حرية – (21/8/2024)
مرحباً، اسمي كاري برادشو وأود إعلامكم أنني سأتزوج من… من نفسي. وأملك حساباً في متجر مانولو بلانيك Manolo Blahnik (للأحذية الفاخرة). شكراً، وداعاً!”.
بهذه العبارات تركت كاري الشابة العازبة وغير المرتبطة التي لم تنجب أولاداً رسالة قصيرة صادمة على الهاتف في إحدى حلقات المسلسل الشهير “الجنس والمدينة” Sex and the City بعد أن تعرضت في حفل استقبال مولود قادم لسرقة حذائها الباهظ الثمن الذي يحمل توقيع مصمم بارز. شكلت تلك الرسالة طريقة لتسوية الحساب وتحدي نظام يعتبر خيارات أسلوب الحياة “التقليدية” للمرأة، أي أن تحظى بزوج وأولاد، أكثر أهمية وجدية من البديل “الأناني” بأن تبقى عازبة وتنفق المال على ملذات التسوق والأحذية الباهظة. لم تملك كاري النية الفعلية للزواج من نفسها، بل أرادت أن تحمل صديقتها السارقة على تسديد مبلغ 485 دولاراً لشراء حذاء جديد من مانولو بدلاً من الذي فُقد. ولكن تبين بعد ذلك أن تلك الشخصية التي نجمع على كرهها في المسلسل كانت فعلاً سباقة لعصرها.
بعد مرور أكثر من 20 عاماً على ذلك المشهد، يبدو أن ظاهرة الزواج من الذات التي تُعرف بـ”sologamy” أو “autogamy” أصبحت أكثر شعبية إن لم تكن منتشرة بالكامل. ففي يونيو (حزيران) من العام الحالي، كتبت ريبيكا هولبيري مقالاً في موقع “مترو” Metro عن قرار تنظيمها حفل زفاف مترف تتزوج فيه من نفسها في مناسبة عيد ميلادها الـ40 بعد علاقتي حب جديتين حُكم عليهما بالفشل في نهاية المطاف وخمسة أعوام من العزوبية.
وقالت: “كلما فكرت في الأمر، أدركت أكثر بأن العلاقات الرومانسية التي عشتها لم تجلب لي سوى خيبة الأمل واليأس. في الواقع، لم أكن متأكدة من أنني ما زلت أريد الإقدام على خطوة الزواج. ولكن الفستان وقالب الحلوى والحفلة؟ حتماً أود ذلك”.
وفي فصل الخريف من العام الماضي، قررت سارة ويلكنسون العاملة في مجال مراقبة الائتمان والبالغة 42 سنة من العمر أن تتزوج من نفسها بعدما أمضت 20 عاماً تدخر المال لليوم المنتظر الذي لم يأتِ أبداً. أنفقت 10 آلاف جنيه استرليني (12900 دولار) على الحفل وارتدت فستاناً من الترتر فيما رافقتها والدتها إلى المذبح حيث تبادلت العهود مع نفسها (بما في ذلك عدم التخلي عن جهاز التحكم بالتلفزيون).
وفي تصريح لقناة “بي بي سي” قالت: “كان يوماً رائعاً لأنني كنت محور الاهتمام. لم يكن الحفل زفافاً رسمياً ولكنني حظيت بيوم زفافي الخاص. أعتقد أن المرء يصل إلى مرحلة ما من حياته حينها يبدأ بالتفكير أنه ربما لن يحظى بالفرصة للقيام بذلك برفقة شريك إلى جانبه، فلماذا أفوت الفرصة؟ كنت أحتفظ بذلك المال لحفل زفافي وقلت في نفسي إنه موجود فلماذا لا أستخدمه في أمر أود فعلاً القيام به؟”.
وفي قسم أبعد من العالم، أحدثت كشاما بيندو ضجة كبيرة في البلاد عام 2022 عندما أصبحت أول شخص في الهند يتزوج من نفسه ونظمت حفلاً تضمن، وضع الحناء التقليدية وطقوس الزينة التي تشتهر بها حفلات الزفاف الهندية. وأثار الأمر جدلاً واسعاً وصل إلى أعلى المستويات إذ وصفه السياسيون بأنه صورة من صور الانفتاح المفرط الذي يقترب من حافة الجنون واعتبروه منافياً للدين.
وتكر سبحة الذين أقدموا على تلك الخطوة، على غرار داني آدامز المدربة المتخصصة في صورة الجسد والبالغة 30 سنة من العمر حين أقامت حفل زفاف من نفسها في الهواء الطلق بحضور 40 مدعواً في فلوريدا عام 2022 بعد أن خضعت للعلاج النفسي وأعلنت بأنها خطوة مهمة في سبيل حب الذات. ولعل المثل الأكثر غرابة هو زواج دوروثي فيديلي، 77 سنة، من نفسها أمام أبنائها الثلاثة وعشرات المدعوين في دار للمسنين في غوشن بولاية أوهايو عام 2023. دخلت وهي تدفع بعكاز المشي المزين نحو المذبح على وقع أغنيتها المفضلة “لأنك أحببتني” Because You Loved Me لسيلين ديون.
