أيدولوجية تسعى لنشر “ثقافة الجهاد ضد أعداء الدولة العثمانية”.
وهكذا تأسست في برلين عام 1915 وكالة أنباء الشرق تحت إشراف المستشرق الألماني الشهير ماكس فان أوبنهايم لتصدر من خلالها صحف تحث المسلمين على “الجهاد”.
وضمت الوكالة عددا من المستشرقين بجانب مفكرين ومثقفين من العالم الإسلامي من أصحاب توجهات مختلفة مثل الكاتب اللبناني شكيب أرسلان والشيخ عبد العزيز جاويش أحد زعماء الحزب الوطني في مصر.
كما سمحت السلطات الألمانية للأسرى المسلمين في المعسكرات التابعة للقوات الألمانية في أوروبا وغيرها من المناطق، بأداء الصلاة ووفرت الأطعمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية، ودعت العديد من المفكرين والمثقفين المسلمين لإلقاء خطب ومواعظ تحث الأسرى المسلمين على الجهاد.
لكن حملة “الجهاد الإسلامي” المدعوم من ألمانيا لم تكلل بالنجاح وهو ما يرجعه البروفسير تيلمان لودك صاحب كتاب “جهاد صنع في ألمانيا” إلى أن سكان البلدان الإسلامية التي كانت تحتلها دول الحلفاء لم يكونوا قادرين على مواجهة الآلة العسكرية الغربية.
وفي الوقت الذي فشلت فيه حملة الجهاد الإسلامي كان هناك تيار أخر مدعوم من بريطانيا يسعى إلى مواجهة الدولة العثمانية ويجمع بين القوة العسكرية المدعومة من قبل دولة أوروبية وأفكار مرتبطة بالتاريخ.
الثورة العربية
قبل سنوات من اشتعال الحرب العالمية الأولى، كان فريق من الساسة والمثقفين في الولايات العربية الخاضعة للحكم العثماني في قارة آسيا يحدوه الأمل في مشاركة سياسية في صنع القرار في الدولة العثمانية بعد سيطرة جماعة الاتحاد والترقي على الحكم في إسطنبول وإعادة العمل بالدستور وانتخاب البرلمان.
لكن سرعان ما تسرب الخلاف بين الحكام العثمانيين الجدد وفريق المثقفين والساسة العرب ذوي التوجهات القومية والعربية، وهو ما يرجعه الكاتب اللبناني أسعد خليل داغر في كتابه “ثورة العرب” إلى نزعة “التتريك” التي فرضها الاتحاديون بجانب الانحياز للجنس التركي على حساب باقي الأعراق في الإمبراطورية العثمانية.
وخلال الحرب العالمية الأولى ازداد توتر العلاقات بين الحكومة في إسطنبول وعرقيات كانت خاضعة لحكمها، وهو ما تحول إلى أعمال عنف، كما حدث بحق الأرمن الذين تعرضوا لمذابح واسعة النطاق.
أما في بلاد الشام فقد أسفر توتر العلاقات بين الحكام العثمانيين والقوميين العرب إلى إعدام عدد من المثقفين والناشطين ممن اتهمهم العثمانيون بالتعاون مع البريطانيين والفرنسيين خلال عامي 1915 و1916، وهي تهمة دأب زعماء القوميين العرب على نفيها.
لكن التعاون الحقيقي بين فريق من العرب ومعسكر الحلفاء لم ينطلق من دمشق أو بيروت بل بدأ برسائل متبادلة منذ بداية الحرب بين الشريف حسين حاكم مكة ومسؤولين بريطانيين يعلنون فيها استعداد لندن للاعتراف بالاستقلال التام للعرب إذا طردوا الأتراك من بلادهم.
وتتضمن الرسائل المتبادلة بين الشريف حسين وممثل بريطانيا في مصر، هنري ماكماهون، اتفاقا على أن تكون الخلافة عربية بجانب تعهد بريطاني بالاعتراف بدولة عربية مستقلة تحت حكم الشريف تضم أغلب المناطق العربية في قارة آسيا مع استثناء مناطق في العراق وجنوب اليمن، بينما كانت صياغة الرسائل مبهمة فيما يتعلق بمستقبل مناطق في سوريا كانت تطالب بها فرنسا.
