حرية – (13/8/2024)
كم مرة أثناء انشغال ذهنكم بالتفكير استوقفتكم فجأة نقطة معينة – مثل مقبض الباب أو الغيوم أو أزرار المصابيح الكهربائية – واعتقدتم أنكم رأيتم وجهاً محدقاً أو مبتسماً أو مذهولاً أو حزيناً؟ هل تساءلتم خلال هذه التجارب لماذا ترون وجوهاً في كل مكان؟ وهل هناك تفسير علمي لهذا الأمر أم أنه مجرد تخيل؟ يأخذنا هذا التساؤل إلى عالم غريب ومثير يعرف بظاهرة “الباريدوليا” (إيهام الخيالات المرئية).
“الباريدوليا” ظاهرة نفسية يتصور فيها العقل البشري أنماطاً معينة، بخاصة الوجوه في مشاهد عشوائية. يمكنكم أن تتذكروا عندما رأيتم وجهاً ضاحكاً في غيمة، أو صورة حيوان في نمط رخامي على الأرض. هذه التجارب ليست سوى أمثلة بسيطة على “الباريدوليا”، التي تظهر عندما يحاول العقل تفسير ما يراه بناءً على تجربته السابقة ومعرفته بالعالم.
تطور تاريخي
يعود أصل كلمة “الباريدوليا” إلى اللغة اليونانية القديمة، وهي كلمة مكونة من جزأين: “بارا”، وتعني “إلى جانب” أو “خارج”، و”إيدولون”، وتعني “صورة” أو “شكلاً”. فعندما تجتمع الكلمتان، يكون معنى “الباريدوليا” “الصورة الخطأ” أو “الصورة خارج مكانها”، في إشارة إلى رؤية أو إدراك أشكال أو صور لا وجود لها في الواقع.
تعد “الباريدوليا” ظاهرة قديمة ترجع إلى عصور الإنسان الأولى. ففي الأزمنة القديمة، كان الناس ينظرون إلى السماء ويرون في مواقع النجوم أشكالاً وأبراجاً نجمية، يعطونها أسماء ويحكون عنها قصصاً وأساطير. كذلك كانت السحب تشكل صوراً تثير مخيلتهم، مما دفعهم لتفسير هذه الأشكال كرسائل من الآلهة أو كائنات خارقة. على سبيل المثال، رأى الإغريق القدماء في الأبراج النجمية شخصيات أسطورية، وربطوا هذه الأشكال بقصصهم الدينية.
يرى معظم الناس وجهًا في جذع هذه الشجرة
مع مرور الزمن، تغيرت نظرة الإنسان لـ”الباريدوليا”. وفي العصور الوسطى كان ينظر إلى هذه الظاهرة على أنها علامات من السماء أو رسائل إلهية، لكن مع تقدم العلم، بدأ العلماء في دراستها بصورة أكثر دقة، وظهرت تفسيرات نفسية وعلمية، توضح كيف أن العقل البشري مبرمج للبحث عن الأنماط والمعاني، حتى في الأشياء العشوائية.
لم يستخدم مصطلح “الباريدوليا” بصورة رسمية حتى القرن الـ20، ويعتقد أن أول استخدام معروف له كان في أواخر القرن الـ19 أو أوائل القرن الـ20 في مجال علمي النفس والأعصاب، حين بدأ الباحثون في دراسة الظواهر الإدراكية التي تتعلق برؤية الأنماط في الأشياء العشوائية.
تعود إحدى أولى الإشارات الأكاديمية للمصطلح إلى عام 1867 من قبل طبيب الأعصاب الألماني كارل لودفيغ كالبوم الذي استخدمه لوصف الميل لرؤية الأنماط والوجوه في الظواهر البصرية العشوائية. ومع تطور علم النفس الإدراكي، أصبح المصطلح أكثر انتشاراً في الأبحاث المتعلقة بالإدراك البصري والتعرف على الأنماط.
من منظور فرويد، مؤسس مدرسة التحليل النفسي، قد تكون “الباريدوليا” مرتبطة باللاوعي، إذ يرى العقل ما يرغب في رؤيته أو ما يخشاه. على سبيل المثال، رؤية وجوه غاضبة في الظلال قد تكون انعكاساً لمشاعر الخوف أو القلق الكامنة في اللاوعي. أما يونغ، فقد اعتبر “الباريدوليا” جزءاً من التعبير الرمزي، حين يرى العقل رموزاً في الأشياء العشوائية تعكس مكونات اللاوعي الجمعي المشترك بين البشر.
في بعض الأحيان، قد تكون “الباريدوليا” آلية للدفاع النفسي، ويمكن أن تكون وسيلة لتجنب مواجهة حقائق غير مريحة. على سبيل المثال، قد يرى شخص ما وجهاً ودوداً في مكان مظلم ومخيف، كطريقة لتخفيف القلق أو التوتر. تخبرني الطبيبة والمحللة النفسية جيل بيسكون أن هذه الظاهرة قد تساعد الأفراد في التغلب على مشاعر الوحدة أو العزلة من خلال إيجاد “وجوه” وأشكال مألوفة في محيطهم.
بين السحر والمعتقدات الدينية
لعبت “الباريدوليا” دوراً كبيراً في الطقوس والشعائر القديمة، وكان السحرة والكهنة يفسرون ظهور وجوه أو رموز في الشراب أو الغيوم كمؤشرات إلى المستقبل أو كرسائل من العالم الآخر. كانت الرموز التي تظهر بصورة عفوية تعد علامات تستخدم في التنبؤ أو توجيه الأفعال.
