حرية – (22/8/2024)
كتب الكاتب الأميركي المخضرم بول كروغمان في “نيويورك تايمز” بتاريخ الـ12 من أغسطس (آب) الجاري بأن وصف دونالد ترمب لكامالا هاريس، المرشحة الديمقراطية لرئاسة الولايات المتحدة، بأنها “شيوعية” ينم عن “إهانة” لها، مضيفاً “قد لا يرى بعضنا، وقد لا ينبغي لأحد أن يرى في الشيوعية إهانة، وإن اختلف بعضنا معها”. وقد يكتفي بعضنا بأنها صفة منافية للحقيقة لا تنطبق على هاريس التي “من الواضح أنها ليست شيوعية”، ولكنها “ديمقراطية اشتراكية تناصر البرامج الحكومية التي تخفف من قسوة اقتصاد السوق” مثلما يقول كروغمان، لكن لماذا يصر ترمب على وصف هاريس بالشيوعية؟
ينبغي أن تكون الإجابة بسيطة، فلو أن الكلمة تعد إهانة في نظر كاتب صحافي بأهمية بول كروغمان، وهو الذي يكتب في السياسة منذ ربع قرن ويدرس في جامعة نيويورك، والحاصل على نوبل في الاقتصاد، فلا بد أنها كذلك في الخطاب السياسي الأميركي بعامة، ولذلك تكون كفيلة بأن تنفر قطاعاً من الناخبين من هاريس، وإذاً فهي محض حيلة انتخابية، لولا أن الأمر يوشك أن يتجاوز ذلك.
يذهب كتاب صدر حديثاً في الولايات المتحدة إلى أن التاريخ شهد في شتى مراحله وجود جماعة من البشر “يكرهون ويقتلون”، وخير تسمية لهم هي “اللابشر” أو “غير البشر”، ولا أحسب هذه تسمية بقدر ما هي تصنيف ينكر على بعض البشر إنسانيتهم نفسها. يزعم الكتاب أيضاً أن هؤلاء اللابشر “لا يؤمنون بما يقولون. ولا يبالون بالفوز في المناظرات. ولا يرغبون في المساواة. وكل ما يريدونه هو ذريعة لتدمير كل شيء. يريدون ذريعة لتدميركم أنتم”.
غلاف كتاب “اللابشر”
تبدو لي هذه العبارات أشبه بما نصادفه في فيلم “وثائقي” من تلك الأفلام التي يتوالى فيها ظهور مخرفين يريدون إقناعنا بوجود كائنات مجهولة متخفية وسطنا في هيئات بشرية تسعى إلى تحقيق أغراض سرية لا يوضحها كثير من هذه الأفلام مطلقاً، لكن لا بد أنها أهداف شريرة كريهة تضمر الشر لنا نحن المساكين المفعول بهم دائماً. لا بد أنكم شاهدتم بعض هذه المواد عبر حساب من حساباتكم في مواقع التواصل الاجتماعي، فقد بات حضورها كبيراً، وكأنها تشبع احتياجاً لدينا لا أستطيع أنا في الأقل أن أحدده، فلست متخصصاً في الأمراض النفسية أو العلل الاجتماعية.
غير أن هذه العبارات ليست جزءاً من تلك الصناعة أو التجارة الرائجة، إنما هي جزء من كتاب يفترض أنه سياسي صدر أخيراً في الولايات المتحدة، و”اللابشر” الذين يشير إليهم عنوان هذا الكتاب ليسوا كائنات أخرى، ولكنهم ببساطة بشر مثلنا، ينتمون سياسياً إلى اليسار، ولعل عنوان الكتاب وحده يوضح هذا: “اللابشر: التاريخ السري للثورات الشيوعية (وكيف يمكن أن نسحقها)”.
صدر الكتاب عن دار سيمون أند تشوستر من تأليف جاك بوسوبيك، وهو ضابط سابق في الاستخبارات البحرية الأميركية تحول إلى كاتب صدرت له من قبل كتب منها “مواطنون من أجل ترمب: القصة الداخلية للحركة الشعبية من أجل استرداد أميركا”، بمشاركة في التأليف من الكاتب جوشوا ليسيك.
