حرية – (13/8/2024)
يجزم كثير من الأشخاص بأن مجرد دخول مبنى مثل مستشفى أو مركز صحي أو عيادة يشعرهم بالوهن والضعف وحتى بالمرض، وأن المباني الخدمية والدوائر الحكومية تثير جواً من الرتابة والتسويف والضغط النفسي، علاوة على التأثير السلبي للمباني الثقافية مثل المدارس والمراكز الثقافية وغيرها، حتى إن الموظفين يشاطرونهم بعض هذه المشاعر في أماكن العمل.
وهذا ليس من قبيل الصدفة، فالحقيقة أن نظام بناء المستشفيات والعيادات والمراكز الصحية يجعل الأصحاء يشعرون بالمرض ويضعفهم جسدياً ونفسياً وعاطفياً، فما بالك بالمرضى، إذ غالباً ما تصور بعض البيئات المعمارية مثل المشافي والمكاتب العامة والمباني التعليمية على أنها ممرات بلا حياة بغرف موحدة باردة وأجواء عامة بعيدة من الألفة.
لذا يتوجب التركيز اليوم أكثر على محاولة تأسيس تجربة مختلفة في البناء وإعادة التفكير في كيفية استثمار عناصر طبيعية إيجابية وتوظيفها لدعم الرفاه والصحة والإنتاجية وتحويل لحظات الانتظار والعمل والتشافي والتعلم إلى وقت لاستمداد المشاعر الإيجابية والنشاط والنمو النفسي والفكري، بدلاً من تصميمها لتركز أكثر وأكثر على وضع الزائر والمقيم في أجواء تأخذه بعيداً من التطور وتضعفه نفسياً وجسدياً.
أنسنة المباني
من هنا تكثر الدعوات اليوم ليكون الإنسان محور الاهتمام ومنطلق أية فكرة عند التفكير في البناء، إذ يجب أن تؤسس الجماليات على أسس وظيفية وليس اعتباطياً لمجرد إصابة المظهر والجماليات الفنية والهيكلة، أو جذب النظر والإتيان بجديد قد يكون له تأثير سلبي في نفسية وحياة المقيمين في المبنى.
والحقيقة أنه لا يجب أن تنطلق العمارة من أهداف جمالية ومحاولات غريبة لتحدي الجاذبية والقوانين الفيزيائية أو الخروج عن المألوف وحسب، بل يجب أن تكون معيشة الإنسان وراحته على رأس القائمة ومنها تنطلق محاولات الخروج بجديد، فما فائدة المبنى بلا إنسان، بل إن الحقيقة التي لا يتخلف عليها اثنان أن المبنى، الذي شكّله الإنسان أولاً، يعود في وقت لاحق ليشكل البشر أيضاً.
يؤثر الفن والثقافة إيجابياً على الرفاهية النفسية والاجتماعية للبشر
ويتحرى التصميم المؤسس على مراعاة البعد الإنساني كل ما يتم تجاهله عادة، من المواد الطبيعية والإضاءة الناعمة والمساحات المصممة لتشجيع الفرص والمناسبات الاجتماعية، ودمج إستراتيجيات تصميم تدعم بصورة مباشرة الصحة الجسدية والنفسية والرفاهية، وصولاً إلى نهج ينطوي على استخدام الألوان والخامات والمخططات لتقليل مشاعر الاحتجاز داخل أربعة جدران، وتعزيز إدراك التحكم في البيئة الداخلية، وإنشاء مساحات تعزز الهدوء والتركيز والشعور بالأمان، ففي حين يستخدم اللون الأبيض لعكس جو من الاتساع والنظافة والتعقيم والحماية الصحية، لكنه يثير في الوقت نفسه شعوراً بعدم الراحة والقلق الخفي لدى كل من الزائر والمقيم.
علم العمران البشري
عندما يطرح مفهوم أنسنة المباني يقصد منه أن يقوم درس المبنى على البعد الإنساني وأن تطاول القيم الروحية أولاً وقبل أي شيء، ومنه تتولد أية جماليات أو فنيات ممكنة.
إن تركيز التخطيط والتصميم والإنشاء من هذا البعد مع مراعاة التفاصيل البيئية والثقافية والاجتماعية وتوفير أفضل بيئة صالحة لتطور الفرد جسدياً ونفسياً وعاطفياً يجب أن تكون هدف التصميم الأول، فدور المبنى في نهاية المطاف هو الوصول لطموحات ورؤى ساكنيه والوصول إلى أقصى درجة من الاتصال والتناغم في ما بين الإنسان والبيئة المحيطة.
