حرية – (1/8/2024)
تحت أضواء المدينة الخافتة تهدر سيارة الإسعاف مسرعة نحو موقع الحادثة مبددة السكون بأصوات صافرات الإنذار. كل ثانية تعد حاسمة لإنقاذ حياة، وهذه السيارة تعد جسراً حيوياً بين الحياة والموت.
لكن خلف هذا المشهد اليومي في المدن المعاصرة يكمن تاريخ طويل ومعقد، فمنذ أكثر من قرنين كانت سيارات الإسعاف مجرد عربات تجر باليد، بينما اليوم تضمن التكنولوجيا الحديثة احتواءها كل ما تحتاج إليه لإنقاذ الأرواح. فكيف انتقلت هذه المركبات من عربة بسيطة إلى حافلة طبية متطورة؟
تاريخ مبكر
بدأت فكرة وجود سيارات الإسعاف فى بعض الدول خلال العصور القديمة، خاصة عام 1487، حيث كان الأسبان هم أول من استخدموا سيارات الإسعاف لنقل المصابين، وكانت فى بادئ الأمر عبارة عن عربات تجر بالخيول، وبعد انتشارها من قبل الأسبان أدركت العديد من الدول الكبرى أهمية وجود سيارات إسعاف للتصرف فى الحالات الصعبة والحروب.
خلال الحروب والكوارث كانت سيارات الإسعاف تستخدم لنقل الجرحى من أرض المعركة أو الكارثة إلى المستشفيات الميدانية، مما أسهم في تحسين نسبة النجاة وتعزيز العناية الطبية للمصابين.
لكنها كانت في البداية تواجه تحديات كبيرة شملت الطرق غير المعبدة التي تتناسب وحركتها، إضافة إلى صعوبة ضمان سلامة المعدات الطبية خلال النقل، وكذلك التوسع في تدريب الأطقم الطبية على تقديم الرعاية في ظل الظروف الصعبة.
تطور مع الزمن
تطورت سيارات الإسعاف من عربات يد بسيطة إلى مركبات مزودة بأحدث التقنيات، وأدى إدخال أجهزة الاتصالات اللاسلكية إلى تحسين التنسيق بين فرق الإسعاف والمستشفيات. كما أسهمت المعدات الطبية المتقدمة في تقديم رعاية أفضل أثناء النقل.
تقول مسعفة ومدربة في الهلال الأحمر السوري سهى النقري، إنه إلى جانب حقيبة الإسعافات الأولية التي لا تزال محتوياتها تشبه إلى حد بعيد تلك التي كانت في أول سيارة إسعاف، فإن أهم المعدات التي يجب توفرها اليوم هي النقالة ذات العجلات التي تكون سهلة الحركة من وإلى الحافلة، والمحامل المستخدمة لنقل المرضى أو حمل المصابين بكسور، وتكون مصنوعة من القماش والمعدن أو البلاستك، وأداة تسمى “سبايدر” مع مثبت الرأس وطوق الرقبة الضروري في التعامل مع حوادث السير وكسور الفخذ والرقبة والعمود الفقري.
زعيم الحزب الديمقراطي الليبرالي البريطاني إد ديفي يزور محطة إسعاف ويمبلدون، 24 يونيو 2024، في إطار حملة انتخابية
بالنسبة إلى الأجهزة، هناك أسطوانة الأوكسجين وأجهزة التنفس، وسحب الإفرازات وقياس ضغط الدم، وقياس الأوكسجين والنبض، وقياس سكر الدم وميزان الحرارة وجهاز تثبيت العمود الفقري وجهاز صدمات كهربائية للقلب لاستعادة الخفقان.
وتضيف سهى أنه مع تطور المناهج صار دليل الإسعاف عالمياً أو لغة عالمية مثل الموسيقى وفقاً لتعبيرها، بحيث يكون المسعفون قادرين على إنقاذ الأرواح واستخدام عربات الإسعاف في أي مكان وجدوا فيه بأنحاء العالم.