تكتب ميشيل غولدبرغ عن الكتاب (نيويورك تايمز، الخامس من أغسطس الجاري) فتستهل مقالتها بقولها إنه “في بيئة سياسية طبيعية، ما كنا لنحتاج إلى الالتفات إلى كتاب جديد يصدره المحرض اليميني المتطرف جاك بوسوبيك الذي يحتمل أن تكون شهرته قائمة في المقام الأكبر على ترويجه نظرية المؤامرة القائلة بأن الديمقراطيين يديرون حلقة شيطانية لانتهاك الأطفال أسفل مطعم بيتزا شهير في واشنطن. لكن الخطبة العصماء الصادرة بعنوان ’اللابشر’ من تأليف بوسوبيك بالاشتراك مع كاتب الظل المحترف جوشوا ليسيك تأتي بتأييد من بعض الشخصيات الأكثر نفوذاً من السياسيين الجمهوريين، ومنهم وأبرزهم المرشح لمنصب نائب الرئيس جي دي فانس”.
هاجم ترمب كامالا هاريس ووصفها بأنها “شيوعية”
الحق أن جميع ما كتبته الصحافة الأميركية والإنجليزية عن هذا الكتاب ينطلق تحديداً من بضع كلمات كتبها جي دي فانس شريك ترمب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل تقريظاً له، ونشرت على غلافه الخارجي إلى جانب عدد من التقريظات الأخرى كتبها آخرون. لم يتعامل أحد تقريباً مع الكتاب بجدية، ولم يتجاوز أحد ممن تناولوه مسألة إقرار فانس بما فيه، ولعلهم محقون في ذلك لوجهين، أولهما أنه أمر خطر حقاً، بل هو كارثي، أن يكون نائب الرئيس الأميركي مؤمناً بأن اليساريين ليسوا بشراً، والوجه الثاني أن الكتاب لا يكاد يحوي ما يستحق الالتفات إليه، إلا من باب الطرافة، والاطلاع على صورة مشوهة للعالم والتاريخ بحسب ما يراهما البعض ويريدون أن نراهما مثلهم عبر عدسات معتمة ومنحرفة. يضاف إلى هذا وذاك أن المؤلف نفسه ـ أي بوسوبيك ـ لا ينبغي أن يعتد به كثيراً، ففضلاً عن نظرية مؤامرة حلقة منتهكي الأطفال الديمقراطيين أسفل مطعم البيتزا “يشتهر الرجل أيضاً بترويجه أفكاراً يمينية متطرفة تذهب إلى أنه خير للشعب أن تقوده حكومة استبدادية. حتى إنه قال في خطبة بمؤتمر العمل السياسي المحافظ: أهلاً وسهلاً بنهاية الديمقراطية. صحيح أننا لم نصل إلى هذا في السادس من يناير (كانون الثاني)، لكننا سنسعى جاهدين إلى التخلص منها”، فضلاً عما في الكتاب الجديد نفسه مما يجعل التعامل معه بجدية أمراً لا طائل منه.
غير أن لغولدبرغ رأياً آخر، إذ تقول أنه “كثيراً ما تستعمل صفة ’الفاشي’ في السياسة، لكن من الصعب العثور على صفة أنسب منها لوصف كتاب ’اللابشر’ الذي صدر الشهر الماضي، إذ يذهب الكتاب إلى أن اليساريين لا يستحقون مكانة البشر، لأنهم مثلما يقول العنوان ليسوا بشراً، ولأنهم يخوضون حرباً سرية ضد كل ما هو خير ولائق، وأن هذه الحرب ستنتهي بمجزرة قيامية إذا لم يتم إيقافهم، ولأنهم مثلما يقول مؤلفا الكتاب يعارضون الإنسانية نفسها، فهم يضعون أنفسهم خارج فئة البشر، في فئة فرعية جديدة تماماً اسمها هو اللابشر”.
ويرى المؤلفان أن التقدمية بشتى أشكالها “هي التجسيد الأحدث لشر عتيق يرجع إلى أواخر عصر الجمهورية الرومانية واستمر في الثورة الفرنسية وفي الشيوعية وصولاً إلى يومنا هذا. وكثيراً ما يكون ’عظماء المقدرة من الرجال’ مطالبين بسحق هذه الآفة. ولا يخفى في كتاب اللابشر ازدراء الديمقراطية، إذ يكتب بوسوبيك وليسيك أن “دراستنا للتاريخ قد انتهت بنا إلى هذه النتيجة وهي أن الديمقراطية لم تفلح قط في حماية الأبرياء من اللابشر”.
