حرية – (25/8/2024)
طارق فهمي
لا تتحرك الإدارة الأميركية في الإقليم إلا انطلاقاً من حسابات منضبطة، ومعايير محددة تعمل عليها، وهو ما يظهر في التحركات المتعددة التي يشهدها الشرق الأوسط من أجل رأب الصدع. التصعيد المتواصل بين إسرائيل وحركة «حماس» من جانب، وإيران و«حزب الله» من جانب آخر، يؤكد أن الإدارة الأميركية، وقبل أن تلملم أوراقها استعداداً لإجراء الانتخابات الرئاسية تعمل على حسابات منضبطة ومحددة، وهو ما برز في تحرك المرشح «الجمهوري» ترامب، وكذلك المرشحة «الديمقراطية» كامالا هاريس بكل تاريخها، خاصة أن الشرق الأوسط سيكون إحدى نقاط الحملة الانتخابية بصرف النظر عن مضمونها الرئيس والمركزي، ويدفع للتعامل، انطلاقاً من علاقات الولايات المتحدة بإسرائيل، وكيفية التعامل مع أي إدارة مقبلة، وهو ما يدفع المرشحين لمحاولة الحصول على الصوت الداعم، والذي لن يكون فقط من قبل «إيباك»، وإنما شرائح متعددة تشمل الجاليات العربية والإسلامية والملونين، بل وأصحاب الطبقات المتوسطة واتحادات المهن.
في هذا السباق العام، لا ينشغل المرشحون بالتفاصيل الراهنة الجارية في الشرق الأوسط من إبرام هدنة أو وقف إطلاق نار، أو الحديث عن سلام في الإقليم، فما تقوله المرشحة «هاريس» بكل تاريخها السياسي السابق في الحزب «الديمقراطي»، ما يؤهلها للتعامل في ظل ما يجري، وصولاً لتأييدها لخيار «حل الدولتين».
ولا يتحدث المرشح ترامب، انطلاقاً من خيارات نظرية، أو مقررات دولية سابقة، وبدلاً من ذلك يتحدث عن الأزمة انطلاقاً من أرض الواقع، بحثاً عن استراتيجية تفاعل يمكن أن تحقق لإسرائيل الكثير من المكاسب العليا أو الأمان السياسي الذي يتحدث عنه المرشح ترامب، الذي يتهم المرشحة المقبلة بالشيوعية، وأنها تخرج عن الإطار المتعارف عليه بل، وعدم إلمامها بتفاصيل السياسة الأميركية ليس في الشرق الأوسط، ولكن في مناطق الصراعات الكبرى.
ولهذا فإن ما يجري في الوقت الراهن من خطوات تدريجية بشأن الجهد المبذول من «الديمقراطيين»، وزيارات المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة للبحث عن تنفيذ الهدنة بالكامل ما قد يصب بالفعل لصالح الحزب «الديمقراطي»، والذي عقد مؤتمره الحزبي مؤخراً، وركزت فيه المرشحة «هاريس» على الألويات المطلوبة التي يمكن للولايات المتحدة التعامل معها في ظل المحددات الكبرى التي تحكم موقف الحزب ليس تجاه الشرق الأوسط، وإسرائيل فقط، بل تجاه الدول الكبرى ومناطق النفوذ، وفي هذا الإطار قد يكون من المهم التركيز على الحسابات التي تعمل عليها الإدارة الأميركية الراهنة، والتي تريد أن تهدأ المنطقة، قبل الذهاب إلى موعد الانتخابات، حيث التخوف من رد الفعل الإيراني، ومحاولات «حزب الله» تغيير قواعد التعامل من خلال تحركات مدروسة ومتدرجة، ما قد يؤدي لمزيد من الارتدادات على أمن الإقليم، وهو الأمر الذي لا تريده الولايات المتحدة في هذا التوقيت، تخوفاً من أن ينفتح المشهد على خيارات أخري تدفع الإدارة الأميركية للتورط في عمل عسكري.
وبرغم استمرار التعزيزات الأميركية إلا أنه ما يُفهم من رسائلها أنها للردع الاستباقي، وليس للدخول في مواجهات، وانما تعزيز القدرات الإسرائيلية. ومن ثم فإنه في سياق ما يجري من تطورات حقيقية تمس أمن الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن المرشحين، سواء كان ترامب أو هاريس فإنهما يعملان في دائرة محددة ومنضبطة، ولا يمكن التخلي عن محددات الموقف الأميركي تجاه أمن الإقليم، خاصة أن تنفيذ أي اتفاق في الشرق الأوسط يشمل إسرائيل و«حماس» سيأخذ مزيداً من الوقت، والمتابعة بل، ومراقبة ما يجري أميركياً بصرف النظر عن حدث الانتخابات، فالمرشح ترامب ليس لديه رؤية كاملة لما يجري، ولن يعود إلى صفقة القرن، كما يتوهم بعضهم، بل سيعمل في مساحات ممتدة داعماً الجانب الإسرائيلي، وتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية وأقصى ما يمكن أن يطرحه حكم ذاتي أو إدارة فلسطينية للأراضي تنضم لاحقاً في اتحاد كونفدرإلى مع الأردن.
وتتحدث المرشحة هاريس عن وقائع تاريخية وخيار حل الدولتين بالتراضي، وأمن الإقليم، والعودة إلى اتفاق الإطار مع إيران بمقاربة مختلفة، ما يؤكد أن المرشحيْن سيتعاملان مع القضايا الأمنية والسياسية، انطلاقاً من مناخ دولي وإقليمي متغير، وهو ما برز في جملة ما تم طرحه على الجانبين في المجمعات الانتخابية مؤخراً، وقد يدفع الوسيط الأميركي الراهن للتفاعل والتحرك في أتون ما يجري في الشرق الأوسط، ويتطلب تحقيق اختراق حقيقي، وهو ما تدركه الأطراف الوسيطة، والتي لا تريد التعامل من زاوية وقف إطلاق النار في غزة والتهدئة ما قد يجري من إيران ووكلائها في الإقليم.
وفي كل الأحوال، فإن الوسيط الأميركي في الشرق الأوسط بحاجة إلى أن يعيد ترتيب أوراقه وأولوياته، تماشياً مع ما يجري في الساحة الانتخابية في الولايات المتحدة والانتقال من المقاربة العامة للاشتباك مع الأطراف المعوقة للتهدئة، بصرف النظر عما يجري من تطورات قد تعصف باستقرار الإقليم، وتدفع لخيارات بديلة ربما تكون أكثر خطورة، بل وتتجاوز الإطار التقليدي الذي يدير المعركة الانتخابية وخصوصية الشرق الأوسط فيما يجري خاصة، وأن كل السيناريوهات ورادة في ما يجري، وتتطلب تفاعلاً حقيقياً في المشهد وليس إداراته، انطلاقاً من واقع سياسي وأمني ما زال يتشكل، وقد تتضرر من خلاله المصالح الأميركية.
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.