حرية – (21/8/2024)
لمدة ثلاث سنوات، ستعبر السفينة العملاقة “أرت إكسبلورر” البحر الأبيض المتوسط وستقدم في كل محطة من محطاتها برنامجاً ثقافياً مجانياً مخصصاً بالكامل للأزرق الكبير وتاريخه وخياله وتحدياته وأبرز فنانيه، كجزء من المهرجان، وهو مشروع يهدف إلى مقابلة جماهير جديدة من طريق البحر. الواقع أن ما يحدث في العالم من تطورات لبرامج التفاعل الاجتماعي مع قطاع المتاحف لا يقاس أمام مشروع “أرت إكسبلورر”، الأغرب من الخيال والذي يعد قفزة إلى الأمام في عالم المتاحف الافتراضية، التي تدمج بين الترفيه والتثقيف الفني والبصري.
لا تمر سفينة “أرت إكسبلورر” من دون أن تثير الفضول. فهي “أكبر قارب شراعي في العالم”، بطول 47 متراً وصاريها يبلغ ارتفاعه 55 متراً، تنقل معارضها من ميناء إلى آخر، وتنشر في أعقابها العديد من الفعاليات الثقافية. بدأت كمشروع خيالي أخذ يراود رجل الأعمال المخضرم فريديريك جوسيه المعروف بشغفه للفن والبحر، وهو مالك شركة Art Explora التي تتمثل مهمتها في تشجيع تبادل الثقافة مع أكبر عدد ممكن من الناس وتجديد الحوار بين الفنون والجمهور. في أكثر من مقابلة أجريت معه صرح: “بإن إضفاء الطابع الديمقراطي على الجمال يبدأ ببناء شيء جميل”. هكذا تمت هندسة السفينة الفخمة التي صممها المهندس البحري آكسل دوبوفور، ليس لهدف أن تكون عملاقة بل أن تتسع في مساحتها الداخلية لأكبر عدد من الزوار، بحيث يمكنها استيعاب 2000 زائر يومياً كحد أقصى. وبما أن المهرجان يهدف إلى دعم الإبداع المعاصر، فإنه يقدم مساكن للإقامات المشتركة للفنانين على متن السفينة، وفق برنامج يسمح لأكثر من 30 فناناً من 15 دولة متوسطية بتطوير مشاريعهم والسفر إلى بلدان أخرى في المنطقة.
إيتل عدنان ضيفة المهرجان
أول متحف عائم في سفينة تجوب المتوسط
مارسيليا مفترق طرق ومدينة عالمية، وهي أجمل الرموز، كما تمثلت في البرنامج الذي أعدته المنسقة الفنية مارثا كيرزينباوم، التي أعلنت أنها تريد “تفكيك التسلسل الهرمي بين الثقافات العالية والمنخفضة”، والاستثمار في مؤسسات المتاحف الكبيرة باعتبارها “أماكن يومية”، من خلال اقتراح الدمج بين الترفيه والمتعة والفن، من دون إغفال تجربة الطهي على سبيل المثال في “ملهى شرقي معاصر” أو في “بار الشيشة”، إضافة إلى ملفات البودكاست للاستماع إليها في القرية التي تمتد على رصيف المرفأ. هذا التناقض الذي يغذي روح المهرجان، يذكر بعبارة فيكتور هوغو “البحر مساحة من الصرامة والحرية”.
في مرفأ مارسيليا القديم مقابل القارب على الرصيف، أنشئت قرية كاملة نموذجية، مكونة من جناحين للمعارض (مع قسم للخدمات وشاحنة طعام ومتجر)، ومسرح كبير للحفلات الموسيقية (الأبرز كان حفل Zaho de Sagazan)، وعروض فرق راقصة، وعزف على البيانو وجوقة للأطفال، كما تم تنظيم معارض واجتماعات وورش عمل ومناظرات. إضافة إلى ما يسمى “أغورا” وهي منصة راجلة تقدم برنامجاً متعدد التخصصات وأوقاتاً للتبادل حول الجوانب المجتمعية والبيئية.
كل شيء متاح مجاناً، كذلك فإن القرية تعيش كل يوم على إيقاع البحر الأبيض المتوسط، مع فكرة “صنع” الفن وفق المعايير التي دفعت متحف اللوفر إلى الانضمام إلى هذا المشروع. وفي سياق هذه المشاركة تقول رئيسة متحف اللوفر لورانس دي كار، بأنه تمت الاستعانة بمجموعة من الأسماء البارزة في الفن، من أمثال سيمون فتال، لاستكشاف الأعمال التي تحاكي تيمة المرأة وثقافة المتوسط في منجز الفنانة إيتل عدنان (1925-2021) كشخصية بارزة في المهرجان. وقد تم اختيار مجموعة من المحفورات التي تجسد علاقتها بالشمس والبحر، من بينها لوحة طباعية بعنوان “إلى المحيط” موقعة في عام 2017، وهي التي تصدرت غلاف مجلة “بوزار” الفرنسية.
لوحة للرسامة إيتيل عدنان في المتحف العائم
تعد إيتل عدنان أكثر شخصية متوسطية مؤثرة في مشهدية المعاصرة، كما يتبدى في مساراتها المتصلة بالتعددية الثقافية وتنوع الهويات المنفتحة على مختلف الضفاف. فهي من أب سوري مسلم كان ضابطاً في الدولة العثمانية، وأم مسيحية يونانية أصلها من سميرنا (إزمير اليوم). هذا الأصل اليوناني شكل مادة سينمائية للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج (في فيلم فيديو يعرض في المهرجان مدته 50 دقيقة – عام 2016) يعمل على استكشاف “سميرنا” إيتل عدنان بين الواقع والمتخيل، من خلال حوارات معها حيث تنهار الحدود بين قصائدها واستذكاراتها. يذكر أن أول قصيدة كتبتها بالفرنسية كانت بعنوان “شمس وبحر” عام 1949 وكانت في الـ24 من عمرها. وهي قصيدة غنائية تحكي قصة الشمس والبحر كمخلوقات أسطورية أو كميتولوجيا كلاسيكية من اليونان القديم.