من أشهر الأمثلة على “الباريدوليا” في الأساطير رؤية الوجوه في القمر، وكانت الوجوه والأشكال ترى في ثقافات عديدة فتنسج حولها الحكايات. يظهر هذا الأمر أيضاً في القصص الشعبية المتعلقة برؤية أشكال معينة في السحب، وتفسيرها كأرواح أو مخلوقات أسطورية. ومن أشهر التطبيقات الحديثة لـ”الباريدوليا” في الأساطير الشعبية، ظاهرة قراءة الفنجان. فبعد شرب القهوة، يجري قلب الفنجان وتحليل الأنماط العشوائية التي تتشكل من بقايا القهوة على جدرانه الداخلية. ويعتقد أن هذه الأنماط تحمل رسائل أو رؤى عن المستقبل، وتستخدم في التنبؤ بالأحداث المقبلة، مما يعكس ميل الإنسان للبحث عن المعنى في كل ما يحيط به.
كذلك لعبت “الباريدوليا” دوراً محورياً في نشأة وتطور عديد من المعتقدات الدينية، إذ ساعدت رؤية وجوه أو أشكال مقدسة في الأماكن العشوائية في تعزيز إيمان الناس، حتى إن عدداً من الأماكن المقدسة بني على أساس زعم رؤية وجه شخص مقدس أو علامة مقدسة في بقعة ما من الأرض.
“الباريدوليا” واضطرابات العقل
ويقول الباحثون إن “الباريدوليا” تعتمد على آليات عصبية معينة في الدماغ، إذ إن المناطق المسؤولة عن التعرف على الوجوه والأنماط تعمل بصورة مستمرة حتى في الظروف العشوائية. تعود هذه الآلية إلى العصور القديمة، حين كانت القدرة على التعرف على الوجوه بسرعة تشكل عنصراً حاسماً للبقاء على قيد الحياة.
ويضيف الباحثون أن البحث عن المعنى في العالم المحيط بالبشر هو دافع قوي عند الإنسان، ولهذا السبب يلجأ العقل لتفسير الأنماط العشوائية على أنها ذات معنى، كما تلعب التوقعات والخبرات الشخصية دوراً كبيراً في هذه العملية، فالأشخاص الذين مروا بتجارب معينة قد يكونون أكثر عرضة لرؤية تلك الأنماط.
في بعض الأحيان قد تأخذ الظاهرة منحى متطرفاً، كما في حالة هيلين وهي سيدة بريطانية في منتصف الثلاثينيات من عمرها تعاني حالة شديدة من “الباريدوليا”، وتواجه تحديات كبيرة بسبب تجربتها المتطرفة في رؤية الوجوه والأشكال البشرية في كل مكان حولها.
تقول هيلين إنها ترى وجوهاً في كل شيء تقريباً، من السحب إلى النمط في الخشب، إلى التشققات في الجدران وحتى في الفاكهة والخضراوات. وعلى رغم أن هذه التجارب قد تبدو غير مؤذية للبعض، فإن تأثيرها في حياة هيلين يكون عميقاً. كلما رأت السيدة وجهاً، تشعر بقلق مستمر وإحساس بالضيق وكأن الوجوه تراقبها. وتضيف أن الناس من حولها لا يفهمون ما تعانيه، مما أدى إلى تفاقم مشاعر العزلة والانفصال وعدم الارتياح، مما يؤثر في علاقاتها الاجتماعية والعملية.
مع تقدم التكنولوجيا أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على التعرف على الأنماط في البيانات
لكن على رغم هذه التحديات، تعمل هيلين على إيجاد طرق للتكيف مع حالتها. تشمل استراتيجياتها تجنب بعض الأنشطة التي تزيد من شعورها بعدم الراحة، مثل التجول في الأماكن ذات الأسطح المعقدة واعتماد أثاث منزلي شديد البساطة، إضافة إلى ذلك، تلجأ هيلين إلى العلاج النفسي لدعم نفسها في التعامل مع مشاعر القلق والضغط النفسي.
“الباريدوليا” في الحياة المعاصرة
في الفن والأدب تعد “الباريدوليا” أداة قوية للتعبير، فيستخدم الفنانون هذه الظاهرة لخلق أعمال تستفز خيال المشاهد وتدفعه لرؤية أشكال ومعانٍ مختلفة في أعمالهم. يمكن لـ”الباريدوليا” أن تكون وسيلة لنقل مشاعر معقدة أو أفكار فلسفية.
كذلك تستغل وسائل الإعلام “الباريدوليا” بصورة بارعة، فتستخدم الصور التي تظهر أنماطاً معينة لجذب الانتباه أو لإيصال رسائل معينة من دون الحاجة إلى تفسير مباشر. يمكن أن تكون هذه الأنماط وسيلة للتأثير في المشاعر أو توجيه الانتباه إلى موضوع معين.
مع تقدم التكنولوجيا أصبح الذكاء الاصطناعي قادراً على التعرف على الأنماط في البيانات، وهي عملية مشابهة جداً لـ”الباريدوليا”. يستعمل هذا التقدم في مجالات مثل التعرف على الوجوه، ويتم تدريب الذكاء الاصطناعي على اكتشاف الوجوه حتى في الظروف الصعبة.
ظاهرة “الباريدوليا” جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، تعكس تفاعلنا العميق مع العالم من حولنا. هل يمكننا السيطرة عليها أم إنها جزء من طبيعتنا التي لا يمكن تغييرها؟ تبقى هذه الأسئلة مفتوحة في كل مرة ترون فيها وجهاً ينظر إليكم من أحد الأسطح.