وفي يونيو/حزيران عام 1916 اندلعت الثورة في الحجاز لتنشب معارك ومواجهات بين الجيش العثماني والقوات الموالية للشريف حسين بقيادة نجليه عبد الله وفيصل.
وكانت قوات الشريف حسين تحظى بدعم بريطاني لعل من أبرز معالمه ما تجسد في شخص الضابط البريطاني توماس إدوارد لورانس الذي ُعرف لاحقا باسم لورانس العرب.
وصاحب لورانس القوات الموالية للشريف حسين خلال مواجهات امتدت لنحو عامين واتسع نطاقها شمالا ليصل إلى العقبة ودمشق.
وفي الأول من أكتوبر/تشرين الأول عام 1918 دخل فيصل بن الشريف حسين مدينة دمشق، بعد الهزيمة التي تكبدها الجيش العثماني على يد البريطانيين والقوات الموالية للشريف حسين، ما عزز التطلعات باقتراب ولادة الدولة العربية الكبرى.
لكن الوعود التي منحتها بريطانيا للشريف حسين تعارضت بشكل ما مع اتفاقيات دبلوماسية أبرمتها لندن مع قوى أخرى ما تسبب في إجهاض حلم الدولة العربية الكبرى.
سايكس بيكو
كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسرحا للتنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا طيلة عقود قبل الحرب العالمية الأولى.
لكن التنافس تحول في بعض الحالات إلى تحالف لمنع روسيا من السيطرة على أراضي الدولة العثمانية التي كان ينظر إليها بوصفها “رجل أوروبا المريض” بسبب تدهور أوضاعها بشكل كبير.
ومع انضمام الدولة العثمانية إلى المعسكر المعادي لبريطانيا وفرنسا وروسيا بدأت تعلو في لندن وباريس الأصوات الداعية إلى تقسيم تركة الرجل المريض.
وفي عام 1916 كانت جيوش الحلفاء بعيدة عن تحقيق نصر حاسم ضد العثمانيين، ففي مقابل نجاح البريطانيين في صد هجوم عثماني على قناة السويس، فشلت قوات الحلفاء في حملة غاليبولي التي كانت تستهدف احتلال إسطنبول، كذلك تكبد البريطانيون خسائر كبيرة في العراق.
لكن هذه التطورات العسكرية لم تحل دون انطلاق المفاوضات بين بريطانيا وفرنسا حول مستقبل المناطق الخاضعة لسلطة إسطنبول بعد نهاية الحرب.
ومثل الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو بلاده في المفاوضات التي شارك فيها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس.
وهكذا كان سايكس وبيكو يتفاوضان حول مصير الولايات العثمانية في الوقت نفسه الذي كانت تتم فيه المراسلات بين الشريف حسين وماكماهون، بحسب ما يقول الأكاديمي كريستين كوتس أولريخسن في كتابه “الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط”.
وبعد أشهر من المباحثات اتفق البريطانيون والفرنسيون في مايو/أيار 1916 على ما عرف لاحقا باتفاق سايكس بيكو والذي ضم خطا يقسم منطقة شمال شبه الجزيرة العربية وسوريا والعراق وفلسطين ولبنان والأردن بحيث يكون النفوذ البريطاني في المناطق الواقعة شمال الخط بينما تخضع المناطق الجنوبية للنفوذ الفرنسي.
وبموجب الاتفاق سيكون لبريطانيا حق السيطرة بشكل مباشر في ولايتي بغداد والبصرة بجانب مسؤولية غير رسمية، عبر دعم دول عربية، في المنطقة الممتدة من غزة وصولا إلى كركوك.
في المقابل فإن فرنسا ستتولى، بحسب الاتفاق، المسؤولية الرسمية في مناطق الساحل السوري بجانب مسؤولية غير مباشرة في مناطق شاسعة تشمل دمشق وحلب وصولا إلى مدينة الموصل شرقا.
كذلك اتفق الطرفان على إنشاء إدارة دولية في فلسطين، وهو الأمر الذي تقاطع فيما بعد مع وعد آخر أعلنته بريطانيا لاحقا وسيكون له تأثير كبيرعلى المنطقة.
وعد بلفور
يطل مقر رئيس الوزراء الإسرائيلي في مدينة القدس على شارع يثير اسمه مشاعر متباينة في المدينة، بين استهجان عند الفلسطينيين وترحيب عند الإسرائيليين.
