حرية – (17/8/2024)
يرصد “عربي بوست” بالخرائط، تفاصيل توغل الجيش الأوكراني في الأراضي الروسية ومحاولته توسيع سيطرته وتثبيتها، من خلال الهجوم المفاجئ الذي يقترب من إتمام أسبوعه الثاني، والذي على الرغم من تباطؤ وتيرته، إلا أنه يعكس ضعفاً في الرد الروسي حتى الآن، كما نرصد كيف تتجنب موسكو حتى الآن الوقوع بفخ سحب قواتها من جبهات في أوكرانيا لصد الهجوم على الحدود، ما قد يؤثر على مكاسبها الأخيرة في المعارك داخل أوكرانيا.
ومثّل التوغل الأوكراني في روسيا الذي بدأ يوم 6 أغسطس 2024، صدمة لموسكو، فهو أكبر توغل لقوات أجنبية في روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، ويأتي في وقت زاد فيه الجيش الروسي من هجماته شرقي أوكرانيا، وخاركيف (شمال شرقي البلاد)، ومنح موسكو تفوقاً عسكرياً من خلال تحقيق بعض المكاسب العسكرية خلال الصيف، إلا أن الهجوم الأوكراني خلط أوراق الحرب الروسية.
وفيما تفرض كل من روسيا وكييف تعتيماً على الكثير من التفاصيل المتعلقة بالتوغل الأوكراني في الأراضي الروسية، إضافة إلى إطلاق الطرفين تصريحاتٍ تخلو بعض الأحيان من أدلة، اعتمدنا على المصادر المفتوحة الموثقة (من فيديوهاتٍ وصور أقمار صناعية، وبعض البيانات العسكرية) لرصد خريطة السيطرة العسكرية الأوكرانية على الأراضي الروسية.
ما الذي حدث بالتوغل الأوكراني في روسيا؟
بوتيرة متسارعة تتساقط منذ يوم 6 أغسطس 2024 بلدات روسية تابعة لمقاطعة كورسك الحدودية بأيدي الجيش الأوكراني، بعدما شن هجوماً مباغتاً انطلاقاً من مدينة سومي الواقعة شمال شرقي أوكرانيا، والتي تبعد عن الحدود مع روسيا نحو 35 كيلومتراً.
وتظهر تحركات الجيش الأوكراني داخل روسيا، أنه يشن هجوماً باتجاه شمال وشرق وغرب مدينة سودجا الروسية الاستراتيجية، التي تُعد محور الهجوم الأوكراني، وهذه المدينة هي مركز إداري مهم في مقاطعة كورسك، التي استخدمتها روسيا كنُقطة انطلاق لشن هجمات جوية ومدفعية ضد أوكرانيا، إضافةً لكونها مركزاً ينطلق منه الدعم العسكري للقوات الروسية التي تقاتل في خاركيف.
تحتوي مدينة سودجا على محطةٍ يمر عبرها الغاز الروسي إلى أوروبا، وقد أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الخميس 15 أغسطس 2024، عن سيطرة قوات بلاده على المدينة، فيما لم تؤكد روسيا ذلك.
وبحسب ما رصد “عربي بوست” من فيديوهات لجنود أوكرانيين يشاركون في الهجوم على روسيا، فإن بعضهم ظهر في مواقع داخل المدينة.
وحتى يوم 16 أغسطس 2024، فإن الجيش الأوكراني يسيطر على نحو 1150 كيلومتراً مربعاً من الأراضي الروسية الحدودية، ودخل حتى عمق 35 كيلومتراً، وبحسب القائد العام للجيش الأوكراني أوليكساندر سيرسكي، فإن كييف تسيطر على 82 منطقة، في حين أن القائم بأعمال حاكم “كورسك” الروسية قال إن أوكرانيا تسيطر فقط على 28 بلدة وقرية.