من أبطال الكتاب الديكتاتور الإسباني فرانشيسكو فرانكو الذي أطاح الجمهورية الإسبانية الثانية الديمقراطية خلال الحرب الأهلية في ثلاثينيات القرن الـ20، إذ يصفه الكاتبان بـ”أحد عظماء الرجال في التاريخ” ويقارنانه بجورج واشنطن. ويستشهدان بأقواله في ما لا يفلح عمله لمواجهة خطر غير البشر: “إننا لا نؤمن بالحكم من خلال صندوق الاقتراع. فلم يحدث قط أن تم التعبير بحرية عن الإرادة الوطنية الإسبانية من خلال صندوق الاقتراع”.
يواصل ترمب تبادل الاتهامات والملاسنات مع هاريس مع اقتراب الانتخابات الرئاسية
وترى غولدبرغ أن “مثل هذه الأفكار الاستبدادية ليست نادرة في زوايا الإنترنت الرجعية الرطبة، أو في أوساط نوع من الجماعات التي تزعمت تمرد السادس من يناير. وكتاب ’اللابشر’ يمتدح أوغست بينوشيه زعيم المجلس العسكري التشيلي الذي قاد انقلاباً على سلفادور أليندي وحكومته المنتخبة عام 1973 فكان ذلك فاتحة عهد من التعذيب والقمع تضمن فضلاً عن ذلك إلقاء الخصوم السياسيين من طائرات الهليكوبتر”. وأضافت “كانت الصور المستوحاة من طائرات بينوشيه الهليكوبتر شائعة ضمن حركة ’استعادة عظمة أميركاMAGA ’ على مدى سنين. ومثلما كتب المؤرخ ديفيد أوستن وولش العام الماضي، فإن في اليمين اتجاهاً قديماً يقدس فرانكو. ولكن غير المعتاد هو أن يتحالف مرشح لمنصب نائب الرئيس الأميركي علناً مع إرهاب استبدادي”. وتابعت “كتب فانس أول تقريظ يتصدر الغلاف الخارجي لكتاب ’غير البشر’، جاء فيه أنه ’في الماضي، كان الشيوعيون ينظمون مسيرات في الشوارع رافعين الرايات الحمراء. وهم اليوم ينظمون مسيراتهم في مكاتب الموارد البشرية والجامعات وقاعات المحاكم ملاحقين الخيرين والصادقين بالدعاوى القضائية’”. وأضاف أن “جاك بوسوبيك وجوشوا ليسيك يكشفان خططهما ويوضحان لنا ما يجب أن نفعله لمحاربتهم”.
ثمة تقريظات أخرى تأتي من تاكر كارلسون ودونالد ترمب جونيور وهو شخصية أساسية في حملة ترمب الرئاسية. أما تمهيد الكتاب فقد كتبه ستيفن بانون كبير المخططين الاستراتيجيين السابق في إدارة ترمب.
لا تستبعد غولدبرغ احتمال أن يكون فانس قد كتب تقريظه هذا للكتاب من دون أن يقرأه أصلاً فتقول إنه “وارد جداً أن يكون فانس قد امتدح ’اللابشر’ من دون أن يقرأه بالفعل، وهذا نهج غير معدوم المثال في صناعة النشر. ولكنه ما لم يتنكر للكتاب بصورة ذي صدقية، فعلينا أن نأخذ كلامه مأخذ الجد ونصدق أنه يؤمن بما فيه من تحليل. فلغة كتاب ’اللابشر’ ـ في نهاية المطاف ـ تتشابه في بعض المظاهر مع خطاب فانس نفسه”.