وقالت لشبكة “سي أن أن”: “شعرت أنني جميلة وكأنني فزت باليانصيب أو ما شابه. شعرت أنني كالأميرات وبأهمية نفسي، شعرت أنني شخص مهم. يصعب عليَّ أن أشرح ذلك الشعور، يجب أن تشعروا به انطلاقاً من عمق أعماقكم”.
وبالعودة إلى المملكة المتحدة، ألفت كاتبة النصوص الإعلانية صوفي تانر والمعروفة بحسابها على “إنستغرام” باسم “المتزوجة من نفسها” Thesologamist رواية مستوحاة من تجربة زواجها من نفسها عام 2015. واحتفاءً بإطلاق الكتاب الذي يحمل عنوان “أيها القارئ، لقد تزوجت من نفسي” Reader, I Married Me بعد أربع سنوات، جددت العهود لنفسها من خلال عرض راقص “فلاش موب” في شوارع برايتون.
ولكن، هل الزواج من الذات أمر قانوني؟ وهل بوسع المرء أن يطلق نفسه؟ وهل أن زواج المرء من نفسه يمنعه من الزواج بشخص آخر؟
“الإجابة الصريحة والمباشرة هي “لا” تقول كايت راين الشريكة في فريق العائلات في شركة الاستشارات والمحاماة “سيدونز” Seddons Solicitors. وتضيف قائلة: “ليس هناك ما يلزم المرء قانوناً في أي حفل يعلن فيه أنه يتزوج من نفسه. فهذا الأمر لا يحمل أية صفة قانونية أو شرعية”. ويصح ذلك في كل أنحاء العالم. إذ تقول راين: “على حد علمي، لا يتم الاعتراف بهذا الإجراء في أي مكان في العالم لسبب بديهي وهو أنه يضم شخصاً واحداً. فليس هناك أي شيء ينطبق عليه من الناحية القضائية ومن منظور قانون الأسرة ولا تعترف به أيضاً أية مؤسسة أو هيئة”.
يعني ذلك أنه لا حاجة لأن يُطلّق المرء نفسه بسبب غياب “أية مبادئ قانونية ينبغي انطلاقاً منها اللجوء إلى المحكمة للبت في ذلك. وليس هناك أية مؤشرات في النظام القضائي يجب ربطها معاً عندما يتعلق الأمر بفكرة زواج المرء من نفسه” على حد قول راين. يعود ذلك إلى غياب التعقيدات المالية عندما يتعلق الأمر بزواج المرء من نفسه وحسب. وتتابع قائلة: “في حال تزوجت من من شخص آخر في المملكة المتحدة، تحظى على الفور بالحقوق في الأصول المالية لذلك الشخص بما في ذلك ممتلكاته ومخصصاته. ولكن إذا تزوجت من نفسك، فستملك الحق في النواحي المالية التي تعود لك أنت شخصياً مما يجعل من الأمر غير منطقي وعديم المعنى من الناحية القانونية”.
بوسعكم إذاً الزواج من أنفسكم ولاحقاً سيحق لكم الزواج من شخص آخر في المستقبل وبذلك لن يعيروكم بتعدد الزيجات.
على رغم عدم الاعتراف بالزواج من الذات قانونياً، فإن تلك الظاهرة منتشرة منذ 30 عاماً. ويُعتقد أن امرأة أميركية تُدعى ليندا بايكر هي أول شخص يتزوج من نفسه رسمياً إذ أقدمت على تلك الخطوة احتفالاً بعيد ميلادها الـ40 عام 1993 بحضور 75 شخصاً من عائلتها وأصدقائها بمساعدة سبع إشبينات. وتحدثت عن حفل زفافها الذي تصدر عناوين الصحف وقتها قائلة: “يتعلق الأمر بالقيام بالأمور من أجل أنفسكم وليس انتظار شخص آخر لتحقيقها”.
وسخر النقاد من ظاهرة الزواج من الذات باعتبارها فعلاً نرجسياً أي نتاج مجتمع مهووس بنفسه وبحب الفرد بشكل متزايد. حتى إن ذكر تلك الفكرة علناً كان يُقابل بالملاحظات المهينة والساخرة ويشبه إلقاء نكتة بذيئة في غير موقعها. ولكن المؤمنين بتلك الظاهرة، وهم بغالبيتهم من النساء، يصفون الأمر بأنه يعكس تقبل وحب الذات بأبهى حللهما وبوسعه أن يؤدي إلى تعاطف أكبر مع الآخرين.
وفي هذا السياق، تكتب تانر: “إن زواج المرء من نفسه لا علاقة له أبداً بالغرور أو بالسعي إلى عبادة الذات. الزواج من الذات هو التزام المسؤولية تجاه سعادتك ومن ثم تصبح متاحاً من الناحية العاطفية لتقبل الآخرين وفهمهم. من شأن تطوير شعور بقيمة الذات والتخلي عن انعدام الثقة بالذات أن يزودكم بقدرة أكبر على التواصل مع البشر”.