بعد تطوير المناهج صار واجباً أن يكون المسعفون قادرين على إجراء ما يسمى “الجراحات الصغرى” باستخدام عدة جراحية كاملة خطوات أساسية تسرع من تلبية نداءات إنقاذ الحياة.
وجعلت التكنولوجيا الحديثة من الممكن تحديد المواقع بدقة، والتواصل الفوري مع المستشفيات، وتقديم الرعاية الطبية الطارئة بكفاءة أعلى، ومن المتوقع أن يحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مجال سيارات الإسعاف من خلال تحسين نظم التوجيه، وتحليل البيانات الطبية أثناء النقل، وتقديم الدعم للطاقم الطبي في اتخاذ القرارات السريعة.
كذلك تتسارع وتيرة تطوير سيارات الإسعاف التي تدار بواسطة الروبوتات أو ذاتية القيادة في دول عدة حول العالم، إذ تلعب الولايات المتحدة وألمانيا واليابان دوراً بارزاً في هذا المجال. ففي الولايات المتحدة، تعمل شركات مثل “وايمو” و”نورو” على تطوير تكنولوجيا القيادة الذاتية، وفي ألمانيا تسعى شركات مثل “بوش” و”ديملر” إلى دمج تكنولوجيا القيادة الذاتية في مركبات الطوارئ. بينما في اليابان تستثمر شركات مثل “تويوتا” و”هوندا” في هذه التكنولوجيا بهدف تحسين استجابة الطوارئ.
أنواع مختلفة وكلفة متباينة
يقول آلان غرين مسعف في هيئة خدمات الصحة الوطنية البريطانية في مدينة نيوكاسل، إن سيارات الإسعاف تتنوع بين تلك المخصصة للطوارئ السريعة، ونقل المرضى المستقرين، ورعاية الحالات الخاصة مثل العناية المركزة، وإن كل نوع يتميز بمعدات خاصة تتناسب والاستخدام المحدد.
يوضح غرين أن سيارات الإسعاف للطوارئ مزودة بأحدث أجهزة التنفس والإنعاش، بينما سيارات النقل قد تكون أقل تجهيزاً ولكنها توفر الراحة والقدرة على الاستيعاب، كما تتضمن سيارات العناية المركزة معدات طبية متقدمة للحالات الحرجة.
متطوعو الهلال الأحمر المصري يلعبون بالبالونات مع طفل فلسطيني في سيارة إسعاف بعد إجلائه من غزة، 9 يناير 2024
تعتمد كلفة سيارات الإسعاف على نوعها والمعدات المدمجة فيها وكلف صيانتها والتدريب على استخدامها. ويمكن أن تختلف الكلف بصورة كبيرة بين البلدان بناء على مستوى تطور البنية التحتية الصحية وكلف الإنتاج والضرائب.
ويمكن تقليل الكلف من خلال شراء سيارات مستعملة ولكن مجددة وتحسين الصيانة والبرامج التدريبية واستخدام التكنولوجيا بشكل أكثر كفاءة.
وتتربع الولايات المتحدة على قائمة الدول التي تحوي سيارات الإسعاف الأكثر تجهيزاً والأعلى كلفة في العالم، بينما تحوي النرويج أكبر عدد من سيارات الإسعاف مقارنة بعدد السكان، أما هايتي أو تشاد فتعدان من بين البلدان التي تعاني نقصاً في عدد سيارات الإسعاف مقارنة بعدد السكان، فضلاً عن كون الأسطول في كثير من الأحيان قديماً وفقيراً بالتجهيزات.
سيارة مثالية وطاقم مثالي
سهى النقري تقول، إن المسعف المخول بأن يكون جزءاً من طاقم سيارة الإسعاف لا بد أن يتمتع بقوة بدينة عالية، وأن يكون سليم العقل والجسد وقادراً على تحمل التعب والإرهاق.
وتضيف سهى التي تمارس عملها بشكل تطوعي منذ عام 2012، أن روح التطوع والإقبال على العمل وحبه عوامل أساسية في شخصية المسعف، ويجب أن يكون في حال استعداد دائمة ومتقبلاً لأي حالات مفاجئة وتطورات طارئة.
