حرية – (3/8/2024)
علي حمادة
يمكن القول إن ساعة الحقيقة قد دنت في الشرق الأوسط، إما تسوية شاملة أو انفجار واسع. فحرب غزة الدموية الكارثية طالت كثيراً والخسائر مهولة: أكثر من 40 ألف قتيل، و100 ألف مصاب، إضافة إلى تدمير نسبة كبيرة من البنى التحتية والمربعات السكنية، من الشمال إلى الجنوب. وقد تحول القطاع إلى بقعة جغرافية طاردة للحياة. وسيمرّ وقت طويل بعد أن تنتهي الحرب قبل أن يعاد إعمار ما تدمر، وقبل أن يبدأ أبناء غزة العودة إلى حياة شبه طبيعية. إنها مأساة المآسي، وربما كانت أقسى من مأساة النكبة نفسها التي عصفت بفلسطين عام 1948.
ولكن حتى الآن، وخلافاً لما يروج له في الإعلام الممانع، حققت اسرائيل الكثير من الأهداف التي تتجاوز الإطار الزمني الحالي، من خلال تدمير حياة أكثر من مليونين ونصف المليون من المدنيين الذين لم يتم استئذانهم في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 للقيام بعملية نسلم بأنها كانت كبيرة جداً، لا بل تاريخية قياساً بهجمات أخرى حصلت خلال 75 عاماً من الصراع العربي – الإسرائيلي، لكنها كانت وبمضاعفاتها وعواقبها تاريخية كونها أدت الى كارثة إنسانية لم يشهدها الفلسطينيون منذ 1948.
أكثر من تدمير حياة مليونين ونصف مليون فلسطيني، تحولت الحرب الإسرائيلية على غزة، التي استندت الى شعار الرد على “طوفان الأقصى” الذي أوجع إسرائيل بأسرها، إلى حرب قتل وتدمير بلا هوادة، وتحولت معها الحرب مع حركة “حماس” والفصائل الأخرى الى وقود يسمح بمتابعة الحرب على الفلسطينيين في كل مكان بشكل مفتوح ومعلن. وكانت غبار الحرب ولا تزال تخفي جزءاً كبيراً مما يحصل، وتسهم بتضييع مستقبل فلسطيني مختلف يحلم به أبناء هذه الأرض المثخنة بالجراح منذ أكثر من سبعة عقود.
لكن هنا لا بد لنا من التوقف عند مسألة غاية في الأهمية تتعلق بما أعلنه الإسرائيليون من أهداف لعملية “السيوف الحديدية”، أي لاجتياح قطاع غزة. فقد حدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ثلاثة أهداف للاجتياح: أولاً استعادة الرهائن الإسرائيليين. ثانياً تدمير حركة “حماس”. ثالثاً تغيير الواقع السياسي والأمني في غزة كي لا تعود تشكل أي خطر على إسرائيل في المستقبل. صحيح أن الرهائن الذين تمت استعادتهم قلة من أصل العدد الإجمالي، ولا تزال “حماس” تتحكم بمصير اكثر من 120 رهينة لا يزالون على قيد الحياة، لكن من خلال سلوك إسرائيل بدا واضحاً أن الهدف الأول ليس الهدف في أعلى قائمة الأولويات. فتدمير غزة فوق رؤوس أهلها، وتدمير حياة مليونين ونصف مليون غزاوي، وتدمير الحياة في القطاع لأمد طويل بما يدفع الآن، وبالأخص لاحقاً، مئات الآلاف إلى الهجرة، كانت من جملة أهداف أكثر أهمية من الأهداف المعلنة. فهل تذكرون في بداية الحرب في شهري تشرين الأول (أكتوبر) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2023 كم كان موضوع “ترانسفير” فلسطينيي غزة الى سيناء المصرية، وفلسطينيي الضفة إلى الأردن مطروحاً أقله في بعض مواقف الائتلاف الحكومي اليميني المتطرف في إسرائيل؟ بمعنى آخر، ما أن حصلت عملية “طوفان الأقصى” حتى عاد الحديث عن مخططات إسرائيلية لطالما كانت في الأدراج، وجاهزة لكي توضع على الطاولة متى سنحت الفرصة. ومع “طوفان الأقصى” سنحت الفرصة الذهبية للائتلاف الحكومي الإسرائيلي المتطرف لإحياء الأفكار والخطط المخيفة.
