حرية – (15/8/2024)
في صباح أحد أيام أغسطس/آب 1865، صعد تشارلز هيل، القنصل العام للولايات المتحدة في مصر، على متن قارب صغير على ضفة النيل في القاهرة، وقاده القارب إلى منطقة الجزيرة حيث كان الخديوي إسماعيل والي مصر يقيم هناك رسمياً.
وحتى صباح ذلك اليوم، كانت وتيرة عمل هيل بطيئة بشكل كبير. إذ كان يقضي أغلب وقته في المناسبات الاجتماعية أو دراسة وجمع معلومات عن صناعة القطن المصرية.
ولكن هذا الاجتماع جعل مهمته في مصر أكثر تعقيداً حيث أبلغه إسماعيل باشا بأن 900 جندي من الجيش المصري سيصلون قريباً إلى الإسكندرية ليتم نقلهم في سفن فرنسية إلى المكسيك. وكانت هذه هي الدفعة الثانية للجنود المصريين والسودانيين في الحرب الأهلية المكسيكية.
لقد بدأ ما أُطلق عليه “التدخل المصري في المكسيك” في عام 1863 عندما انضم 446 جنديًا من الجيش المصري إلى الصراع في المكسيك. واعتقد العديد من الدبلوماسيين، بما في ذلك ويليام سيوارد، وزير خارجية الولايات المتحدة، أن هؤلاء الجنود كانوا من “الرقيق أو العبيد”.
وفي حين احتج ويليام ثاير القنصل العام للولايات المتحدة في مصر، سلف هيل، على التدخل المصري في بدايته عام 1863، ظل سيوارد صامتًا حيث كان يركز على مكان آخر إذ كانت الولايات المتحدة تعاني آنذاك من ويلات الحرب الأهلية.
ولكن عندما أبلغ هيل وزير خارجيته سيوارد في خريف 1865 أن التدخل المصري سيستمر، كانت الحرب الأهلية في الولايات المتحدة قد انتهت.
وقد استجاب سيوارد على الفور وكتب محتجا على التدخل المصري قائلا: “إن سلامة المؤسسات الجمهورية الحرة في هذه القارة تتطلب إلغاء كل أشكال العبودية المدنية أو العسكرية الإجبارية في هذا النصف من الكرة الأرضية”.
ولقد كان احتجاج سيوارد على التدخل المصري على أسس مناهضة للعبودية، وقد تم إبلاغ الاحتجاج الأمريكي إلى الحكومات الفرنسية والمصرية والعثمانية.
وعلى هذا الأساس سحبت فرنسا طلبها للحصول على الدعم المصري، ولم ترسل مصر قوات جديدة إلى المكسيك.
أصل الحكاية
يقول موقع تاريخ الدولة الأمريكية الحكومي إنه في عام 1857، انخرطت المكسيك في حرب أهلية بين القوات الموالية للسياسي الإصلاحي الليبرالي بينيتو خواريز ضد المحافظين بقيادة فيليكس زولواغا. وسيطر المحافظون على مكسيكو سيتي، والليبراليون على فيراكروز.
واعترفت الولايات المتحدة بحكومة خواريز في عام 1859. وفي يناير/ كانون الثاني من عام 1861، استولت القوات الليبرالية على مدينة مكسيكو، مما عزز بشكل كبير موقف حكومة خواريز وشرعيتها.
ومع ذلك، تزامن استمرار عدم الاستقرار مع تزايد الديون الخارجية التي كان من الصعب على الحكومة المكسيكية سدادها بشكل متزايد.
ومع عدم وجود خيارات أخرى، علق خواريز مدفوعات الديون المكسيكية لمدة عامين. وردًا على ذلك، اجتمع ممثلون عن الحكومات الإسبانية والفرنسية والبريطانية في العاصمة البريطانية لندن، وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1861، وقعوا اتفاقية ثلاثية للتدخل في المكسيك لاسترداد الديون غير المسددة.
وهبطت القوات الأوروبية في فيراكروز في الثامن من ديسمبر/كانون الأول. ودعا خواريز إلى المقاومة، في حين رأى المحافظون أن القوات المتدخلة حلفاء مهمون في حربهم ضد الليبراليين.
وفيما كانت للحكومتين البريطانية والإسبانية خطط محدودة للتدخل، إلا أن نابليون الثالث كان مهتمًا بإحياء الطموحات الفرنسية العالمية، واستولت القوات الفرنسية على مكسيكو سيتي، بينما انسحبت القوات الإسبانية والبريطانية بعد أن أصبحت الخطط الفرنسية واضحة.
