حرية – (29/7/2024)
في المكتب، أو في المواصلات أو بالبيت، أصبح الجلوس سمة أساسية في الحياة اليومية لمعظم الناس، لكن هذا النمط من الحياة إذا استمر طويلا فقد ينتهي بصاحبه إلى الإصابة بأمراض خطيرة كالقلب والسُكري.
وفي عام 1953، لاحظ عالم الوبائيات جيريمي موريس أن قائدي الحافلات في لندن كانوا عُرضة للإصابة بمرض القلب التاجي أكثر من محصّلي التذاكر في الحافلات نفسها بمعدّل يزيد على الضِعف.
رغم أنه من الناحية الديموغرافية (ما يتعلق بالعمر، الجنس، ومعدل الدخل) كانت الفئتان (قائدو الحافلات ومحصّلو التذاكر) متطابقتين تقريبا، لماذا إذن هذا الفارق الكبير في احتمال الإصابة بمرض القلب التاجي؟
كان جواب موريس أن محصّلي التذاكر كان يتعين عليهم الوقوف على أقدامهم وتسلّق سلالم الحافلات ذات الطابقين الشهيرة في العاصمة البريطانية، بخلاف قائدي الحافلات نفسها، والذين يظلون جالسين على مقاعد القيادة لفترات طويلة.
دراسة موريس هذه وضعت الأساس للبحث في العلاقة بين النشاط البدني وصحة الشريان التاجي.
محصلّو التذاكر في حافلات لندن أصبحوا الآن شيئاً من الماضي، لكن دراسة موريس أصبحت متعلقة بالحاضر أكثر من أي وقت.
ومنذ وباء كورونا، أصبح هناك توجّه كبير إلى العمل من المنازل، ما يعني بطبيعة الحال زيادة في ساعات الجلوس.
وبدون الحاجة للمشي إلى مبرّد المياه، أو للتنقل بين غُرف الاجتماعات، يمكن الجلوس لساعات طويلة على المكاتب بلا نهوض.
ويعدّ الجلوس لفترات طويلة أحد أنماط الحياة المكتبية، حيث مقدار الطاقة المبذولة ضئيل للغاية. ومن سلوكيات الحياة المكتبية كذلك الجلوس لفترات طويلة أمام البرامج التلفزيونية وعلى الألعاب الإلكترونية وفي كرسي القيادة أو على المكتب في العمل.
وتترك هذه السلوكيات المكتبية أصحابها عُرضة أكثر من غيرهم للإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، والسُكري من النوع الثاني، وصولاً إلى الوفاة المبكرة.
وهذا الوقت الطويل الذي نقضيه جالسين يعدّ أحد الأسباب الرئيسية للإصابة بعدد من الأمراض. وفي عام 2020، أوصت منظمة الصحة العالمية بعدد من التدابير للحدّ من سلوكيات الحياة المكتبية.
وفي الماضي، كان الباحثون يفرّقون بين السلوك المكتبي وقلة النشاط البدني. وقد يقوم المرء بتمارين بدنية كل يوم، ولكنه مع ذلك يجلس لفترات طويلة جدا.
على أن خطورة السلوك المكتبي تكون أعلى في حال أولئك الذين لا يقومون بتمارين بدنية كافية.
ولكن، لماذا يزيد نمط الحياة المكتبية من خطر إصابة صاحبه بأمراض القلب والأوعية الدموية؟
الفرضية الأساسية تشير إلى تعطّل وظائف الأوعية الدموية، وتحديدا في الساقين. ويعدّ الجهاز (القلبي) الوعائي مسؤولاً عن استمرار تدفق الدم والسائل الليمفاوي عبر الأوعية الدموية بالجسم– وهو يمثل جزءا من الجهاز المناعي.
ديفيد دانستان، الباحث في معهد النشاط البدني والتغذية بجامعة ديكن في أستراليا، عكف على دراسة آثار الجلوس لفترات طويلة وكذلك التدخلات الممكنة للحد من تلك الآثار.
يقول دانستان إن “الجلوس لفترات طويلة يعني انخفاض النشاط العضلي”.