وتسبب الهجوم الأوكراني، في إجلاء روسيا لنحو 180 ألف شخص من “كورسك”، و”بيلغورود” التي أعلن حاكمها حالة الطوارئ بسبب الهجوم.
وفيما تقدم كل من روسيا وأوكرانيا أرقاماً متضاربة، فإن بيانات معهد دراسات الحرب الذي يرصد بشكل موثق مناطق السيطرة الأوكرانية داخل روسيا، تظهر أن الجيش الأوكراني سيطر بالفعل على عشرات المناطق الروسية.
محاولات أوكرانيا لتوسيع الهجوم
والتحول الملفت في الهجوم الأوكراني على الأراضي الروسية، هو امتداد المعارك إلى مقاطعة بيلغورود الحدودية، وهي منطقة تبعد نحو 100 كيلومتر إلى جنوب شرق مدينة سودجا، لكن بحسب ما نقلته صحيفة “واشنطن بوست” عن جنود أوكرانيين، فإن الجيش الروسي بدا مستعداً لصد الهجوم على بيلغورود، ولم تستطع أوكرانيا حتى تاريخ اليوم 16 أغسطس تحقيق تقدم ملحوظ في هذا الهجوم.
في ذات الوقت، تغيب المؤشرات حتى تاريخ 16 أغسطس 2024، على أن روسيا استطاعت تحقيق خرق لصالحها في معاركها داخل “كورسك” ضد أوكرانيا، إذ ما تزال المناطق الرئيسية تحت السيطرة الأوكرانية.
وبحسب ما رصده “عربي بوست” من فيديوهات نشرتها حسابات مدونين عسكريين روس موالين للحكومة على تلغرام، فإن القوات الروسية استهدفت خلال يومي 15 و16 أغسطس القوات الأوكرانية في جنوب وشمال سودجا وتحاول استعادة السيطرة منها في هاتين المنطقتين.
تثبيت سيطرة أوكرانيا وضربات استباقية
وتُشير تحركات أوكرانيا في المناطق التي سيطرت عليها داخل روسيا، إلى أنها ترغب في البقاء لفترة أطول من مجرد استيلاء مؤقت على أراضٍ روسية، ولكن ذلك يبقى رهينة صمود أوكرانيا أمام الرد الروسي على التوغل الأوكراني، واحتياج أوكرانيا من العتاد والمقاتلين للدفاع عن نفسها في الجبهات المشتعلة داخل أراضيها، ومدى استعداد الغرب لدعم معارك كييف داخل روسيا.
وضمن مساعيها لتثبيت سيطرتها، أعلنت كييف أنها تسعى لإنشاء “منطقة عازلة”، وقالت إن الهدف منها حماية نفسها من القصف، إضافةً إلى عزمها إقامة ممرات إنسانية في المناطق الروسية المستولى عليها.
وتُشير وتيرة العمليات العسكرية حتى تاريخ 16 أغسطس 2024، إلى أن أوكرانيا ليست مكتفية بالمساحات الجغرافية التي تسيطر عليها حالياً في روسيا، وشن الجيش الأوكراني هجمات جديدة يوم 16 أغسطس 2024، بحسب بيانات معهد “دراسات الحرب” المستندة أيضاً إلى ما تنشره حسابات روسية موالية لموسكو على الإنترنت.
وتظهر هذه الخريطة أحدث العمليات العسكرية التي شنها الجيش الأوكراني داخل الأراضي الروسية حتى تاريخ 16 أغسطس 2024.
في نفس الوقت، تضرب أوكرانيا المرافق التي تستخدمها روسيا كركيزة لتقديم الدعم لقواتها في “كورسك”، ويوم الجمعة 16 أغسطس 2024، دمرت أوكرانيا جسراً مهماً فوق نهر سيم في جلوشكوفو، وكانت القوات الروسية تعتمد على هذا الجسر لتزيد قواتها بالدعم في المنطقة.