مجموعة من المعارض
أما حكايات البحر فهي تبدأ على متن القارب إذ تم تصميم الزيارة كرحلة حسية. على السطح العلوي ينغمس الزائر في أجواء البحر الأبيض المتوسط، بين أغاني السيكادا ومداعبات الأمواج، من خلال عمل صوتي وصف بالملحمي مدته 11 دقيقة، من إعداد معهد البحوث والتنسيق الصوتي-الموسيقي. تلا ذلك تجربة بصرية من نوع “الفن الغامر” الذي يستعيض عن عرض الأعمال المادية بمعرض افتراضي صممه متحف اللوفر على مرحلتين، حول تمثيل المرأة في فنون وثقافة البحر الأبيض المتوسط القديم والمعاصر.
تجربة الفن الغامر داخل السفينة من تصميم اللوفر
بفضل التقنيات الرقمية يقدم المعرض انعكاساً لدور الشخصيات النسائية في حضارات البحر الأبيض المتوسط، من خلال عرض لوحات ومنحوتات، بعضها مشهور جداً والبعض الآخر أقل شهرة، من مجموعات متحف اللوفر. وإلى الموسيقى التصويرية التي أنشأها سكان نيويورك في Soundwalk Collective عند الرصيف، يستمر الاكتشاف مع معرض طموح للفن المعاصر بعنوان “تحت اللازوردي”، صممته المديرة الفنية ريبيكا لامارش فاديل، حول غزو البحر الأبيض المتوسط وأساطيره وأسراره، والقوة الاستفزازية لهذا البحر الفريد للغاية والرؤى التي يولدها، مما استدعي عدد لا يحصى من الفنانين: بايا الجزائرية وإيتل عدنان وجوانا حاجي توما وجان بينليز وأنري سالا وماريسا ميرز…، كما يتمثل عالم البحر في باليه رشيق من الرخويات من توقيع المصور جان بينليفي (1902-1989).
علاوة على ذلك، يسلط جناح الصور الفوتوغرافية الضوء على أعمال المصورين المعاصرين من المنطقة من بينهم المصور اللبناني أكرم زعتري والسوري مجد عبدالحميد. ويقدم جناح الواقع الافتراضي تجارب غامرة مختلفة، بخاصة حول تراث البحر الأبيض المتوسط (الإسكندرية، أثينا، الموصل، حلب، تدمر، ليبيا…)، ويدعو الزوار إلى الغوص في موسيقى غارزا الخيالية أو التفكر في قصة المنفى مع الفنان الأفغاني مير مرتضى، فيلم يتتبع رحلة البحث عن الحرية.
قضايا الهجرة والغرق في عرض البحر
يتطرق المهرجان إلى مواضيع مرتبطة بالقضايا المعاصرة للبحر الأبيض المتوسط: الهجرة والبيئة والتنوع ومكانة المرأة وثقل الماضي الاستعماري. والفنانون يواجهون التاريخ المعقد للبحر الأبيض المتوسط من خلال تقديم أعمال سياسية للغاية، مثل اللوحات السوداء الكبيرة الثلاث التي رسمها إيدي هيلا (ولد عام 1944) بعد مأساة أوترانتو، التي شهدت وفاة 120 لاجئاً ألبانياً في غرق سفينة. إضافة إلى لوحات بالألوان المائية على الورق، لثلاثة مهاجرين شبان، يروون قصة عبورهم للبحر المحفوف بالأخطار. إضافة إلى تجارب في الواقع الافتراضي، بعضها مذهل مثل تلك التي صممتها شركة Iconem لاستكشاف عجائب حوض البحر الأبيض المتوسط التي اختفت أو دمرتها الحروب الأخيرة (خصوصاً في سوريا). من الناحية السياسية، يبدو واضحاً أن التطرق إلى قضايا إنسانية ومجتمعية هي بادرة قوية تتفق مع الشعار الذي نقشته لور بورفوست على أشرعة السفينة، التي تحمل عبارة “هنا نحلم بعدم وجود دموع أمامية بعد الآن” التي تشير في تلاعبها بالكلمات إلى “الحدود والدموع”، تذكيراً بمآسي اللجوء والهجرة غير الشرعية عبر البحر.
بعد مارسيليا ستواصل السفينة رحلتها، إذ تقضي فصل الخريف في المغرب (في طنجة في سبتمبر “أيلول”، وفي الرباط في أكتوبر “تشرين الأول”)، قبل ملقة بإسبانيا (في نوفمبر “تشرين الثاني”). ومن ثم تنطلق نحو البحر الأدرياتيكي في ربيع 2025 إلى كرواتيا ثم إلى ألبانيا. وتوقفات أخرى مخطط لها حتى عام 2026 في مصر أو تركيا أو لبنان أو تونس أو الجزائر… وعندما تنتهي جولة البحر الأبيض المتوسط، في غضون ثلاث سنوات، من المحتمل أن تعود السفينة إلى شمال أوروبا حيث سيحاول المهرجان نسج قصص أخرى.