وهكذا يمكن القول ان إسرائيل دمرت القطاع، ومعه حياة أبناء القطاع، وأجهضت مطلب “حماس” تبييض السجون الإسرائيلية. لا بل انها ضاعفت من عدد المعتقلين. وحولت غزة الى ساحة حرب دائمة من المرحلة الأولى، الى المرحلة الثانية، والآن الى الثالثة بحيث اننا شهدنا عشرات آلاف حالات النزوح من منطقة الى أخرى ذهاباً وإياباً. كم من مرة سمعنا نازحين يقولون على شاشات التلفزة انهم اضطروا للنزوح ما بين سبع مرات وعشر مرات؟ وعليه لا بد لنا من التحفظ عن الكلام الذي يزعم أن نتنياهو لم يحقق أهدافه. فهل تحقق الزاعمون من حقيقة أهداف نتنياهو المعلنة وغير المعلنة صراحة؟
صحيح أن من يقاتلون الإسرائيليين في غزة يقومون بأعمال بطولية، لكنها محدودة قياساً بالنتيجة النهائية التي ستنتهي إليها الحرب. فقوات “حماس” والفصائل تراجعت الى حد كبير. والحرب هناك حرب شوارع وكرّ وفرّ. لكن القطاع مقسم ومجزأ، ومقطع الأوصال. والإسرائيلي لم يعد بحاجة لحشد أكثر من فرقتين من الجيش ولفرض حصار مطبق على قطاع غزة، وللقيام بغارات متنقلة ومنتقاة، وملاحقة من بقي على قيد الحياة من قادة “كتائب القسام” المعروفين، فضلاً عن القائد الذي يختصر بشخصه رمزية الحرب الراهنة، ونقصد به يحيى السنوار.
نحن لا نقصد بكلامنا هذا أن نقلل من أهمية الضربات التي تلقتها إسرائيل. فهي تخوض للمرة الأولى منذ حرب تشرين الأول 1973 حرباً وجودية. كما أنها، وبسبب ارتكاباتها المخيفة، محاصرة سياسياً، ومعنوياً، وأخلاقياً في سائر أنحاء الكرة الأرضية. لكن على الأرض الأمر مختلف. وحرب الاستنزاف التي تخوضها إيران عبر وكلائها وفصائلها في المنطقة لم تخدم في نهاية الأمر قضية الفلسطينيين، لأنها حرفت الأنظار عن القضية، وحصرت الاهتمام بالصراع الإيراني مع الغرب، ولا سيما مع القاعدة المتقدمة للغرب في المنطقة، إسرائيل.
في الثامن من تشرين الأول 2023، اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى”، وفيما كانت إسرائيل في ذروة الارتباك، لم تسارع طهران الى تنفيذ التهديدات التي أطلقتها عل مدى أربعة عقود منذ نشوء الجمهورية الإسلامية. لم تهاجم إيران إسرائيل بهدف القضاء على ما كانت تعتبره “كياناً غاصباً”. لم تنفذ ايران وعيدها بإزالة إسرائيل من الخريطة في أقل من سبع دقائق ونصف! جل ما حصل أنها باشرت من خلال “حزب الله” حرباً استنزافية منخفضة الوتيرة تحت شعار “الإسناد والمشاغلة” وأبقتها ضمن قواعد تُجهد إسرائيل لكنها لا تشكل خطراً فعلياً عليها. وكانت طهران تأمل في نهاية المطاف في أن تطيل أمد الحرب لتواكب بها حرب غزة، إنما بدأت الأمور تتفلت من ضوابطها.
ويبدو من خلال ما حصل من تفاهمات إسرائيلية – أميركية إبان زيارة بنيامين نتنياهو الأخيرة لواشنطن، أن ثمة منطقاً مختلفاً سيسود في المرحلة المقبلة، على قاعدة أن حرب غزة طالت كثيراً وحان أوان إنهائها بسرعة والانتقال الى المرحلة السياسية. وبموازاة ذلك حان الأوان لوضع حد لحرب إيران الاستنزافية التي تخوضها فصائلها من لبنان الى اليمن مروراً بالعراق وسوريا. ولم يعد مسموحاً لطهران بمواصلة استغلال حرب غزة سياسياً وعسكرياً، في سبيل التوسع الإقليمي، وحرف الأنظار عن برنامجها النووي العسكري.
ومن هنا خطورة الموقف مع تفاقم الأوضاع على جبهة لبنان، وانتقال إسرائيل الى مرحلة الهجوم بناء على معادلة جديدة: إما تسوية شاملة أو حرب شاملة. بمعنى آخر، إما أن توقف إيران حرب الاستنزاف من لبنان وغيره من ساحات فوراً، وقبل انتهاء حرب غزة، أو أن التهديد الإيراني بالحرب الشاملة سيصبح خياراً إسرائيلياً واقعياً. وقد أصبح كذلك في بضع ساعات مع اغتيال رئيس أركان “حزب الله” فؤاد شكر في ضاحية بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في قلب طهران، واستهداف الأميركيين قادة ميدانيين من الفصائل العراقية المرتبطة بإيران.