والأنسنة بصورة أعمق هي محاولة لفهم التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي والثقافي المحيط بالإنسان، وتوظيف هذه المعرفة ثم ترجمتها إلى بنى وكتل معمارية تربط الإنسان بمحيطه وتطور من جودة حياته ورفاهه النفسي والجسدي وتوثق ارتباطه ببيئته المحلية وثقافته التي تعزز بدورها شعوره بالراحة والأمان والانتماء، فالأنسنة مفهوم ثقافي بيئي قبل كل شيء.
وعلم الاجتماع الذي نعرفه اليوم هو ما أطلق عليه مؤسسه ابن خلدون “علم العمران البشري”، وشكلت نظريته حينذاك وحتى اليوم أساساً متيناً لفهم المجتمعات وتطورها، إذ تحتل البيئة والعمران في نظريته دوراً كبيراً في تشكيل أنماط الحياة البشرية وسلوكياتها وتهيمن على تنوعاتها واختلافاتها.
الأنسنة والتشافي
وإذا ما علمنا أن مفهوم الأنسنة في العمارة والتصميم ينطوي بصورة أساس على إضفاء طابع إنساني على المباني، فلا بد من أن يكون له الدور الأهم في مجال الصحة والتشافي، والحقيقة أن هذا المفهوم يرتبط بشكل وثيق بمجال الرعاية الصحية وخلق بيئات تعزز رفاهية المرضى والأسر والعاملين في المرافق الصحية من مستشفيات وعيادات ومستوصفات ومراكز صحية.
تستخدام الألوان والخامات والمخططات لتقليل الشعور بالاحتجاز داخل الجدران
والأكيد أن الإستراتيجية الأهم على الإطلاق لتحقيق الشروط الصحية للاستشفاء والتزود بالطاقة والمشاعر العالية، وهي تبني نمط التصميم البيوفيلي أو الحيوي، وهو التصميم القادر على توفير حاجاتنا الفطرية وتقاربنا واتصالنا مع الحياة الطبيعية وعملياتها الحيوية، لذا تشكل البيوفيليا أساس إضفاء الطابع الإنساني على الأبنية، فالهدف بناء بيئات شفائية بدلاً من مساحات باردة تقليدية تثير المشاعر السلبية وتعزز التركيز على فكرة المرض والانشغال به بدلاً من التركيز على التشافي والرفاه النفسي، من خلال دعم المساحات بالتفاصيل والعناصر والمواد العضوية والنباتات والضوء الطبيعي وتصميم الإطلالات منفتحة على الحدائق التي يمكن أن تقلل من التوتر وتحسن الحال المزاجية وتسرع عملية التعافي.
الهندسة المعمارية العصبية
ويترافق هذا أيضاً مع الاعتقاد العميق بالتأثير الإيجابي للفن والثقافة على الرفاهية النفسية والاجتماعية، والأدلة التي تدعم قوة البرامج الفنية في التشافي متزايدة، ومن هنا ظهرت مجموعة كبيرة من الأبحاث التي أشارت بوضوح إلى ضرورة دمج الأعمال الفنية والبرامج الثقافية في بيئات الرعاية الصحية لعزيز بيئة الشفاء وإضفاء جو من البهجة والفضول والفكاهة والتطلع إلى المستقبل والانفتاح على الخيارات، والأهم من هذا كله الانشغال بعيداً من المرض والتفاصيل العلاجية.
الأنسنة محاولة لفهم التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي والثقافي المحيط بالإنسان
وقد تبين وفقاً لكثير من الأدلة السريرية أن العيش في بيئة معززة بالعناصر الطبيعية من الناحية الانفعالية والبيولوجية، ويمكن أن يقوي الجهاز العصبي الداخلي والجهاز المناعي، خصوصاً لدى الأشخاص الذين يعانون أمراضاً واضطرابات صحية، وهناك اعتراف ضمني بدور الهندسة المعمارية الأساس في تعافي الأفراد واستمداد الراحة لحظات الضعف والهشاشة النفسية.
ونحن نتحدث هنا عن الهندسة المعمارية العصبية وليدة الاتحاد بين العمارة وعلم الأعصاب التي تتناول العلاقة بين البيئات المبنية ووظائف المخ، وتتعمق في الاستجابات العاطفية والإدراكية الفيسيولوجية، ولقد ساعد هذا الاتحاد المبارك في نقل الروئ المعمارية منذ أن بدأت تطبيقاته تحتل مساحاتنا إلى مكان جديد تماماً، توظف فيه العمارة بصورة إستراتيجية لخدمة الرفاه البشري.