تتذكر سهى في هذا الصدد التجربة التي مرت بها أثناء الاستجابة للزلزال الذي ضرب سوريا في فبراير (شباط) عام 2023، إذ كانت وفريقها على أهبة الاستعداد على مدار الساعة وفي كامل الجاهزية للاستدعاء في أي لحظة وتحت أي ظرف.
أدى إدخال أجهزة الاتصالات اللاسلكية إلى تحسين التنسيق بين فرق الإسعاف والمستشفيات
علاوة على ذلك، كما يضيف آلان غرين، لا بد أن يمتلك المسعف حباً للتطور والتعلم. وعلى رغم أن المسعفين لا يصلون إلى مرحلة الخروج في مهام ميدانية إلا بعد ما لا يقل عن عام من التدريب والاختبار والتدقيق، فإنهم يخضعون لمراجعة واختبار كل ستة أشهر للتأكد من أهليتهم للمهام الصعبة التي تناط بهم.
شاهدة اللحظات الحاسمة
تصف سهى علاقتها بسيارة الإسعاف بالوطيدة والحميمة، وتشعر بأنها صديقتها وتحتل جزءاً من حياتها وعملها، وتمنح شعوراً بالأمان للفريق العامل عليها والجهة التي يهب إلى إنقاذها على حد سواء. وتضيف أنها كانت دائماً رفيقة الدرب في كل الظروف والشاهد على عمل الفريق، وعندما تُرسل إحدى سيارات الإسعاف إلى الصيانة يشعر المسعفون بأن هناك جزءاً ناقصاً من حياتهم.
خلال مسيرة سهى الممتدة أكثر من عقد من الزمن، عاشت في هذه المركبة لحظات من الفرح الذي لا يوصف عند التمكن من إنقاذ أشخاص كانوا في أمس الحاجة إلى المساعدة، لكن في الوقت نفسه وعلى رغم كل الجهود المبذولة والسرعة القصوى التي يتوجه بها الفريق إلى أقرب مستشفى أو مركز طبي، فإن سيارة الإسعاف كانت شاهدة أيضاً على حسرة المسعفين لفقدان مريض نبضه أو تنفسه، مما يمنحها لمسة روحانية تتجاوز كونها عربة محملة بالأدوات والمعدات.
أهمية اجتماعية واقتصادية
تلعب سيارات الإسعاف دوراً حيوياً في إنقاذ الأرواح من خلال تقديم الرعاية الطارئة الفورية ونقل المرضى إلى مرافق الرعاية المتخصصة. وتعد جزءاً أساسياً من النظام الصحي، إذ تسهم في تقليل الكلف المرتبطة بالتأخير في تقديم الرعاية، وتساعد في تعزيز فعالية الخدمات الصحية، وفي الوقت نفسه، تعد مؤشراً إلى قدرة النظام الصحي وتطوره.
تشمل التحديات التي تواجهها في مختلف البلدان نقص التمويل والمشكلات اللوجيستية والاختلافات في البنية التحتية الصحية، وكذلك الكلف العالية للتكنولوجيا الجديدة والحاجة إلى تدريب متقدم بصورة مستمرة للطواقم الطبية والتعامل مع الأزمات الصحية الجديدة.
كذلك قد تؤثر التغيرات المناخية على خدمات الإسعاف من خلال زيادة حالات الطوارئ المتعلقة بالكوارث الطبيعية المتزايدة والمتنوعة.
وهكذا في كل مرة نرى فيها سيارة إسعاف تشق الطريق بسرعة فائقة، علينا تذكر أن هذه المركبات التي مرت برحلة تطور طويلة وغير يسيرة، إلى جانب طواقمها المخلصة، تستمر في كل دقيقة بلعب دور حاسم في إنقاذ الأرواح وتوفير الرعاية في لحظات تفصل حرفياً بين الحياة والموت.