حرية – (13/8/2024)
كان توغل أوكرانيا في الأراضي الروسية في السادس من أغسطس/ آب بمثابة مفاجأة ليس فقط لموسكو، بل أيضا للكثيرين داخل أوكرانيا ومعظم المراقبين والمهتمين بالوضع في المنطقة.
ولكن لماذا قررت كييف شن هذا الهجوم الجريء في حين تنتشر قواتها في عدة أماكن على طول خط المواجهة الذي يمتد لألف كيلومتر؟ وبعد مرور ما يقرب من أسبوع، لا يزال الجيش الروسي يكافح لاحتواء التوغل، ولكن المنطق وراء العملية بدأ يتكشف.
وفيما يلي خمسة أسئلة رئيسية حول هذا التطور الجديد في الحرب في أوكرانيا، والذي من المرجح أن يشكل ما قد تكون عليه الأمور في الأشهر المقبلة.
ماذا حدث في كورسك؟
في السادس من أغسطس/آب الجاري، نفذت القوات الأوكرانية هجوماً مفاجئاً على منطقة كورسك الروسية، المتاخمة لأوكرانيا. وكانت هناك ندرة في المعلومات الموثوقة حول حجم هذا الهجوم.
في البداية، بدا الأمر وكأن العملية كانت على مستوى التوغلات المتقطعة السابقة التي شنتها مجموعات التخريب الروسية المعارضة لحكومة فلاديمير بوتين. وقد حاولت هذه المجموعات الدخول إلى روسيا من أوكرانيا، ويبدو أنها تضم مئات الأفراد من ذوي الأصول الروسية.
ولكن مع انتقال هذا الهجوم إلى عمق الأراضي الروسية ــ حيث أفاد مدونون عسكريون روسيون عن وقوع اشتباكات عنيفة على بعد نحو 30 كيلومترا من الحدود، وأخبر حاكم منطقة كورسك الرئيس بوتين أن 28 قرية روسية سقطت في أيدي الأوكرانيين ــ أصبح من الواضح أن القوات الأوكرانية النظامية كانت متورطة في الهجوم.
ويبدو أنه بينما كانت روسيا تركز قواتها العسكرية على عدة نقاط رئيسية على خط المواجهة الرئيسي وسط استمرار القتال العنيف، قررت أوكرانيا الاستفادة من الحدود التي لا تخضع لحراسة كافية والعبور إلى الأراضي الروسية.
وقال مسؤول أمني أوكراني كبير لم يكشف عن اسمه لوكالة فرانس برس: “نحن في حالة هجوم. والهدف هو إضعاف مراكز العدو وإلحاق أقصى قدر من الخسائر بها وزعزعة استقرار الوضع في روسيا في وقت لا تستطيع فيه حماية حدودها”.
لماذا هاجمت القوات الأوكرانية كورسك الروسية؟
في البداية، التزمت كييف الصمت بشأن الهجوم ولم يعترف الرئيس فولوديمير زيلينسكي به بشكل غير مباشر إلا في 10 أغسطس/ آب الجاري. وزعم زيلينسكي أن أوكرانيا استمرت في “دفع الحرب إلى أراضي المعتدي”. ولم يذكر أسباباً أو أهدافاً واضحة وراء العملية، لكنه أعلن في 12 أغسطس/آب أن حوالي 1000 كيلومتر مربع من الأراضي الروسية أصبحت الآن تحت سيطرة كييف.
ويحاول محللون عسكريون وسياسيون الإجابة على سؤال “لماذا”، ويتفق معظمهم على أن التشتيت التكتيكي قد يكون أحد الأهداف الرئيسية لهذا التوغل.
وعلى مدى الأشهر الماضية، واجهت أوكرانيا صعوبة أثناء احتواء القوات الروسية في شرق أوكرانيا، والتي كانت تتقدم ببطء، واستولت على بلدة تشاسيف يار الاستراتيجية الشهر الماضي. ولا يقل الوضع صعوبة في شمال شرق وجنوب البلاد.
وعلى الرغم من تفوق روسيا في العدد والتسليح في العديد من النقاط على خط المواجهة الذي يبلغ طوله 1100 كيلومتر، قررت السلطات الأوكرانية المخاطرة بإنشاء نقطة قتال ساخنة على بعد مئات الأميال لإجبار الخصم على توسيع نطاق تمركزه. وقال الخبير الأمني مارك غاليوتي لبي بي سي إن أوكرانيا كانت محاصرة في حرب استنزاف خلال الأشهر الماضية مع معاناتها من محدودية الحركة على الأرض، وأنها الآن تحتاج إلى المخاطرة للحصول على ميزة.
وقال قائد في الجيش الأوكراني، أثناء حديث أدلى به لمجلة الإيكونوميست، إن هذا الهجوم كان “مقامرة، فقد أرسلنا وحداتنا الأكثر جاهزية للقتال إلى أضعف نقطة على حدودهم”. وأضاف أن هذه المقامرة لم تؤت ثمارها بالسرعة التي كانت تأملها كييف.
وتابع: “قادتهم ليسوا أغبياء… إنهم يحركون القوات، ولكن ليس بالسرعة التي نرغب بها. وهم أيضاً يدركون أننا لا نستطيع توسيع نطاق الدعم اللوجستي لمسافة 80 أو 100 كيلومتر”.
كيف كان رد الفعل الروسي؟
سارعت الدعاية الروسية إلى وصف الجهود المبذولة لدحر التوغل الأوكراني بأنها “عملية مكافحة إرهاب”.