عسكرياً أيضاً، تعمل أوكرانيا على تعزيز إجراءاتها الدفاعية لحماية قواتها الموجودة داخل الأراضي الروسية، ولتحقيق ذلك، شنت كييف يوم 14 أغسطس 2024، أكبر هجوم من نوعه بالطائرات المسيّرة على 4 قواعد عسكرية روسية، بهدف منع الطائرات الروسية من قصف مواقع القوات الأوكرانية في المناطق التي استولت عليها في روسيا.
والقواعد التي تعرضت لهجمات بمسيرات أوكرانية، هي “خالينو (تبعد عن سودجا قرابة 100 كيلومتر)، وسافاسليكا، وبوريسوجليبسك، وبالتيمور”، وقد أظهرت صور أقمار صناعية تضرراً في قاعدة بوريسوجليبسك.
في نفس اليوم الذي أعلنت فيه أوكرانيا عن مهاجمة القواعد الروسية، قالت موسكو إنها دمرت 117 طائرة بدون طيار فوق “كورسك” والمناطق المجاورة لها.
أهداف أوكرانيا من الهجوم
التوقيت الذي اختارته أوكرانيا لشن هجومها المفاجئ على روسيا، يتزامن مع تعرض القوات الأوكرانية في شرق البلاد لضغط عسكري كبير، بسبب الهجمات المكثفة التي يشنها الجيش الروسي بهدف توسيع مناطق سيطرته.
وتريد أوكرانيا من توغلها في الأراضي الروسية، أهدافاً عدة، على رأسها أن تدفع موسكو إلى سحب قواتها من خطوط القتال في شرق أوكرانيا لا سيما إقليم “دونباس”، والدفع بها إلى داخل الأراضي الروسية لمواجهة أوكرانيا في مقاطعة “كورسك”، وتعد السيطرة على الإقليم أحد أهم أهداف موسكو العسكرية بالحرب.
وقبل بدء الهجوم الأوكراني، كانت روسيا قد كثفت من هجماتها على خاركيف ثاني أكبر مدن أوكرانيا، وهي المدينة التي سبق وأن نجحت كييف في عام 2022 في إجبار روسيا على الانسحاب من المدينة.
كذلك وبحسب معهد “دراسات الحرب” فإن الهدف الآخر هو التأثير على خطوط الإمداد اللوجستية التي تساعد القوات الروسية في عملياتها العسكرية داخل أوكرانيا، إضافة إلى نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية بدلاً من اقتصارها على الجغرافيا الأوكرانية.
وتريد أوكرانيا إعطاء رسالة لحلفائها الغربيين، بأن توسيع هامش السماح لكييف في استخدام الأسلحة الغربية ضد روسيا، يساعد على تحقيق مكاسب عسكرية أكبر، وكانت بريطانيا قد أعطت أوكرانيا ضوءاً أخضر في استخدام أسلحتها داخل الأراضي الروسية، فيما لا يزال ممنوعاً على أوكرانيا استخدام بعض الأسلحة الغربية خارج حدود البلاد.
وفيما تسيطر أوكرانيا على نحو 1150 كيلومتراً من الأراضي الروسية، فليس واضحاً بعد ما إذا كان بإمكانها الاحتفاظ بها لوقت طويل أو توسيع سيطرتها على أراضٍ جديدة، من شأنها أن تمنح أوكرانيا موقفاً تفاوضياً أكبر مع موسكو، لا سيما فيما يتعلق بالتفاوض على مصير بقاء روسيا في المناطق التي احتلتها شرقي أوكرانيا بعد بدء الحرب في شباط 2022.
هدف آخر تسعى وراءه كييف، وهو دفع روسيا إلى الدخول في صفقة تبادل أسرى جديدة، لا سيما وأن الجيش الأوكراني تمكّن من اعتقال ما لا يقل عن 100 جندي روسي خلال المعارك في كورسك.
