حرية – (11/8/2024)
“فتنة الربض” هي الرواية الرابعة للموريتاني محمد ولد محمد سالم، بعد “أشياء من عالم قديم” و”دروب عبر البركة” و”دحان”. وقد صدرت أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وصاحبها روائي وصحافي وناشط ثقافي، سبق أن كرمه اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين في عام 2014، وفازت روايته “دحان” بجائزة أفضل رواية موريتانية في عام 2016.
في روايته الرابعة، يطرح سالم التحولات في مدينة قرطبة الأندلسية وانعكاساتها على أهل المدينة وأرباضها، في القرن الثاني الهجري، في عهد الحكم بن هشام بن عبدالرحمن الداخل، ثالث أمراء بني أمية في الجزيرة الأندلسية. وهي تحولات تحدث في إطار الصراع بين السلطة والعامة، الذي ينتظم أحداث الرواية، وتترتب عليه نتائج مدمرة، تتمظهر في سقوط مئات الضحايا، وإخلاء بعض الأرباض من أهلها، وتسوية أبنيتها بالأرض.
الرواية الموريتانية
على أنه قبل الخوض في هذه التحولات، لا بد من الإشارة إلى أن الكاتب يصطنع في روايته صيغة عرفتها روايات عربية كثيرة، من خلال الزعم أن نص الرواية يعود لكاتب أندلسي مجهول يشير إليه بالأحرف الأولى من اسمه “م م س”، وأنه عثر عليه صدفة في أحد المواقع خلال بحثه عن رواية يقرأها. ولعله يصطنع هذه الصيغة، في محاولة منه للإيهام بصدق ما يروي وإثارة فضول القارئ، غير أن هذه المحاولة سرعان ما تبوء بالفشل، حين نكتشف أن الأحرف الأولى من اسم الكاتب المجهول هي نفسها الأحرف الأولى من اسم الروائي، وحين يشير إلى أن الرواية مكتوبة بـ”أسلوب معاصر، لا غبار عليه، حتى في التوزيع وعلامات الترقيم، ومن ناحية الشكل أو تقنية الكتابة”، وأن صاحبها “وظف كل أساليب الرواية الحديثة” (ص 8). فمن أين لكاتب أندلسي في القرن الثاني الهجري أن يكتب رواية حديثة بتقنيات القرن الـ21؟
في العنوان، يضيف الكاتب كلمة “فتنة” التي تعني، في اللغة والاصطلاح، الابتلاء والاختبار بالنار وانشغال الفكر والوقوع في المكروه إلى كلمة “الربض”، والربض في اللغة هو “مأوى الغنم وغيرها من الدواب”، وهو “ما ولي الأرض من البعير وغيره إذا ربض”، وهو “كل ما تأوي إليه وتستريح إليه من أم وزوج وبنت وقرابة وبيت وغيره”. وبكلمة أخرى هو ضاحية من ضواحي المدينة بناسها ودوابها. وفي المتن، فتنة الربض هي الأحداث التي تجري في ربض شقندة وغيره من أرباض مدينة قرطبة الأندلسية، في عهد الحكم بن هشام بن عبدالرحمن في القرن الثاني الهجري، مما يعني أننا إزاء رواية مادتها الأولية تاريخية وطريقة تشكيلها روائية. وماهية المادة وكيفية تشكيلها هما مدار هذه القراءة.
وقائع تاريخية
الروائي محمد ولد سالم
تتألف المادة الأولية في “فتنة الربض” من ثلاث وقائع تاريخية كبرى، في الأقل، شهدتها مدينة قرطبة في حينه، هي: إعدام 10 رجال من ربض شقندة بتهمة التحريض على ولي الأمر، إعدام 80 رجلاً من سائر الأرباض بالتهمة نفسها، وتعليق 300 رجل عند رصيف النهر بتهمة الشروع في خلع الأمير. وتنخرط في هذه الوقائع مجموعة من الشخوص التاريخية كالأمير وبعض وزرائه وعدد من الفقهاء المعروفين بالأسماء، وشخوص روائية أخرى من عامة الناس. ويقوم محمد ولد محمد سالم بتشكيل هذه الوقائع والمنخرطين فيها، في صيغة روائية، يخترع فيها المشاهد الروائية، ويضع الحوارات على ألسنة الشخوص، ويحركها في الأماكن الروائية المختلفة حتى تبلغ الرواية خواتيمها المنشودة. وبذلك، يشكل التاريخي مادة أولية للروائي، ويتكفل الروائي بتشكيل هذه المادة وفق مقتضياته الفنية.
