حرية – (11/8/2024)
فاروق يوسف
“العراقيون أحرار باختياراتهم بما لا يتعارض مع ثوابت الشريعة وأسس الديموقراطية”. فقرة مجتزأة من الدستور العراقي الجديد الذي كُتب وأُقر عام 2005 في ظل الاحتلال الأميركي، هي الشعار الذي يرفعه دعاة تغيير قانون الأحوال المدنية أو تعديله في وجه مَن يتهمونهم بمحاولة تدمير الحياة الأسرية واستلاب حقوق المرأة وتحويلها إلى سلعة، والأخطر من ذلك الاعتداء على الطفولة وتزويج الإناث في سن الطفولة.
ولكن من هي الجهات التي تسعى إلى فرض ذلك القانون؟
“الإطار التنسيقي”، وهو التسمية الرسمية للتحالف الشيعي الحاكم، هي الجهة التي تصر على تمرير القانون الجديد بذريعة أنه ينظم أموراً تتعلق بالأحوال المدنية الخاصة بكل مذهب أو دين وهي خطوة ضرورية لتطبيع التجاذب الطائفي اجتماعياً. بالنسبة إلى الأحزاب الشيعية الحاكمة، فإن نظاماً سياسياً طائفياً يتيح لها فرصة الاحتفاظ بالسلطة لا يمكن أن يحقق استقراره إلا من خلال إقامة مجتمع ذكوري طائفي يفقد المرأة حقوقها ويشل حركتها ويُقصيها بعيداً عن التفكير في بناء مجتمع يساوي بين أفراده ولا يخضع للتمييز.
لهذا يمكن القول إن اجتثاث قدرة المرأة على التفكير بحرية المجتمع منذ طفولتها هو الهدف الأهم من القانون الجديد الذي يقر زواج الإناث في سن التاسعة. وهو نوع من العبودية سبق لتنظيمات إرهابية متشددة دينياً مثل تنظيم “داعش” أن سعت إلى فرضه على المجتمعات التي تمكنت عن طريق التآمر من السيطرة عليها واستلاب حقوقها.
الحرية بمعنى الفوضى
كأي مفهوم في العراق الجديد الذي أقامه الأميركيون منذ أن تم تدمير دولته التاريخية، فإن مفهوم “الحرية” يُستعمل بطريقة مجانية. وهو يعني في أحوال كثيرة “إفعل ما تشاء لكن في ظل حماية طائفية أو قبلية أو عائلية”، وهو مفهوم لا تطبقه دولة دينية مثل إيران. الدولة الدينية التي تحاول الأحزاب الشيعية أن تفرضها على العراقيين هي دولة من طراز خاص، تخلفها ينطوي على الكثير من المغالاة في الفقر والحرمان والتعسف والتمييز والإلغاء والعزل. وهي دولة غير مبالية بشعبها بدليل أن المحافظات ذات الأغلبية الشيعية هي الأكثر تخلفاً في الخدمات، إذ فتك بها الفساد في مقابل انتشار السلاح والمخدرات فيها، وهو ما لا يعانيه الإقليم الكردي وما لا يشكل ظاهرة بارزة في المحافظات ذات الأغلبية السنية. الشيعة إذاً صاروا بعدما تمكنت “أحزابهم” وهي ليست كذلك من الحكم محكومين بحرية زائفة. حرية تقتلهم كل يوم وهم يهبون أصواتهم إلى الميليشيات التي هي واجهة للنظام السياسي الذي يُفترض أنه يمثلهم. لا أعتقد أن القول بأن الأميركيين قد ضللوا الشيعة هو قول صحيح. الصحيح أن الأميركيين فرضوا نظاماً سياسياً هو وسيلتهم المتاحة لتدمير العراق من خلال تمزيق نسيجه الاجتماعي ولم تكن لديهم أصلاً رغبة في استفتاء رأي الشعب العراقي. الحرية وهي المفردة التي يُساء استعمالها في مجلس النواب العراقي لم يتنفس شيعة العراق هواءها بعدما حُرموا من استعادة الخدمات التي كانوا يتمتعون بها في ظل النظام السابق.
العودة إلى ما قبل الدولة الحديثة
أولى المشرّع العراقي المسألة المذهبية ما يليق بها من اعتبار في قانون الأحوال المدنية الذي لا يزال ساري المفعول. فهناك محاكم شرعية للزواج وفق المذهب الجعفري أو المذهب الحنفي، مع الحرص على حقوق المرأة في الإرث والنفقة ورعاية الأطفال ما لم تتزوج، كما أن تعدد الزوجات تم تقييده بظروف استثنائية، وهو ما يعني أن ذلك القانون لم يقع في مشكلة مذهبية ولم يغبن طائفة حقها في التمتع بما ينص عليه فقهها في ذلك المجال، حتى أن كثيراً من النساء من أتباع المذهب الحنفي كن يفضلن الزواج على المذهب الجعفري، كونه من وجهة نظر البعض يضمن حقوقهن أكثر من المذهب الآخر.
لم تكن حرية الاختيار بين المذهبين لتصطدم بأي نوع من التشدد الطائفي. لا لشيء إلا لأن المحاكم لم تكن طائفية. لذلك فإن الحديث عن الحرية المذهبية لإقرار قانون جديد يفقد النساء حقوقهن في الميراث والنفقة ويعتبرهن مجرد سلعة للمتعة هو نوع من النفاق الذي يُراد منه التغطية على جريمة التمييز بين الجنسين من أجل فرض شروط لا إنسانية على المرأة تبدأ بزواج القاصرات ولا تنتهي عند حصر الزواج بمتعة الرجل. ومن المهم هنا الإشارة إلى أن دعاة القانون الجديد وهم يستندون إلى ثقافة داعشية لم يستشيروا خبراء في القانون المدني، بل عادوا إلى محاولات سبق للميليشيات أن قامت بها من أجل فرض قوانينها على المجتمع العراقي في وقت كانت فيه الدولة العراقية قد انهارت بالكامل. وإذا ما أُقر القانون الجديد من قبل مجلس النواب فإن المجتمع العراقي سيذهب إلى أقصى نقاط جاهليته. وهو ما يعني العودة به إلى مرحلة ما قبل الدولة.
مصير العراق ومجتمعه
هل هناك حاجة فعلية لتغيير قانون الأحوال المدنية في العراق بطريقة أكثر عنفاً من تلك الطريقة التي حاولت “حركة النهضة” من خلالها تغيير قانون مشابه في تونس وفشلت؟
يعتبر القانون الجديد محاولة لفرض أسس دولة دينية هي أكثر تشدداً من سواها، وهو بداية لإخضاع المجتمع العراقي لإرادة الميليشيات التي ترى في قيام دولة القانون عدواً لمصالحها. من خلال القانون الجديد سيتم إلباس الفوضى ثوباً قانونياً. ذلك هو العنوان الأشد قسوة على النساء بعدما فُرض ارتداء الحجاب على البنات في الكثير من المدارس الابتدائية. وإذا ما كانت الحكومة لم تصدر قراراً بذلك، فإن وزارة التربية صارت تغض النظر عن القرارات التي يتخذها مديرو المدارس الذين يتم تعيينهم بتزكية من الميليشيات. وهو ما يعني أن جيلاً من النساء سينشأ عير مؤمن بحرية المرأة وليس لديه ما يؤهله عقلياً للاعتراض على التمييز. ذلك هو الجيل الذي سيقبل بالفقر باعتباره قدراً وبالمرض باعتباره اختباراً وبالجهل باعتباره حكمة. لا يتعلق الموضوع إذاً بالأحوال المدنية بل بمصير العراق ومجتمعه.