حرية – (4/8/2024)
على الأرجح، لم يسبق لإيلون ماسك أن سمع بمدينة ساوثبورت [شمال غربي المملكة المتحدة]، ناهيك بأنه لم يزرها طبعاً. الرجل على أية حال يدير خمس أو ست شركات وقد كان مشغولاً الأسبوع الجاري في عديد من الأمور كالحديث عن فنزويلا [تحدى ماسك الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو متوجهاً إليه بالقول “سأقودك إلى غونتانامو على ظهر حمار”]، وكامالا هاريس [التي تخوض السباق إلى رئاسة الولايات المتحدة]، ومثبطات البلوغ [صرح ماسك بأنه سمح لابنه بأخذ موانع البلوغ على اعتبار أن منعه من ذلك سيجعله أكثر عرضة للانتحار]، ولماذا تكذب وسائل الإعلام التقليدية علينا.
لذا من الوارد أن بعض أعمال الشغب البشعة التي اجتاحت بلدة ساحلية في مكان ما في شمال غربي إنجلترا لن تجد لها مكاناً في سجلات العبقري الغريب، الذي ربما يصبح الرجل الأكثر ثراء في العالم.
كذلك ليس مستبعداً أنك إذا أخبرت ماسك أنه كان مسؤولاً بصورة أو بأخرى عن أعمال الشغب تلك، التي اندلعت على بعد 5 آلاف ميل (8000 كيلومتر) من المنازل السبعة التي يمتلكها/امتلكها في كاليفورنيا، أنه سيهزأ بك.
ولكن هذا ما حصل. عندما قرر ماسك أن يستحوذ على ما كان يسمى آنذاك “تويتر” في مقابل 44 مليار دولار (ما يساوي 35 مليار جنيه استرليني)، فإنه تحمل بذلك المسؤولية الكاملة عما يصدر من 350 مليون مستخدم موجود على المنصة الإلكترونية. وعلى “تويتر” أو “إكس” الآن كان المكان الذي انتشر فيه فيروس كريه في أعقاب عمليات الطعن المريعة التي طاولت عدداً من الأطفال في ساوثبورت يوم الإثنين الماضي. وقد أثار هذا الفيروس أعمال الشغب التي اندلعت خلال اليوم التالي وحتى الآن. وماسك هو المسؤول عن ذلك.
حقيقتان في شأن ماسك لا بد من معرفتهما قبل أن نتناول تفاصيل الأحداث التي شهدها هذان اليومان. الحقيقة الأولى أن الرجل أقرب شخص تجده إلى حرية التعبير المطلقة. ربما يضع حداً للخطاب غير القانوني إنما فقط لأن سلطات إنفاذ القانون والهيئات التنظيمية المتنوعة قد تلاحقه، ولكن كل شيء ما عدا ذلك مباح على “إكس”. من الوارد أن يكون المحتوى بغيضاً أو تحريضياً أو عنصرياً و/أو غير صحيح تماماً، بيد أنه لن يبالي.
كانت إحدى خطواته الأولى عند الاستحواذ على “تويتر” إلغاء أو تقليص حجم المجموعات التي حاولت، ولو أنها أخفقت، في جعل الموقع مساحة للخطاب اللائق والنزيه. وقد لقيت ترحيباً كبيراً عودة الكاذبين والمروجين للمؤامرة من قبيل [مقدم البرامج الإذاعية والمؤيد لليمين المتطرف ونظريات المؤامرة] أليكس جونز.
أما الحقيقة الثانية فمفادها أن قاسماً مشتركاً يجمع بين ماسك وبين بطله دونالد ترمب، ألا وهو الازدراء المطلق لما يسميه ساخراً “وسائل الإعلام التقليدية”. خلال هذا الأسبوع فحسب أعاد نشر تغريدة لنحو 200 مليون متابع، كان نشرها ديفيد ساكس علماً أنه صديق آخر لترمب، وتقول “إن أكبر انقسام بين الناخبين هو بين الأشخاص الذين يحصلون على معلوماتهم من وسائل الإعلام المستقلة وأولئك الذين غسلت أدمغتهم وسائل الإعلام التقليدية”. وقد شاهد هذا المنشور 4 ملايين مستخدم.