ويوضح أن مجموع الآثار الناجمة عن انخفاض النشاط العضلي، وانخفاض الطلب على التمثيل الغذائي، وقوى الجاذبية – من شأنه أن يقلص تدفق الدم المحيطي إلى عضلات الساقين، مما قد يتسبب في تجمّع الدم في ربلة الساق (العضلة الخلفية في الساق).
وفي وضعية الجلوس، عادة ما تكون الساقان مطويتان، ما يمكن أن يسفر عن نقص تدفق الدم.
وبدوره، يؤدي نقص النشاط العضلي بالساقين إلى نقص في طلب عضلات هاتين الساقين على التمثيل الغذائي. ويعدّ الطلب على التمثيل الغذائي دافعاً أساسيا لتدفق الدم، مما يعني انخفاضا في تدفق الدم بالساقين. وانخفاض تدفّق الدم بالساقين بدوره، يقود إلى تضييق الأوعية الدموية.
يقول دانستان إن “هذا التعطل في وظائف الأوعية الدموية يعد أحد السيناريوهات المحتملة للجلوس لفترات طويلة”.
ويعتقد الباحثون أن الجلوس لفترات طويلة بعد تناول وجبات عالية الدسم يمكن أن يورث أضرارا صحية خطيرة.
وكذلك الجهاز العضلي الهيكلي، يمكن أن يتأثر بالسلب. ويسهم الجلوس لفترات طويلة في تقليص قوة العضلات، وفي انخفاض كثافة العظام.
علاوة على ذلك، يمكن أن يُسفر الجلوس لفترات طويلة عن إرهاق جسدي، وتوتر في مكان العمل، واكتئاب. بل، قد يصل الأمر إلى التقرحات الناجمة عن الضغط.
ويحذر ديفيد دانستان -المتخصص بالأساس في داء السُكري من النوع الثاني- من أن نمط الحياة المكتبية يمكن أن يؤدي إلى زيادة نسبة السكر في الدم بعد تناول الوجبات.
والآن، وبعد ما رأينا من مخاطر صحية مترتبة على الجلوس لفترات طويلة، فلماذا لا نكسر تلك العادة السيئة؟
“أعتقد أن الناس أصبحوا يتبعون نمط الحياة المكتبية لأن المجتمع يشجّعهم على ذلك”، يقول بنيامين غاردنر الباحث في علم النفس الاجتماعي بجامعة سري البريطانية.
ويضيف غاردنر: “لا أحد يسعى إلى ذلك عن قصد، ولكننا لا نجد أنفسنا محتاجين إلى الحركة كثيرا ما دُمنا قادرين على إنجاز المهام بدون القيام بمجهود بدني”.
وفي عام 2018، خلص الباحث غاردنر وزملاء له إلى أنّ تشجيع الموظفين على الوقوف وقت انعقاد الاجتماعات يواجه عقبات اجتماعية “في أثناء الاجتماعات الرسمية، يشعر الموظف أنه من غير اللائق الوقوف”.
وإلى جانب الوقوف بين فترات الجلوس الطويلة، ثمة تدخلات أخرى يمكن أن تفيد في تعزيز تدفق الدم، ومن ذلك تحريك الساقين في أثناء الجلوس، واستخدام كراسي قابلة للتعديل “تساعد على الوقوف”.
وقد ثبتت فوائد للنهوض بين الحين والحين، والمشي ولو بضع خطوات أو تسلّق عددا من السلالم، لا سيما للأفراد قليلي النشاط بالأساس.
وبالنسبة للأشخاص المقعدين على كراسي متحركة وغيرهم ممن يواجهون قيودا على الحركة، فإن اتباع تمارين مصممة خصيصا قد أثبت جدواه على المستوى الصحي لهم.
وختاماً، فإن نمط الحياة المكتبية يمكن أن يبدو كما لو كان نتيجة لا يمكن تجنّبها للتقدم التقني، لكن حتى التغييرات البسيطة في روتينك اليومي -كالتمدد لفترات أطول، وتحريك الساقين في أثناء الجلوس، والنهوض بين الحين والحين لعمل كوب من الشاي- يمكن أن تساعد في كسْر عادة الجلوس لفترات طويلة.