ماذا تفعل روسيا لاستيعاب الهجوم وتجنب الفخ؟
تركز روسيا في تعاملها مع الهجوم الأوكراني على أراضيها، على أمرين رئيسيين، الأول محاولة طرد القوات الأوكرانية من مقاطعة “كورسك”، والثاني تجنب الوقوع في فخ اضطرار موسكو إلى سحب قواتها من الجبهات المشتعلة في أوكرانيا بما يؤثر سلباً على وتيرة عملياتها في شرق أوكرانيا.
وفيما يتعلق بالتحركات الروسية لصد القوات الأوكرانية داخل “كورسك” وإبطاء تقدمها، عمدت روسيا إلى تعزيز تحصيناتها في المناطق القريبة من “كورسك”، إذ أظهرت صور أقمار صناعية حفر روسيا لخنادق في منطقة إيلغوف، التي تقع شمال سودجا.
في ذات الوقت، دفعت روسيا بمزيد من القوات نحو المناطق الحدودية التي دخلتها أوكرانيا، وفيما تغيب المعلومات الرسمية الروسية عن الأماكن التي يأتي منها المقاتلون الروس إلى الحدود، نقل معهد “دراسات الحرب” عن موقع روسي معارض، قوله، إن روسيا سترسل مجندين إلى الحدود، من موسكو، ولينينغراد، وكالينينغراد، وسفيردلوفسك، ومورمانسك وسامارا.
وتحاول روسيا أن تبعد تأثير التوغل الأوكراني في أراضيها، على وتيرة عملياتها العسكرية شرقي أوكرانيا، وحتى يوم 17 أغسطس 2024، تخلو المؤشرات على أن أوكرانيا نجحت في إجبار روسيا على سحب قواتها من الجبهات داخل أوكرانيا وإرسالها إلى “كورسك”.
وبخلاف ذلك، يحافظ الجيش الروسي على وتيرة عملياته العسكرية في شرقي أوكرانيا، وحتى يوم 16 أغسطس 2024، واصل الجيش هجومه على خاركيف، إضافة إلى استمرار العمليات العسكرية للسيطرة على المزيد من الأراضي في لوغانسك، وواصل هجومه شرق دونيتسك بهدف توسيع السيطرة.
كان بوتين قد شدد يوم 12 أغسطس 2024 خلال لقائه بمسؤولين عسكريين وأمنيين كبار، على أن وتيرة الهجوم الروسي في إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، لم تتباطأ بسبب التوغل الأوكراني، وقال إن “الهجوم زادت وتيرته خلافاً لتوقعات كييف”.
وتعكس تصريحات عسكريين أوكرانيين حجم الضغط الكبير الذي تمارسه روسيا على الجبهات شرقي أوكرانيا، رغم التوغل في أراضيها، إذ نقل موقع “بوليتيكو” الأمريكي عن متحدث عسكري أوكراني موجود في منطقة بوكروفسك بدونيتسك، قوله إنه “منذ أن شنت أوكرانيا هجومها على كورسك، أصبحت الأمور أسوأ في جزءنا من الجبهة. لقد أصبحنا نحصل على ذخيرة أقل من ذي قبل، والروس يضغطون علينا”.
قائد الجيش الأوكراني “أوليكساندر سيرسكي” أقر هو الآخر بأن الوضع على الجبهتين الشرقية والجنوبية لأوكرانيا “يبقى صعباً”، مضيفاً أن “الوضع تحت السيطرة”، بحسب تعبيره.
وفيما لم يتوضح بعد مصير بقاء الجيش الأوكراني في الأراضي الروسية، فإن موسكو وجدت نفسها تحت ضغطين، الأول عسكرياً جراء التوغل في أراضيها، والثاني داخلي، إذ وجه روس انتقادات لاذعة للقيادات العسكرية في البلاد، معتبرين أن ما جرى على الحدود يمثل ضربة كبيرة للبلاد.