لا شك أن ماسك على رغم أفعاله وتصريحاته المثيرة للجدل يتمتع بذكاء لا يمكن إنكاره. لذلك، عندما يزعم أن “تويتر” هو مصدر الحقيقة وأن وسائل الإعلام السائدة مليئة بالأكاذيب، فقد يكون من الحكمة عدم أخذ هذه التصريحات على محمل الجد. قد تكون هذه التعليقات مبالغاً فيها أو استراتيجية وليست معتقدات حرفية. ولكنه من الممكن في اعتقادي أن يكون رجلاً طائشاً ومتغطرساً، وقد لا يفكر بعمق في الآثار أو العواقب المترتبة على ما يحدث على منصته وفي أماكن أخرى، هذا الأسبوع.
إليكم ما جرى، في غضون ساعات من إلقاء القبض على صبي من منطقة ساوثبورت يبلغ من العمر 17 سنة بتهمة الطعن الجماعي، بدأت روايات مغلوطة تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي حول “علي الشكاتي” كما سمته، مهاجر مسلم في المملكة المتحدة، زاعمة أنه كان مدرجاً على قائمة مراقبة جهاز الاستخبارات البريطاني “أم آي 6” MI6 وأنه كان طالب لجوء ومعروفاً لدى خدمات الصحة العقلية والنفسية في ليفربول.
لم يكن أي من الكلام المذكور آنفاً صحيحاً ولكن البحث الذي أجراه المتخصص في استراتيجيات التضليل والتحكم في المعلومات الرقمية الدكتور مارك أوين جونز تتبع كيف أن هذا النوع من التكهنات أدى سريعاً إلى ظهور 27 مليون تفاعل على منشورات ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي.
أندرو تيت الذي أعلن نفسه كارهاً للنساء والذي يواجه دعاوى اغتصاب ويتابعه زهاء 10 ملايين مستخدم على “إكس” نشر صورة مزيفة للمنفذ المفترض للهجوم، زاعماً أنه “مهاجر غير شرعي” على رغم أن الشرطة أخبرتنا بحلول ذلك الوقت أنه مولود في مدينة كارديف الإنجليزية منذ 17 عاماً. ولكن هذه المعلومات، بحسب تيت، كانت كذبة روج لها ما يسميه “الماتريكس” (المصفوفة).
وأحد أبرز الجهات المروجة لهذه الادعاءات غير الصحيحة تنظيم غامض يطلق على نفسه اسم “شانيل3 ناو” Channel3 Now. ليس واضحاً أبداً من يقف وراء هذه الجماعة. ولكن سرعان ما اكتشف صحافيون استقصائيون أنها بدأت نشاطها كقناة تنشر مقاطع فيديو لسيارات السباق الروسية. وربما يعمل على تشغيلها الآن من مكان محدد في باكستان أو الولايات المتحدة. إنه الإنجاز الذي حققته “وسائل الإعلام المستقلة” التي يحبها ماسك. لا تملك أدنى فكرة عن هوية نصف مروجي الادعاءات الكاذبة.
أما النصف الآخر من مروجي الأكاذيب، الأشخاص الأكثر ذكاء الذين يلمحون فحسب أو يغمزون مجازاً فيما يرددون الأخبار الكاذبة أو يشككون في الحقيقة، فتراهم معروفين أكثر.
صديقنا القديم تومي روبنسون مجرم عنصري يسمي نفسه “صحافياً” ويتابعه 800 ألف مستخدم على منصة ماسك. لقد تطرق بانسيابية تامة إلى حادثة الطعن التي شهدتها ساوثبورت في سياق العنف الإسلامي. كذلك يتابعه عدد كبير من رجال العصابات والمجرمين المستعدين تماماً للنزول إلى الشوارع. ويسعنا على ما أعتقد أن نقول إن تومي كان يعي تماماً ما يفعله.