انطلاقاً من الصيغة التي يتخذها الكاتب لروي روايته، القائمة على تقديم الإطار على المحتوى، يسند مهمة الروي إلى الكاتب المزعوم للرواية، فيمهد لمهمته بالقول: “وبعد: فهذا رق قد قررت بعد أن استخرت الله واستعنت به أن أدون فيه أحداث فتنة الربض في قرطبة مما رأيته بأم عيني مشاهدة، أو رويته عن الثقات مشافهة من تفاصيل وقعت فيها بعد أن خرجت منها هارباً” (ص 10). وهو يفعل ذلك، بعد أن بلغ الـ60 من العمر، يصلي بالناس في المسجد ويعلم صبيان المسلمين القرآن، ويشعر أنه غفل لم يأت في حياته بما يجعله مذكوراً من الآخرين. وهكذا، نكون إزاء راو من عامة الناس، هو شاهد عيان وسماع على مرحلة تاريخية عاشها في الـ20 من العمر. فتجمع شهادته بين سيرته باعتباره الراوي وأحد شخوص الرواية، من جهة، وسيرة المدينة وتحولاتها، من جهة ثانية. وتوائم بين الرواية والتاريخ في الآن نفسه.
ذروات ثلاث
تتم التحولات، الخاصة والعامة، في الرواية، في إطار الصراع على السلطة بين الحاكم والمحكومين، وهو الصراع المحوري فيها، الذي تحف به صراعات فرعية أخرى. ففي معرض العلاقة بين الطرفين، تتراكم التجاذبات، على أنواعها، وتبلغ في تراكمها ذروات ثلاث، تتدرج صعداً حتى تصل نقطة الانفجار واللاعودة، في الذروة الثالثة والأخيرة. وإذا كانت هذه الذروات عبارة عن وقائع تاريخية معروفة شهدتها قرطبة، فإن الأسباب المباشرة لحدوثها هي وقائع روائية يخترعها الكاتب. وبذلك، نقع في النص على جدلية العلاقة بين الروائي والتاريخي، ذلك أن تجرؤ المحتجين على فرض ضريبة الجهاد في ربض شقندة يدفع بالحكم الحاكم إلى تعليق 10 رجال من المحرضين عليه، ومحاولة أعيان الأرباض المختلفة عزله وتنصيب آخر من السلالة نفسها بديلاً عنه يؤدي إلى قيامه بتعليق 80 من هؤلاء الأعيان، واندلاع الهيج إثر مقتل أحد صقالبة القصر، خلال اعتدائه على صاحب دكان، يقود إلى تعليق 300 رجل من قرطبة وأرباضها المختلفة. وهنا يبلغ السيل الزبى، ويترتب على ذلك مقتلة كبيرة وتهجير أكبر وتسوية بعض الأرباض بالأرض. وهكذا، يزاوج ولد محمد سالم بين الوقائع الروائية والتاريخية، ويجعل الأولى أسباباً مباشرة للثانية.
فئات ثلاث
هذه الوقائع تنخرط فيها مجموعة من الشخوص التاريخية والروائية، ويمكن تصنيفها في فئات ثلاث: الفئة الحاكمة والفئة المحكومة والفقهاء. ولكل من الفئات الثلاث دورها في الرواية الذي يتناسب مع موقعها، فالفئة الأولى يمثلها الأمير الحكم ومساعدوه، ويتبين من مجرى الأحداث أنه شخصية قيادية، تضع السيف في موضع السيف والندى في موضع الندى، ولا تزر وازرة بالنسبة إليها وزر أخرى. لذلك، لا يتورع عن تعليق المحرضين عليه والمتظاهرين ضده والراغبين في عزله، من جهة، ويحاور الفقهاء ويصغي إليهم ويعفو عمن استشفعه منهم، من جهة ثانية. ولعل هذه الصفات وغيرها هي التي جعلته ينتصر على معارضيه ويشتت شملهم، على رغم أنه يتحمل مسؤولية تفاقم الأوضاع تباعاً حتى بلوغها نقطة اللاعودة، فهو بفرض ضريبة الجهاد على المتخلفين عن القيام به يثقل كاهلهم ويؤجج نقمتهم عليه. وهو باستيراد الصقالبة لخدمة حريمه وحماية قصره، وبإخصاء فتية مسلمين وإلحاقهم بجناح الحريم، وبإقامة مجالس الشراب في قصره، يثير حفيظة الفقهاء عليه، مما يجعلهم ينحازون إلى العامة في صراعهم ضده، ويدفعون الأثمان الغالية.