فشارع بلفور يحمل اسم السياسي البريطاني البارز آرثر بلفور الذي ارتبط اسمه في تاريخ منطقة الشرق الأوسط بوعد منحته بريطانيا لليهود خلال الحرب العالمية الأولى.
ولا يمكن التطرق لوعد بلفور دون الإشارة إلى الحركة الصهيونية التي انطلقت في القرن التاسع عشر داعية لهجرة اليهود من أوروبا وتجميعهم في وطن واحد ردا على موجات الاضطهاد التي تعرضوا لها خاصة في روسيا وبولندا.
وبينما لم تكن فلسطين هي المرشحة الوحيدة من قبل آباء الحركة الصهيونية لاستقبال اليهود الفارين من أوروبا، إذ ضمت القائمة الأرجنتين وشرق أفريقيا على سبيل المثال، لكن الإرث التوراتي لفلسطين جعلها أكثر جاذبية لاستقطاب اليهود.
وبالفعل بدأت موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر رغم بعض القيود التي فرضها العثمانيون، الذين كانوا يحكمون فلسطين على مدار نحو أربعة قرون، على تملك اليهود للأراضي في فلسطين.
لكن تلك القيود لم تكن التحدي الوحيد أو الأكبر أمام الصهاينة الأوائل، فعندما وصلت أول موجة من الهجرة اليهودية في القرن التاسع عشر إلى فلسطين كان يعيش فيها مئات الآلاف من العرب.
وتشير التقديرات إلى أنه في عام 1914 بلغ إجمالي عدد السكان في فلسطين ما يقرب من 700 ألف نسمة أغلبيتهم من العرب بينما لم يكن اليهود يمثلون إلا نحو 13.6 بالمئة بحسب دراسة للمختص بالديموغرافيا في الجامعة العبرية سيرغيو ديلابرغولا، بينما يقدر الكاتب إيان بلاك في كتابه “أعداء وجيران: العرب واليهود في إسرائيل وفلسطين منذ عام 1917 حتى 2017” إلى أن نسبة اليهود بلغت 8.5 بالمئة.
وخلال الحرب وقبلها بدأت أصوات عربية تحذر من المشروع الصهيوني في الوقت الذي نشر فيه ناشطون يهود مقالات تشير إلى أن الصدام بين اليهود والعرب حتمي مستبعدين إمكانية التعاون بين الفريقين، بحسب ما يورد الكاتب إيان بلاك.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1917، وبينما كان الجيش البريطاني يخوض معارك ضد الجيش العثماني في فلسطين، أصدرت بريطانيا الوعد الذي جاء في رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى البارون ليونيل روتشيلد، أحد أبرز الشخصيات اليهودية في بريطانيا.
تعهدت بريطانيا عبر الوعد ببذل غاية جهدها لمساعدة الشعب اليهودي في إنشاء وطن قومي في فلسطين على ألا يؤدي ذلك إلى الانتقاص من حقوق الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين.وتتباين تفسيرات المؤرخين للسبب الذي دفع بريطانيا إلى إصدار وعد بلفور، إذ تشير دائرة المعارف البريطانية إلى سببين الأول هو رغبة بريطانيا في إقامة منطقة آمنة شرق قناة السويس، بينما يتعلق الآخر باعتقاد الساسة البريطانيين بأن وعد بلفور سيدفع اليهود في الولايات المتحدة إلى الضغط على حكومة بلديهما لمواصلة الحرب ضمن معسكر الحلفاء.
عالم جديد
في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر للشهر الحادي عشر(نوفمبر/تشرين ثاني) عام 1918 انتهت الحرب بشكل رسمي بانتصار قوى الحلفاء وهزيمة قوى المركز ومن بينها الدولة العثمانية.
الحرب العالمية الأولى كان لها الكثير من التأثير على حياة سكان الشرق الأوسط.
فأهوال الحرب وما تبعها من كوارث أودت بحياة أعداد كبيرة من السكان، فالمجاعات تسببت في مصرع ما يقدر بمائتي ألف من سكان جبل لبنان، على سبيل المثال.
كما ضمت جيوش الدول المتحاربة مئات الآلاف من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء كجنود أو كعمال، وهو الأمر الذي كان يتم في كثير من الأحيان على غير رغبتهم.
ويقدر عدد الجنود الجزائريين والمغاربة والتونسيين الذين شاركوا في صفوف القوات الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى بنحو 300 ألف جندي قتل منهم ما يزيد عن 30 ألفا.
