حرية – (11/8/2024)
ذات يوم قبل سنوات أرادت صحيفة عربية كبرى أن تمجد فن السينما من خلال نشر قول للزعيم السوفياتي لينين يمجد وجودها ودورها المستقبلي في حياة الشعب. ولكن بما أن الرقابة في بلدها لم تكن تستسيغ ذكر القائد الشيوعي، رأت الصحيفة أن من الأسلم أن تنسب القول إلى نابليون الذي عاش ومات قبل ولادة السينما بقرن من الزمن لكنه قال مع ذلك وبحسب الصحيفة إن السينما هي الفن الأكثر فائدة للشعب. ومهما يكن نعود هنا إلى موضوعنا الأوبرالي الرئيس لنقول إنه كان من الأجدر للصحيفة لو كانت تسعى إلى تكريم علاقة نابليون بالفن أن تتحدث عن الفن الشكيلي الذي شجعه بقوة ولكن كذلك وبخاصة عن تلك الأوبرا الإيطالية الكبيرة التي كان هو وراء وجودها “فرناندو كورتيس”، علماً أن أطرف ما في حكاية هذه الأوبرا هي أنها تبدأ مع مغنية الأوبرا الراحلة ماريا كالاس، ذلك أنه لولا أن كالاس، أقدمت عام 1954، على نفض الغبار عن واحدة من أفضل أوبرات الإيطالي غاسباري سبونتيني، وهي “الفستولا”، لتقدمها على خشبة سكالا من إخراج لوكينو فسكونتي، لكان سبونتيني بقي شبه منسي. ذلك أن شيئاً من النسيان، غير المبرر على أية حال، كان قد طوى أعمال هذا الموسيقي طوال ما يقارب قرناً ونصف القرن، على رغم أنه طوال الربع الأول من القرن الـ19 كان ملء السمع والبصر، لا سيما في باريس.
الموسيقار الإيطالي غاسباري سبونتيني
من الحرب إلى الموسيقى
على رغم أن سبونتيني إيطالي الأصل وكان يعد أواخر القرن الـ18 واحداً من أبرز المجددين في فن الأوبرا الإيطالية، لم تعم شهرته تماماً إلا في العقد الأول من القرن التالي، حين كان يعيش في باريس وكلفه نابليون أن يلحن أوبراه التي صارت الأشهر بين أعماله لاحقاً: “فرناندو كورتيس”. والحقيقة أن كثراً دهشوا يومها، إذ إن نابليون العائد من حروب “شبه الجزر” (أي حروبه الإيطالية)، حين أراد أن يكلف واحداً من موسيقيي باريس الكبار بتلحين أوبرا كان همه منها أن تكون أشبه بدعاية سياسية، وقع اختياره على سبونتيني بدلاً من أن يختار فرنسياً. والحال أن ذلك الاختيار عزاه كثر من معارضي نابليون إلى كونه “يحن إلى أصوله الكورسيكية الإيطالية”، لكن الواقع كان غير هذا. الواقع أن مستشاري نابليون الفنيين، كانوا هم الذين نصحوه بسبونتيني، لأن هذا كان في ذلك الحين قد عرف كيف يعيد ابتكار فن الأوبرا التاريخي الاستعراضي الكبير، مطوراً الحس التراجيدي عند سلفه غلوك، محولاً إياه إلى بعد ميلودرامي أتى متواكباً مع الذوق الشعبي. وكان جل اهتمام نابليون في ذلك الحين أن يصل ذلك العمل، المملوء بالأبعاد الدلالية والتلميحات السياسية التي تصب في خانة الحاكم الفرنسي، إلى أعرض جمهور ممكن.
نظرة أخرى إلى الغزاة
تبدأ الأوبرا وكورتيس ورجاله – علماً أن الجمهور فهم بسرعة أن كورتيس ما هو هنا سوى قناع لنابليون – ومعهم شقيقة الملك المكسيكي مونتزوما التي تخلت عن قومها لتتبع كورتيس وضباطه ومساعديه، يتقدمون إلى حيث مونتزوما، عند أبواب مدينة المكسيك، والذي كان في تلك الأثناء يتأرجح بين حالين، فهو من ناحية يشعر أن من واجبه الوطني أن يحارب الغزاة مهما كلف الأمر، ومن ناحية ثانية يشعر بإعجاب شديد إزاء كورتيس الذي يعده بطلاً حقيقياً، مع شعوره بأن أخته أمازيلي لم تكن مخطئة حين وجدت أن كورتيس هو المنتقم لها من الإهانة الكبرى التي كان الكاهن الأكبر قد ألحقها بها. في أثناء ذلك كان تلاسكو الطامع في الحكم وفي فؤاد الأميرة قد بعث إلى الغازي الإسباني رسولاً يحمل إليه الهدايا، طالباً منه أن يعيد أمازيلي إلى أهلها وبلدها.