الفئة الثانية في الرواية هي فئة العامة التي يمثلها الراوي وأصدقاؤه والمتعالقون معه، ويطغى على هؤلاء الغوغائية والارتجال وانعدام التخطيط واستسهال العنف، مما يترتب عليه عواقب وخيمة. فالراوي/ الكاتب المزعوم يتقلب بين أعمال شتى، ويتقن مهنة الحدادة إلى حد القدرة على مواكبة الألحان بمطرقته، وينفتح على الآخر ويتفاعل معه، فيعمل لدي ربي عمل مسيحيين، ويصادق حاييم الإشبيلي اليهودي، ويتتلمذ على الفقيه طالوت بن عبدالجبار المعافري، ويحظى بالحظوة لديه، ويحلم بمستقبل أفضل. غير أن حميته الزائدة تورده موارد التهلكة، فلا يتورع عن سب الأمير على رؤوس الأشهاد، ويدخر له كرهاً مقيماً، حتى إذا ما اندلع الهيج الأخير، ينضم إلى الهائجين، ويقتل عنصرين من الجنود الصقالبة، ويصاب بجرح عميق جراء وطأة فرس. وحين ينجح الأمير في القضاء على الهيج، يلجأ إلى أمه التي تتدبر أمر الخروج من قرطبة وأرباضها كي تنقذ أسرتها، فيخسر بيته وربضه وعمله ومدينته وأحلامه، ويندم لات ساعة مندم.
وحين يعود إلى قرطبة متسللاً بعد وفاة أمه لعله يستعيد ما خسر، ينصحه أستاذه الفقيه طالوت ورب عمله أبو أيوب الحداد بمغادرة المدينة خوفاً على سلامته، فيفعل، حتى إذا ما أشرف عليها من تلة مشرفة ورأى اللون الأحمر قد علاها، كأنما غسلت بدماء الموتى، أدرك أنها ماتت، وأنه خرج منها إلى غير رجعة. وبذلك، يدفع ثمن تهوره وتسرعه وانزلاقه إلى المشاركة في الفتنة، وهو ما ينطبق على فئة العامة بصورة عامة. غير أن المفارق، في هذا السياق، هو أن المرأة المتحدرة من هذه الفئة تلعب دوراً بناءً، فأم الراوي تبدي كثيراً من القوة والحكمة وتتمكن من إنقاذ أسرتها من موت محتم، وأم سلام التي فقدت زوجها في احتجاج شقندة وابنها في الهيج الأخير، وتخشى على بناتها من رجال السوء، تقود تظاهرة نسائية إلى القصر وتطلب وقف المحنة ورفع يد الجند عن أهل الربض، ويكون لها ما تريد.
بين السلطة والعامة تتموضع فئة الفقهاء، ويمثلهم في الرواية الفقيه طالوت بن عبدالجبار المعافري وآخرون. وإذا كانت هذه الفئة عبر التاريخ كثيراً ما اتخذت جانب السلطة، فبررت أعمالها وأفتت برأيها وحرمت الخروج عليها، فإن الفقهاء في الرواية يكسرون هذه الصورة النمطية، وينحازون بمعظمهم إلى العامة، لا سيما بعد إعراض الحكم عن الأخذ بآرائهم، وانغماسه في الملذات، وارتكابه الموبقات. لذلك، لا يتورعون عن عقد الاجتماعات والتداول في خلعه عن كرسي الإمارة، ويدفعون الأثمان الغالية قتلاً وتهجيراً وطلباً للعفو. ولعل خير من يمثل هذه الفئة في الرواية الفقيه طالوت بن عبدالجبار المعافري، بما يبديه من زهد في الدنيا، وحرص على إسداء النصح للحاكم، والتدخل لدى بعض الممتنعين عن دفع الضريبة للعودة عن امتناعهم، والانفتاح على الآخر المختلف واحترام اختلافه، والمجاهرة بحقيقة موقفه في حضرة الحاكم، ولعل هذه الصفات هي التي جعلت الأخير يعفو عنه ويعيده إلى سالف عهده.
وبعد، إذا كان من رسالة روائية تنطوي عليها “فتنة الربض” فهي عدم إيقاظ الفتنة النائمة، وعدم الانخراط فيها إذا ما استيقظت، وتوخي الوسائل الأخرى في رفع الظلم وتحقيق العدل. ولعل ما نشهده من أحداث في غير منطقة عربية يقوم دليلاً على صحة هذه الرسالة.