وأصدرت أوامر بإجلاء ما يصل إلى 121 ألف شخصاً من منطقة كورسك، كما نُقل 11 ألف شخصاً آخرين من منطقة بيلغورود. وأعلنت السلطات الروسية حالة الطوارئ الفيدرالية في المنطقة مع تقديم تعويضات مالية فردية قدرها 115 دولاراً للسكان المحليين.
وشدد رئيس الأركان في الجيش الروسي الجنرال فاليري جيراسيموف عدة مرات الأسبوع الماضي على أن التوغل الأوكراني قد توقف في حين كانت هناك أدلة على الأرض تثبت العكس.
وتجدر الإشارة إلى أن الجنرال جيراسيموف لم يحضر الاجتماع الأخير لمجلس الأمن الروسي، الذي ترأسه الرئيس بوتين، والذي خصص لحل هذه الأزمة. ومن ناحية أخرى، كان أحد أقرب حلفاء بوتين حاضراً؛ وهو رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ألكسندر بورتنيكوف.
وفي أحدث تصريحاته بشأن الأحداث، اتهم الرئيس بوتين أوكرانيا بالهجوم على مدنيين سلميين ووعد “برد مناسب”.
وقال غاليوتي إن أوكرانيا تواجه خطراً حقيقياً يتمثل في التعرض لرد قاسٍ من روسيا.
وأضاف: “قد يدعو بوتين إلى موجة تعبئة أخرى ويحشد مئات الآلاف من الجنود الإضافيين إلى قواته المسلحة”.
وأشار إلى أن روسيا قد تجد طرقاً أخرى لتصعيد الصراع. ففي الأشهر الأخيرة، واجهت أوكرانيا حملة قصف روسية مدمرة ضد البنية الأساسية للطاقة، مما أدى إلى تدمير معظمها أو إتلافها جزئياً. ومن المحتمل أن تصبح هذه الحملة أكثر شدة.
هل يعني القتال في كورسك أن أوكرانيا قلبت موازين الحرب؟
السهولة التي بدا عليها الأمر فيما يتعلق بتوغل أوكرانيا في روسيا تحتاج إلى دراسة من منظور صحيح ــ وقد لا يبشر هذا بالضرورة بنهاية هذا الصراع في وقت قريب.
وكما يقول مارك غاليوتي: “هذه المنطقة تبلغ مساحتها حوالي 50 ميلاً في 20 ميلاً، وهو في ضوء مساحة روسيا وأوكرانيا شيء لا يُذكر. ولكن التأثير السياسي أكثر أهمية بكثير”.
ويزعم محللون أن أوكرانيا كانت حريصة على أن تظهر لحلفائها من قوى الغرب، خاصةً الولايات المتحدة، أن قواتها قادرة على مواصلة القتال. وأدى ذلك إلى تعزيز قوة كييف التفاوضية – ولو بصفة مؤقتة – فمع وجود قواتها على بعد 30 كيلومترا في عمق الأراضي الروسية، يبدو من غير المرجح أن تقبل موسكو أي اقتراح بتجميد خطوط القتال حيث تقف حاليا.
كما أدت هذه العملية أيضا إلى تغيير رواية الحرب المتداولة في الداخل الروسي – فلم يعد من الممكن أن يُطلق على هذا الصراع اسم “عملية عسكرية خاصة”، بل تطور ليؤثر على الروسيين بشكل مباشر.
كيف يمكن أن يؤثر هذا التوغل على مستقبل زيلينسكي وبوتين؟
تعتبر هذه لحظة حاسمة في تاريخ رئاسة بوتين وزيلينسكي كزعيمين لروسيا وأوكرانيا. فبالنسبة لفلاديمير بوتين، الزعيم الاستبدادي وغير المرن في كثير من الأحيان الذي اعتاد على الاعتماد على دائرته الداخلية وعلى أجهزة الأمن على وجه الخصوص، فإن هذا التطور يمثل تحدياً هائلاً. فمن الصعب على نحو متزايد إخفاء حجم الخسائر العسكرية الروسية. ومع نزوح عشرات الآلاف من الروس، من الصعب أيضاً الحفاظ على صورة مفادها أن الكرملين هو المسيطر وأن هذه ليست حرباً شاملة.
وكما يقول مارك غاليوتي، “في كل مرة، يضيف ذلك المزيد والمزيد من الشجاعة إلى آلة الدعاية الخاصة بالكرملين”.
وأضاف: “لقد رأينا هذا في الحروب السابقة، من الحرب السوفييتية في أفغانستان إلى حروب روسيا في الشيشان، حيث يتمكن الكرملين من الحفاظ على رواية بعينها، ولكن بعد فترة، يتدخل العالم الحقيقي لتغييرها بشكل متزايد”.
على الجانب الآخر، يمثل التوغل في روسيا لفولوديمير زيلينسكي نفس القدر من الصعوبة التي يمثلها لبوتين، لكن لأسباب مختلفة. وقال المحلل إميل كاستيهلمي إن أفضل نتيجة لأوكرانيا هي أن تقوم روسيا بتخصيص “موارد ضخمة من الأماكن الأكثر أهمية لاستعادة كل كيلومتر مربع [من الأراضي الروسية]، مهما كلفها ذلك من خسائر”.
ورغم أن هذا قد يرفع معنويات الأوكرانيين على المدى القصير، فقد يؤدي إلى خسائر إقليمية أكبر في الشرق، وهي مناطق الخطوط الأمامية حيث لا يزال القتال عنيفاً. ويشيد بعض المدونين العسكريين الروس بالتقدم رغم عدم تأكيده حتى الآن.
ويقول غاليوتي إن الجمود الحالي في الحرب كان يحتاج إلى إعادة ترتيب الأمور حتى تتحرك. ورغم أن إعادة الترتيب جارية على قدم وساق، إلا أن نتائجها ما زالت غير واضحة.