وأعلن لورنس فوكس المذيع السابق لدى قناة “جي بي نيوز” البريطانية [المعروفة بتوجهاتها اليمينية] والذي يتابعه نصف مليون مستخدم على “تويتر”، “كفانا هذا الجنون الآن. علينا أن نزيل الإسلام من بريطانيا العظمى بصورة دائمة”.
وعلى قناته القديمة التي يمولها الرجل الذي يريد أن يمتلك صحيفة “الديلي تلغراف” سمح أحد المذيعين لشرطي متقاعد بأن يصول ويجول في كلامه، على أساس أن منفذ الهجوم “ربما يكون متحدراً من أصول صومالية أو شرق أفريقية… يعتقدون إنه من خلفية مسلمة، لذا لا بد من السيطرة على الوضع”.
وعلى نحو أكثر سلاسة أشار زعيم حزب ريفورم [الإصلاح] نايجل فاراج في شريط فيديو وليس في مجلس العموم البريطاني إلى أن الحقيقة محجوبة عنا، وتساءل لماذا لا يكون التعامل مع الحادثة باعتباره عملاً إرهابياً. يبدو إننا إزاء استراتيجية “صافرة الكلب” [إحدى التكتيكات التي يلجأ إليها الساسة في تمرير الرسائل الضمنية للجماهير وحشد حماستها] التي لجأ إليها نايجل قديماً.
وفي غضون 24 ساعة تمكن جونز من تجميع ونشر خريطة للحسابات الإلكترونية الرئيسة التي نشرت معلومات مضللة. لو أن ماسك أعار الحقيقة أي اهتمام لكان فريقه فعل الأمر نفسه. لدينا كامل الحق في أن نقول إنه لا يبالي.
لا أظن أنه يعرف أو يهتم أساساً بتجمع مئات من مثيري الشغب في مسجد في ساوثبورت ليلة الثلاثاء الماضي، وإصابة العشرات من رجال الشرطة. إذا كنت من أنصار حرية التعبير المطلقة فإن عواقب المحتوى الذي تسمح به على منصتك ليست من شأنك.
لا ريب، يريد ماسك أن يفوز دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. أغنى رجل في العالم يتحالف مع أقوى رجل في العالم وتغمر السعادة كليهما إذ يشاهدان الأكاذيب تبتلع الحقيقة. ببساطة، إن لم تعرف أية جهة أهل بأن تعطيها ثقتك وتصدقها فإنك ستصدق أي شيء.
نواجه خطر العودة بالزمن إلى العالم الذي عملت الفيلسوفة والمنظرة السياسية حنة أرندت على تشريحة تشريحاً دقيقاً بعد ستة أعوام على الحرب العالمية الثانية “المواطن الصالح في الحكم الشمولي ليس النازي المخلص أو الشيوعي المقتنع، بل الأشخاص الذين لم يفقدوا القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال (أي واقع التجربة) وبين الصواب والخطأ (أي معايير الفكر)”.
ومن ناحية أخرى في المملكة المتحدة نحن نتعافى تواً من حكومة كان جزءاً من مهمتها الأساس إضعاف وتقويض هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، التي على رغم كل أخطائها ما زالت متشبثة بكونها الجهة الأكثر ثقة والمتاحة للجميع، التي تزودنا بالمعلومات الدقيقة.
كانت عمليات الطعن التي قاستها ساوثبورت الأسبوع الجاري مؤلمة ومروعة ربما تمر أشهر قبل أن نرسم صورة حقيقية وشاملة عن الأسباب وراء حدوثها. إنما أقله فنحن نعرف الآن الاسم الحقيقي للمشتبه فيه [الشاب البريطاني] أكسل روداكوبانا. ولكن الأحداث التي نشبت بعد ذلك كانت بطريقة ما مرعبة أيضاً. وقد جعلها ماسك ممكنة كما لو أنه لا يعرف ولا يكترث.