ولكن الأمر أيضاً لا يعني التزام البقاء شخصاً عازباً. وفي هذا الإطار تضيف تانر: “أقول من خلال الزواج من نفسي أن حب الذات يوازي الحب الرومانسي أهمية ولكن بوسعهما أن يوجدا معاً في حياتي. أعتقد أن الأمر يتطلب مهارة لتعلم الشعور بالسعادة انطلاقاً من ذاتك. حتى عندما تكون شريكاً في علاقة ثنائية، من المريح البحث عن بعض العزلة وقضاء بعض الوقت بمفردك”.
وتعتبر تانر أن الزواج من الذات هو جواب على عالم غربي يتزايد فيه انعدام الروحانية على رغم الدور الرئيس الذي تلعبه الشعائر في تحديد هويتنا وتعزيز تطورنا. تقيم بعض الثقافات الأخرى احتفالات ببلوغ سن الرشد وهو بمثابة بوابة لدخول حياة البلوغ والاستقلالية. في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، يختار الأشخاص الإقدام على الزواج في مرحلة متقدمة من حياتهم أو عدم الإقدام على تلك الخطوة مطلقاً “مما يعني أنهم لا يملكون ما يميز أو يطبع إنجازاتهم الشخصية” على حد قولها، مضيفة “من شأن الزواج من الذات أن يتيح الفرصة للاعتراف رسمياً بشعور التطور الشخصي”.
هذا الانجذاب نحو الطقوس أو الشعائر الذي نشعر به كبشر قد يشكل السبب الأساس لجاذبية إقامة حفلات الزفاف الفردية. وبحسب البروفيسور هارفي وايتهاوس، رئيس قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة أكسفورد ومؤلف كتاب “الإرث: الأصول التطورية للعالم الحديث” Inheritance: The Evolutionary Origins of the Modern World، يعود سبب شعورنا بالحاجة إلى إقامة حفلات الزفاف ومراسم الجنازات “إلى نوعين من الموروثات: البيولوجية والثقافية. يتعلق الجانب البيولوجي بطريقة تطور عقولنا”.
ويقول إن الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا تجعلنا نعتقد أن التحولات الكبرى في الحياة – مثل الموت والزواج – “تنطوي على تغيرات في المكانة الاجتماعية لا بد من أن تُحدَّد وتوسم بطرق معينة”. ويضيف: “لكن الطرق المحددة التي نقيم بها حفلات الزفاف والجنازات تختلف بوضوح من مجتمع إلى آخر – فهذه التقاليد تكون موروثة ثقافياً وليس بيولوجياً. وتجعلنا كلتا الصورتين من صور الإرث نرغب في إقامة حفلات الزفاف والجنازات”.
أما في ما يتعلق بملاءمة حفل الزفاف التقليدي بصورة تتناسب مع شخص عازب، فهناك حافز “ترابطي” أنثروبولوجي يفسر جاذبية الزواج الفردي (من الذات) في مجتمعات معينة. إن كان عدد متزايد من الأشخاص يختار العيش بمفرده “فهو أسلوب حياة قد يشعرون بالحاجة إلى الانتقال إليه والاحتفال به بصورة طقسية أو تقليدية” يضيف وايتهاوس. “لهذه الغاية، فإنهم يستعينون بإرثهم النفسي المتطور، ولكن أيضاً على تقاليدهم الثقافية بهدف إيجاد طريقة لجعل هذا التحول يبدو حقيقياً. وأثناء تلك العملية، يتواصلون مع الآخرين الذين يشاركون في حفلات زفافهم، فضلاً عن التواصل بصورة غير مباشرة مع مجموعة فرعية متنامية من زملائهم الذين يمارسون هم أيضاً فكرة الزواج من أنفسهم”.
ويعتبر أنه بعيداً من الأنانية أو النرجسية، بوسع الزواج من الذات أن يكون دافعاً نحو الأفضل ويقول: “في حال أقدمت على الزواج من نفسك بطريقة تتيح لك مشاركة التجربة مع العائلة والأصدقاء، فمن المرجح أن يكون لذلك تأثير ترابطي في هذا النوع من المجموعات. والروابط كهذه مهمة في جعلنا مواطنين أفضل بطرق مختلفة. إضافة إلى ذلك، فإن هذه الحركة التي ترفض من خلالها النساء انتظار الحصول على حب قد لا يأتي ولجوئهن عوضاً عن ذلك إلى طقوس خاصة لتمكين الذات “قد تسهم في إرساء صور جديدة من تحرير المرأة”.
في الواقع، قد يكون الزواج من الذات أكثر الممارسات النسوية تطرفاً. وفي هذا الصدد تقول تانر: “تاريخياً، كان نجاح الزواج يعتمد على استعداد المرأة للتنازل عن ذاتها وبذلها في سبيل زوجها وأولادها. أما اليوم، عندما تحظى المرأة بزفاف من دون زوج، يُعتبر ذلك رداً قوياً على مجتمع يقول لها إنها بحاجة إلى رجل لتعيش سعيدة إلى الأبد. هي امرأة ترفض الشعور بالخجل أو أن يتم رفضها أو نبذها. هي تختار الحياة وتختار نفسها أولاً”.