نفس الأمر جرى مع سكان الولايات الخاضعة للحكم العثماني، إذ أعلنت الدولة العثمانية قوانين تجبر الذكور على الالتحاق بالجيش العثماني.
كما يشير بعض المؤرخين إلى أن نحو نصف مليون مصري، أي نحو 4 بالمئة من إجمال عدد السكان، كانوا يعملون في تفريغ المؤن وبناء ومد خطوط السكك الحديدية.
وبعد نهاية الحرب قرر المنتصرون إقامة مؤتمر دولي لبحث مستقبل عالم ما بعد الحرب في إطار العديد من التفاهمات والمبادئ لعل أبرزها مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها الذي أعلنه الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون.
وشهد المؤتمر الذي عقد على مدار أشهر في باريس عام 1919 الكثير من المداولات بين الوفود لبحث قضايا عدة من بينها تأسيس عصبة للأمم بجانب التعويضات التي سيكون على ألمانيا دفعها إضافة إلى تقسيم إمبراطورية هابسبورغ بين الدول المستقلة ومصير الدولة العثمانية والولايات التابعة لها.
وقرر المجتمعون في باريس ترك التفاصيل الخاصة بمصير الولايات العثمانية وما سيتبقى من الإمبراطورية العثمانية إلى مؤتمرات ومعاهدات لاحقة من بينها مؤتمر سان ريمو وقرارات عصبة الأمم.
وبموجب هذه الاتفاقيات تقلصت الإمبراطورية العثمانية بشكل كبير لتتحول في عام 1923 إلى جمهورية تركيا، والتي كان من الممكن أن تكون رقعتها أصغر بكثير مما هي عليها حاليا لولا الانتصارات التي حققتها القوات التركية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك ضد جيوش اليونان وفرنسا.
أما الولايات العثمانية في منطقة الشرق الأوسط فقد وضع أغلبها تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني.
ففي سوريا مُنحت فرنسا حق الانتداب لتدخل الجيوش الفرنسية بقيادة الجنرال هنري غورو دمشق في عام 1920 وتطيح بحكم فيصل بن الحسين بعد سلسلة من الاشتباكات والمعارك.
أما في لبنان فقد شهد العام ذاته إعلان الجنرال غورو تأسيس دولة “لبنان الكبير” التي ضمت بجانب جبل لبنان مناطق متعددة من بينها بيروت وطرابلس وصيدا.
وفي العراق دعم البريطانيون تولي الملك فيصل حكم البلاد تعويضا له عن خسارة عرش سوريا، وضم العراق ولاية الموصل كاملة رغم أن اتفاق سايكس بيكو قد نص على تقسيمها بين منطقتي النفوذ البريطاني والفرنسي. كذلك رفض الساسة البريطانيون المساعي الكردية لإنشاء دولة كردية في شمال العراق، كما استمر حكم الهاشميين في العراق حتى عام 1958.
كذلك دعم البريطانيون تولي عبد الله بن الحسين حكم إمارة شرق الأردن في عام 1921 التي تحولت لاحقا إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
وخضعت فلسطين للانتداب البريطاني الذي سمح بهجرة عشرات الآلاف من يهود أوروبا على مدار نحو عقدين قبل أن تضع لندن قيودا على الهجرة اليهودية. وعقب سنوات من أعمال العنف والتوتر بين العرب واليهود والبريطانيين قررت لندن إنهاء الانتداب البريطاني ما أعقبه إنشاء دولة إسرائيل ونشوب الحرب العربية الإسرائيلية الأولى ـ والتي تعرف باسم “النكبة”- عام 1948.
وهكذا فإن إلقاء نظرة فاحصة على خريطة منطقة الشرق الأوسط يظهر حجم التأثير الذي كان للحرب العالمية الأولى على شكل عالمنا المعاصر.
فخارطة الدول العربية تم رسمها بناء على تفاهمات ومعاهدات خلال الحرب وبعدها. كذلك كانت لقرارات اتخذت خلال تلك الفترة تبعات لا نزال نعيشها حتى الآن. إضافة إلى ذلك فإن أحداثا جرت خلال الحرب شكلت في المخيال الشعبي إرهاصات لأفكار وأيدولوجيات انتشرت في المنطقة لعقود لاحقة.