وفي عام 1863، دعا نابليون الثالث ماكسيميليان، أرشيدوق النمسا، ليصبح إمبراطور المكسيك، فقبل ماكسيميليان العرض ووصل إلى المكسيك في عام 1864. وعلى الرغم من سيطرة حكومة ماكسيميليان المحافظة على جزء كبير من البلاد، إلا أن الليبراليين احتفظوا بالسيطرة على مناطق في شمال غرب المكسيك وأجزاء من ساحل المحيط الهادئ.
ولم تكن حكومة الولايات المتحدة قادرة حينئذ على التدخل بشكل مباشر بسبب الحرب الأهلية الأمريكية. علاوة على ذلك، لم يرغب كل من سيوارد والرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن في استعداء نابليون الثالث، والمخاطرة بتدخله في الحرب الأمريكية إلى جانب معسكر الجنوب الأمريكي المعادي لواشنطن.
التدخل المصري
كانت القوات الفرنسية في المكسيك تواجه متاعب كبيرة في التكيف مع الأجواء الحارة هناك، ومن ثم تقدم المبعوث الفرنسي في مصر إلى الوالي سعيد باشا (حكم من 1854 إلى 1863) طالبًا إعارة فوج مصري للخدمة تحت العلم الفرنسي.
وكانت العلاقات بين فرنسا ومصر آنذاك وثيقة. فبحلول ستينيات القرن التاسع عشر، كانت فرنسا هي الحليف الأكبر لمصر. وكان الوالي سعيد باشا من خريجي الأكاديمية العسكرية الفرنسية، كما كان قد وافق على السماح لفرنسا بشق قناة السويس، وتوفير العمالة المصرية القسرية.
وهكذا، وافق سعيد باشا على الطلب الفرنسي بإرسال قوات إلى المكسيك، وفي 9 يناير/ كانون الثاني من عام 1863، وقبل 9 أيام من وفاة سعيد باشا، أبحرت السفينة العسكرية الفرنسية “لاسين” من الإسكندرية وعلى متنها الفوج المصري السوداني وقوامه 446 رجلا، والذي عُرف باسم “الكتيبة المساعدة العثمانية”.
وعندما غادر أول فوج من جنود الجيش المصري إلى المكسيك، احتج القنصل العام للولايات المتحدة في مصر، لكن سيوارد ظل صامتًا حيث لم يكن قادرًا على المجازفة بمعاداة القوى الأوروبية خوفًا من اعترافها بالكونفدرالية.
واعتقد العديد من الدبلوماسيين، بما في ذلك ويليام سيوارد، وزير خارجية الولايات المتحدة، أن هؤلاء الجنود كانوا من الرقيق.
وبعد 44 يومًا، هبط الفوج المصري السوداني في فيرا كروز، وتم وضع الكتيبة المصرية تحت قيادة القائد الفرنسي مانغين، كما تم جلب جنود جزائريين للمساعدة في الترجمة.
وتمت إعادة نشر الفوج المصري بين ميناء فيرا كروز وموقع سوليداد حيث كانت مهمته هي حماية السكك الحديدية قيد الإنشاء فيما كانت القوات الموالية لخواريز تنتشر بالمنطقة المحيطة بفيرا كروز، ومن ثم وقعت اشتباكات عديدة بين الطرفين، كما شارك الفوج مع القوات الفرنسية في معارك في جبهات عدة في المكسيك.
نهاية التدخل في المكسيك
مع استمرار الحرب، بدأت الحكومة الفرنسية تشعر بالضائقة المالية. فضلاً عن ذلك فقد تصاعدت حدة الغضب من جانب المعارضة في الداخل بشكل كبير، مع تحويل الشعب الفرنسي انتباهه بعيداً عن المكسيك نحو التهديد الذي تمثله بروسيا- جزء من ألمانيا حاليا- تحت حكم بسمارك، لذلك انسحب نابليون الثالث تاركاً إمبراطور المكسيك تحت رحمة الجمهوريين.
وغادر الناجون من الكتيبة المصرية البالغ عددهم 326 المكسيك في عام 1867. وبما أن العديد منهم تعلموا الفرنسية خلال الحملة المكسيكية، فقد أمضوا بعض الوقت في سان نازير بفرنسا في رحلة العودة إلى الوطن.
وفي 9 مايو/أيار من عام 1867، استعرض الإمبراطور نابليون الثالث برفقة شاهين باشا القائد العام للجيش المصري الكتيبة المصرية أثناء مرورها بالعاصمة الفرنسية باريس حيث تم منح 56 رجلاً وسام جوقة الشرف، بينما حصل الضابط محمد ألماظ على صليب الضابط من يدي الإمبراطور الفرنسي نفسه.
وبعد أسبوعين، تم الترحيب بالمقاتلين المصريين والسودانيين العائدين من قبل السكان المبتهجين في الإسكندرية، واستعرضهم الخديوي إسماعيل في مأدبة خاصة في قصر رأس التين في 26 مايو/ أيار، كما تمت ترقيتهم جميعا.