غير أن كورتيس قابل تلك المهمة بتصرف غير سليم، إذ إنه سرعان ما أمر بأسر تلاسكو، ثم عاد وأطلق سراحه حين أتته أنباء كاذبة، لم يتحقق أول الأمر من كذبها، تفيد بأن أخاه آلفارو، الذي كان قد أسر لدى المكسيكيين أطلق سراحه. وهكذا يعود تلاسكو إلى المكسيك، محرضاً الجمهور ضد كورتيس، متسبباً في اندلاع أعمال عنف وشغب، وذلك بالاتفاق مع الكاهن الأكبر الذي كان وافقه أيضاً على أن ليس من الضروري الآن أن تعود أمازيلي. بعد ذلك يقوم الكاهن الأكبر وتلاسكو بإعدام آلفارو، فيما كانت أمازيلي تعلن أنها مستعدة لأن تقدم نفسها قرباناً حتى لا تجري إثر ذلك أنهار من الدماء. وهنا إذ تصل إلى كورتيس أنباء إعدام أخيه، يستبد به الغضب الشديد ويهاجم المدينة. غير أن مونتزوما، بدلاً من أن يسهم في قرع طبول الحرب، رداً على الهجوم الإسباني الساحق لكنه يبدل رأيه إذ تصله أنباء متتالية عن كرم أخلاق الزعيم الغازي إزاء الشعب وكونه لم يوجه سهام غضبه إلا إلى الكاهن الأكبر وتلاسكو وأتباعهما…
نابليون: الموسيقى في خدمة الدعاية السياسية
احتفال على شرف الغزاة
وهكذا وحتى قبل أن تتضح سيطرة كورتيس التامة على المدينة، يأمر مونتزوما، بأن يقيم المكسيكيون الاحتفالات الصاخبة للترحيب بالغزاة وقد صاروا، في رأيه، ضيوفاً… بل حتى أمر مونتزوما بأن تكون الاحتفالات كلها على شرف الانتصار المزدوج الذي اعتبره انتصار كورتيس وأمازيلي.
في إزاء هذه الحكاية قد يتساءل القارئ: أين هي السياسة النابليونية من هذا كله؟ ببساطة، كان نابليون يستعد لشن هجوم كبير على إسبانيا ويريد من تلك الأوبرا، التي أعطي إنتاجها موازنة ودعاية كبيرتين، أن يلفت نظر الجمهور إلى مشاريعه “الحربجية” تلك، لا سيما بالنسبة إلى إسبانيا. وهو، قبل أي شيء آخر، كان يريد أن يعطي مشروع الغزو نفسه طابعاً غير عدواني على الإطلاق جاعلاً الغزو لا يعود مثل في هذه الحال – اعتداء شعب على شعب آخر، بل تمازجاً بين الشعبين (ترمز إليه ازدواجية كورتيس/ أمازيلي)، ثم إن مثل هذا “الغزو” يصبح بالأحرى “تخليصاً للشعب الذي غزيت أرضه من حكام ظالمين ومن فتنة داخلية”، وهذا، بالتحديد، ما ينم عنه موقف مونتزوما، الذي يعد وصول كورتيس، متناغماً مع ابنة بلده أمازيلي، إلى المكسيك، نصرة لشعب المكسيك كما نصرة له هو نفسه، على التحالف الشرير الشيطاني الذي قام بين الكاهن وتلاسكو.
الرسالة التي لم تصل
كانت هذه هي المعاني التي توخى نابليون من هذه الأوبرا، التي راهن عليها كثيراً، أن توصلها إلى الجمهور. لكن هذه الرسالة لم تصل، بل إن ما وصل إلى الجمهور كان رسالة معاكسة تماماً: فالمتفرجون الذين، بانبهارهم بالموسيقى الرائعة التي وضعها سبونتيني، أحسوا أنهم مأخوذون بمعان تتجاوز المعنى المباشر، وقفوا يصفقون خصوصاً للبطولات الخارقة التي أبداها المكسيكيون في وجه الغزاة الإسبان أول الأمر. ولقد انعكس هذا لاحقاً، حين راح الإسبان يقاومون الغزو النابليوني مما بهر المتفرجين أكثر وأكثر، معتبرين فن سبونتيني “فناً يناضل ضد كل غزو وكل احتلال”. وإذ شعر نابليون بهذا كله وأدرك كم أن حساباته كانت خاطئة، أمر على الفور بوقف عرض الأوبرا في وقت كانت قد وصلت إلى ذروة نجاحها. ولئن توقف عرض “فرناندو كورتيس” في ذلك الحين، فإن موسيقاها ظلت تلهم وتثير إعجاب الموسيقيين الفرنسيين والإيطاليين خلال الفترة اللاحقة، ومن بينهم هكتور برليوز الذي اعتبرها أحد أهم الأعمال الأوبرالية التي حققت خلال ذلك الزمن.
عاش غاسباري سبونتيني بين 1774 و1851، وعاش سنواته الأولى والأخيرة في إيطاليا، لكنه تنقل كقائد أوركسترا بين برلين (التي سيقول إنها علمته كثيراً) وباريس (التي سيقال إنه علمها كثيراً)، ومدن أوروبية عديدة حيث عاش فترات طويلة بوصفه مؤلفاً موسيقياً في الوقت نفسه. ومن بين أشهر أعماله إلى جانب “فرناندو كورتيس”، “الحب السري” (1797) و”البطولة السخيفة” (1798) و”الإطارات المتكلمة” (1800) و”البيت الصغير” (1804) و”جولي أو آنية الزهر” (1805) و”أوليمبيا” (1819)… وهاتان الأخيرتان كانتا من بين الأعمال التي وضعها في باريس.