يكتب بوسوبيك وليسيك أن “الثورة المضادة الأميركية العظمى لإطاحة المثقفين الماركسيين لا بد أن تحدث في جميع مناحي المجتمع التي يشغلونها حالياً أو التي يسعون إلى الاستيلاء عليها”. ويضيفان أن “ذلك أمر يمكن تحقيقه لكن فقط من خلال عزيمة فرانكو ومن خلال مكارثي”، ويعنيان بهذا الأخير جوزيف مكارثي أحد أيقونات الكتاب، الذي يشتهر اسمه في التاريخ السياسي الأميركي المعاصر مرتبطاً بمحاكمات المكارثية السيئة السمعة في أواسط القرن الـ20.
تدعونا غولدبرغ إلى أن نقارن حديث بوسوبيك وليسيك عن الثورة على اليسار باتباع أساليب المكارثية والديكتاتورية “بما قاله فانس في بودكاست (جاك ميرفي لايف) اليميني المتطرف عام 2021 حينما ذهب إلى أن الجمهوريين عند توليهم السلطة ينبغي أن يقوموا بتطهير وإقصاء لخصومهم مثلما فعلت حكومة العراق يوماً في المنتمين إلى الحزب البعثي التابع لصدام حسين”.
قال فانس “إنني أميل إلى الاعتقاد بأننا ينبغي أن نستولي على مؤسسات اليسار وتحويلها ضده، ونحن في حاجة إلى ما يماثل برنامج القضاء على البعثية، ولكنه يستهدف القضاء على اليسار في الولايات المتحدة”. وذهب إلى “أننا لم نعد في حاجة بعد إلى جمهورية دستورية حقيقية”، قائلاً إنه لا ينبغي تقييد دونالد ترمب بأعراف الحكم الجمهوري، بل ينبغي “أن يقيل كل موظف حتى من المستوى المتوسط، وكل مسؤول في الخدمة المدنية في الدولة الإدارية، ويستبدل بهم رجالاً من رجالنا”. وفي حالة محاولة المحاكم اعتراض طريقه، ينبغي على ترمب “أن يقف أمام البلد وقفة أندرو جاكسن ويقول: ’ها هو رئيس المحكمة العليا قد أصدر حكمه، فليرنا الآن كيف سينفذه’”.
كتب جميل بوي (واشنطن بوست – الـ10 من أغسطس الجاري) أن فانس عندما طولب بإيضاح رؤيته للعالم أشار إلى رئيسه السابق بيتر ثيل وهو ملياردير ورأسمالي كتب بحماس ضد الديمقراطية (“لم أعد أومن أن الحرية والديمقراطية متناغمتان”)، وأشار إلى كيرتس يارفين وهو مطور البرمجيات الذي تحول إلى مدون ومحرض يؤمن بأن الولايات المتحدة ينبغي أن تتحول إلى الملكية (“لو أن الأميركيين يريدون تغيير حكمهم فعليهم أن يتخلصوا من خوفهم من الاستبداد”)، كما كتب لمناصرة استرقاق البشر (إذ كتب مرة أن العبودية “علاقة إنسانية طبيعية”)، وتساءل عما لو أن الفصل العنصري كان خيراً للأفارقة في جنوب أفريقيا، ثم ينقل جميل بوي عن فانس قوله في بودكاست عام 2021 “إننا في أواخر الحقبة الجمهورية… ولو أننا جادون في الضغط من أجل ذلك فعلينا أن نتصرف بحدة، ونمضي إلى ما هو بعيد، ونسلك اتجاهات لا يرتاح إليها كثير من المحافظين في الوقت الراهن”.
تكتب غولدبرغ “بوسعكم، بل يجدر بكم، أن تضحكوا من ميلودرامية فانس وإحساسه بأهميته، وانشغاله بالثانويات (ففي بودكاست جاك ميرفي يشير فانس باحترام إلى المدون اليميني كيرتس يارفين صاحب الشعبية في دوائر وادي السيليكون الرجعية الذي ينادي بإحلال نوع من الملكية التكنولوجية محل الديمقراطية). وإنه لأمر طيب أن يكون الديمقراطيون قد عثروا على كلمة ’الغريب’ ليصفوا بها هذا الجانب من الحزب الجمهوري، ولكن الرسم البياني يبدي تداخلاً كبيراً بين ’الغريب’ و’الخطر’”.
العنوان: Unhumans: The Secret History of Communist Revolutions (and How to Crush Them)
تأليف: Jack Posobiec – Joshua Lisec